وإذ استنشدت الحضري شيئا من مختاره في النسيب، فقلما ينشدك غير قول ابن الفارض:
وإذا اكتفى غيري بطيف خياله
فأنا الذي بوصاله لا أكتفي
وذلك لما يختلف الفريقان في فهم معنى السعادة في الحب، فهي عند الأعراب لا تعدو مسامرة الأماني، ومسايرة الأحبة، وعند أهل الحضر: كل ما أمتع العين وال ... إلى غير ذلك مما يشتهون.
وإذا كان المال - وهو من معبودات الحضريين - يطلب بعضه للادخار وبعضه للإنفاق، فإن الجمال عندهم كذلك - إلا من عصم الله - فهم يعجبون بالعيون الكحيلة، والشعور المرسلة؛ ليمتعوا عيونهم بالنظر إليها وأفئدتهم بالتفكير فيها ، ثم لا تسأل بعد ذلك عن رأيهم في بقية المحاسن، فعهدي بهم يرجون الخد للتقبيل، والريق للارتشاف، وهكذا حتى يصل بهم الطمع إلى ما ترغب النفس عن ذكره، والتأمل في جدواه.
الحسن عند الحضريين أشبه شيء بجنة وردها جني، وزهرها ندي، يدخلها الزائر فلا يعجب منها بزهرة ذات بهجة، أو وردة ذات نضرة، إلا دعته أخرى أنضر منها وأصبح.
فإذا ذهب إليها يجتلي حسنها، ويتأمل شكلها، لفتت نظره ثالثة ورابعة، حتى يتصفح الحديقة بأكملها، ويقتلها نظرا وشما، والمرء يكلف بالحسن، ويغرم بالجمال.
فإذا عاد إلى قلبه، ورجع إلى نفسه؛ ليعرف أيها أعلق بخاطره، وأملك لوجدانه، حسبها هذه بل تلك، ثم يختلط عليه الأمر، فلا يدري أيها أحق بالرعاية، وأولى بالاحتفاظ، فينصرف وقلبه مسرور من البستان في جملته، غير مغرم بزهرة معينة من زهوره الحسان.
وكذلك يمشي الحضري في متنزهات الحواضر، فيرى من شتى الألوان في الحسن، ومختلف الأشكال في الملاحة، ما يملأ عينه، ويبهر قلبه، ثم يأوي إلى بيته خليا من الهوى بريئا من الصبابة، كأن لم يسمع وسواس الحلي، ولم ير لألاء الجبين.
وهب أن بين أولئك الفاتنات، من غلبت على قلبه، واستولت على لبه، أتراه يسلم في أيامه البواقي، من غادة أملح شكلا، وأحلى دلا، فتملك من بعدها قلبه، وتنفرد من دونها بهواه، وهو للحسن تبوع؟
صفحه نامشخص