إذا جعل اللحظ الخفي كلامه
جعلت له عيني لتفهمه أذنا
وإنما قدمت للقارئ هذه الشواهد من زهر الآداب؛ ليرى كيف فعل أحد المؤلفين المتحرجين الذين يفرقون بين ما يباح وما لا يباح، وها نحن أولاء نرى ذلك المؤلف لا يستطيع الصبر على تقييد الأدب بما تتأثر به الأذواق من الأوضاع والتقاليد، ولقد ذكرني ذلك باللوحات التي يراها الناظرون في حديقة لكسمبور وغابة بولونيا في باريس، ففي كل ركن لوحة فيها إنذار بالطرد لكل من يخرج على حدود الأدب والاحتشام، وفي كل مكان من تلك الملاعب قد يضم، وثغر يرشف، وحمى يباح! •••
وقد جاء في خطبة الأستاذ توفيق دياب أن الأدب لا يراد لذاته، وإنما هو وسيلة إلى الأخلاق، وأذكر أنه قال في شيء من الانفعال: فليسقط الأدب إن أضر بالأخلاق، ويغلب على ظني أن الأستاذ دياب لم يقل العبارة الأخيرة إلا مبالغة في الدفاع عن رأيه والدعوة إليه؛ لذلك أرجو أن يرى معنا أنه لا غنى للأمم الحية عن الآداب والفنون، بغض النظر عن قربها أو بعدها من الأخلاق، فلننظر معا برفق وبإخلاص إلى تأثير الدين والأخلاق في إخماد الآداب والفنون:
لا ينكر أحد، ولو أسرف في التكلف، أن تحريم الإسلام للتصوير جنى على الشعوب الإسلامية جناية عظيمة، وعطل مواهبها الفنية، وحشرها في زمرة المتخلفين عن فهم أسرار الجمال، ولا ينكر أحد، ولو أمعن في التعصب، أن تحطيم العرب للأنصاب والتماثيل التي كانت تفصح وتبين عن أساطير الأولين، إنما كان أثرا للتحرج الذي دعاهم إليه الدين، ولولا بقية من سلامة الذوق وصبابة من صدق الحس لما رأينا في الشعوب الإسلامية ميلا إلى روعة الفن، ولا كلفا بآثار المبدعين.
وسيسأل القارئ: وما الذي خسرناه بانصراف المسلمين عن النحت والتصوير؟ ونجيبه بأننا حرمنا بذلك من الوقوف على ميولهم وغرائزهم وسجاياهم، فلو تركهم الدين أحرارا في شرح ألوان حياتهم لرأينا كيف كانوا يلعبون وكيف كانوا يجدون، وكيف كانت تجيش بصدورهم هواجس المنى ونوازع الآمال، ولكنه قيدهم فلم يتركوا لنا إلا آثارا ضئيلة لا تكفي في كشف ما كانوا يضمرون.
ولقد أبيح لهم في سبيل الترغيب والترهيب أن «يتكلموا» عن نعيم الجنة وعذاب السعير، فتركوا لنا طائفة من الأماني والمخاوف تمثل ما كانوا يرجون ويرهبون، فعرفنا مثلا أنهم بحكم مركزهم الجغرافي الأول، قبل أن يخرجوا من جزيرة العرب كانوا من آلام الظمأ والجوع في كرب عظيم، ألا ترى كيف يذكرون أن أول ما ينعم به أهل الجنة هو الكوثر، والكوثر نهر عذب ينهل منه الوارد نهلة، فلا يظمأ بعدها أبدا، وعبارة «لا يظمأ بعدها أبدا» تمثل أقصى ما يتمناه البدوي في الصحراء، وقد لفحته السموم وصهرته الرمضاء، ولك أن تقول مثل ذلك فيما تحدثوا به عن عذاب القبر؛ إذ تراهم يتصورون المذنب، وقد أحدقت به الحيات والثعابين، وإنه لدليل على ما كانوا يقاسون في البادية من عنت الأفاعي والصلال.
افهم هذا أيها القارئ واستغفر الله لي ولك، فإن مناهج البحث الحديث لا تسمح بالوقوف عند معاني الحروف كما كان يفعل المتقدمون!
ولو عدنا إلى الشعر لرأينا أثر المتزمتين في إخماده كان غاية في الشناعة والقبح، فقد عرض النبي بالشعر وهاجم الشعراء متأثرا بعداوة من عاداه من شعراء قريش وشعراء اليهود، فكان من ذلك أن أسرف جمهور المسلمين في بغض الشعر والنيل من الشعراء، وقد سئل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أتقول الشعر في فقهك وورعك؟ فأجاب: لا بد للمصدور أن ينفث! وهذا الفقيه هو صاحب هذه الأبيات الرائعة:
شققت القلب ثم ذررت فيه
صفحه نامشخص