ذهل الرجل. أقبل نحوها ملبيا في أدب، ومتأثرا غاية التأثر بمظهرها الأنيق الفاخر، ثم قال: أفندم؟
مضت إلى ركن المقهى الأقصى فتبعها على الفور. شدت إليها الأبصار. خمن حسني حجازي ما وراء مجيئها بفزع. وتذكر وهو يختنق أنها استدلت على المكان بإرشاداته التي وردت ضمن حديثه بلا قصد. إنه محور الرحى التي تطحن مجموعة من البشر لم يكن لها طيلة حياته إلا المودة. وثمة شر يوشك أن يحيق بالجميع، ولكن بأي حكمة يمكن دفعه؟ التدخل من ناحيته يعني افتضاح أمره، وسيؤدي في النهاية إلى هتك الستر عن البيت السحري، ولكن ينتفي الخطر إذا التزم بموقف المشاهد، وتملص من الشلل أو هكذا خيل إليه. فتح فاه، وقال محذرا: إنها امرأة مجنونة ومخمورة!
ولكن أحدا لم يسمعه. لم يخرج الصوت من فيه. خذلته قواه فاحتواه العجز. لم تتحول عيناه عنهما. أرهف السمع، ولكنه لم يسمع حرفا مما يقال. المرأة تهمس والرجل يصغي باهتمام شديد. وعشماوي ينظر ويصغي، ولكن دون جدوى. وتأرجح المجلس بحسني حجازي وغاص في باطن الأرض. وطار عشه السحري في الهواء على أجنحة الزبانية. ركز بصره على وجه عم عبده بدران. ها هو يصغي وتتحرك شفتاه أحيانا. وها هي نظرته الثقيلة تزداد قتامة. ها هو يقطب ويجتاح وجهه موجة سوداء. تراجع رأسه إلى الوراء كأنما تلقى لكمة ثقيلة. سقطت السيجارة من يده. قدحت عيناه شررا. ندت عنه آهة ذبيحة محشرجة. ترنح كالثمل. وفجأة انقض على المرأة يقبض على عنقها بكلتا يديه، وشد عليها بكل قوته. وفزع حسني، فصاح: لا!
قام كالمجنون، فارتطمت ركبته بالنارجيلة، فألقت بها على الأرض، وقام عشماوي وهو يتساءل: ماذا جرى!
هرعا نحو الرجل، وحسني يتوسل إليه: انتبه لنفسك يا عم عبده!
ولكن الرجل لم يفك قبضتيه الفولاذيتين، حتى كانت المرأة جثة هامدة.
41 - هل خنقت هذه المرأة؟ - نعم. - لماذا خنقتها؟ - ... - لماذا خنقتها؟ - ... - ما علاقتك بها؟ - لا أعرفها. - أتقول إنك لا تعرفها؟ - لم أرها قبل هذه الساعة المشئومة. - فلماذا خنقتها؟ - ... - خنقتها بلا سبب؟ - ... - ماذا قالت لك؟ - ... - الصمت معناه أنك تجود بعنقك لحبل المشنقة. - ...
وأصر عم عبده بدران على الصمت.
ومن خلال شهادة عشماوي تجسدت صورة لظهور سمراء المفاجئ. وتطلعها إلى عم عبده بدران، وهي تتساءل: «عم عبده بدران؟» وقول الأستاذ حسني حجازي: «غير معقول»، ثم ذهاب المرأة وعم عبده إلى الركن الأقصى، وحديثهما الذي لم يسمع منه حرف، ثم الجريمة التي لم يستطع منعها أحد. - أنادت عم عبده أم تساءلت عنه؟ - نظرت إليه، وتساءلت: «عم عبده بدران؟» - إذن فلم تكن تعرفه؟ - هو ذلك والله أعلم. - أليس لديك فكرة عن كيفية مجيئها إليه؟ - كلا. - ولا عما دار بينهما من حديث؟ - لم أسمع حرفا. - ما مدى علمك عن علاقات صاحبك بالنساء؟ - أستغفر الله، إنه رجل طيب محمود السيرة ومسكين! - كيف تفسر ارتكابه للجريمة؟ - لا أدري، إنه لم يقتل دجاجة في حياته، والعلم عند الله. - لم قال الأستاذ حسني حجازي «غير معقول»؟ - لا أدري، ولكن مجيء امرأة جميلة إلى «الانشراح» بعد منتصف الليل أمر غير معقول. - لعله كان يعرفها من قبل؟ - لم يتبادلا كلمة واحدة، والعلم عند ربك.
ولم تأت شهادة الأستاذ حسني حجازي بجديد عن مضمون الحادثة. وقد سأله المحقق: لم قلت «غير معقول»؟ - كان مجيئها إلى الانشراح في تلك الساعة غير معقول. - ألم ترها من قبل؟ - بلى، أعرفها معرفة عامة، فهي صاحبة محل تجاري في الشارع الذي أسكن فيه. - هل لك أن تحدد لي نوع معرفتك بها؟ - معرفة عابرة ليس إلا. - ولكنكما لم تتبادلا ولا تحية عابرة؟ - توقعت ذلك، ولكنها تجاهلتني تماما. - ما تفسير ذلك في نظرك؟ - لعلها كانت مستغرقة بالمهمة التي ساقتها إلى المقهى. - وماذا تعرف عما كان بينها وبين عم عبده؟ - لا شيء البتة. - وماذا دار بينهما؟ - لم أسمع حرفا. - ما تفسيرك للجريمة؟ - إنها مذهلة، ولا تفسير لها عندي. - ما هي معلوماتك عن القتيل؟ - لا علم لي بدخائلها؟ - ما تفسيرك لصمت المتهم؟ - إنه لغز ولا تفسير له عندي.
صفحه نامشخص