حين تقلبت في نومها علقت ذرات النفط بأذنيها، وحول العينين، التصقت ذرة في الزاوية فأزالتها بطرف أصبعها، مدت ذراعها في الظلمة تبحث عن الزجاجة، لم تكن هناك، كان الرجل راقدا وجهه للحائط وظهره ناحيتها، بدا ظهره أقل إيلاما من وجهه، وأصبح الأمر محتملا بعض الشيء، لكن الليل طويل لا يريد أن ينتهي، والأرق كالمطرقة تدق في الرأس، ربطت المنديل وعقدته فوق جبينها كما كانت ترى خالتها تفعل، أغمضت عينيها وجعلت أنفاسها منتظمة، ثنت ركبتيها وتكورت حول نفسها كالجنين، حاولت أن تتذكر وجه أمها قبل أن تلدها، تتبعت الطريق الذي مشت فيه كل يوم من البيت للمدرسة، كان هناك شجرة ونهر طويل، رأت مكانها المعتاد فوق الجسر حين كانت تجلس ساعة الغروب، وتنتظر ظهور الأضواء، راحت تعدد أسماء النجوم، بدأت بزحل والمشتري وانتهت بالزهرة والمجرة، حاولت أن تعد على أصابعها أسماء الإلهات القديمات، بدأت بنون ونمو وانتهت بنوت وسخمت.
لكن الأرق لم يفارقها، ظل كالمطرقة بدق رأسها، حركت عينيها ناحية الرجل، رأته يغطي وجهه بالصحيفة، كان لا يزال نائما أو ربما كان يقرأ الأخبار ثم نام وهو يقرأ، أنفاسه منتظمة كالشخير، خشخشة الورق تحت ضربات الريح، ونباح الكلاب من بعيد، ولهاث النسوة، أعناقهن تطقطق تحت البراميل، لكن هدير الشلال المتدفق يكتسح كل الأصوات، والأوراق كالشاكوش يدق رأسها، والساعة فوق معصمها تدق، والدقات تحت ضلوعها، وأنفاسها، كلها تدق في أذنيها.
أطبقت جفونها في محاولة أخيرة للنوم، لكن ما إن فقدت الرؤية حتى سقطت فيما يشبه البئر، وكل الأصوات توقفت، تجمد الزمن، لم تعد الساعة فوق معصمها تصدر أي صوت، زحفت ذرات النفط تحت القرص وغطت العقربين، عقرب الثواني أيضا كف عن الحركة، لم يكن شيء يتحرك إلا أوراق الصحيفة تنقلب وحدها تحت حركة الهواء، تكشف كل صفحة عن عناوين بالخط الأحمر والأسود. «صاحب الجلالة يتبرع بثلاثة ملايين دولار لحديقة الحيوان في القطب الشمالي.» «قتل نصف مليون في حرب النفط.» «حرم صاحب الجلالة توزع الحلوى في عيد الطفولة.» «إطلاق الرصاص على امرأة ضبطت في الشارع وهي تمشي بوجه مكشوف.» «بيع الديون الخارجية بالمزاد.» «وزير النفط يحصل على رشوة أكبر من ميزانية الدفاع.» «بيع المخدرات في فصول المدارس.» «انتشار فيروس الإيدز بين الأطفال.» «من الإلحاد إلى الإيمان ومن الشك إلى اليقين، بقلم رئيس الصحوة الدينية ورئيس الحزب الشيوعي سابقا.» «مصرع ثلاثة من النسوة في الطابور أمام المخبز.» «ثمانية رجال يغتصبون طفلة في المدرسة.» «أم تذبح أطفالها الأربعة في عيد الأم ثم تنتحر.» «رجل مفقود يعود بعد سبع سنوات فلا يجد زوجته، مطلوب العثور عليها حية أو ميتة، ممنوع إيواؤها أو التستر عليها.» «معلومات جديدة يحصل عليها البوليس عن المرأة التي خرجت في إجازة، كانت المرأة شديدة الشغف بالبحث عن الموميات كنوع من الترفيه.»
مضى الوقت وهي تحملق في كلمة «الترفيه»، لا بد أن النوم غلبها لأن عقلها كان متوقفا، الترفيه، لم تعرف معنى الكلمة، والشمس بدأت تصعد، ربما خرج الرجل إلى الشركة، وحاملات البراميل ليس لهن صوت، نهضت على أطراف أصابعها، زحفت يدها تحت الفراش وأخرجت الحذاء، كان مملوءا بالنفط حتى الحافة، أفرغته ونفضت كل فردة بالأخرى، وضعت الإزميل في الحقيبة، والخريطة، علقت الحزام فوق كتفها، وانطلقت قبل أن تلحظها عين، أغلقت جفونها وهي تجري، كأنما إغماض عينيها يخفيها عن الأعين.
كان الخلاص يبدو وشيكا، والهروب أكثر يسرا لو أنها استمرت في عدم الرؤية، لكن فكرة جديدة طرأت على عقلها، يمكنها أن تخفي وجهها عن الأنظار تماما، دون أن يتعرف على وجهها أحد، من حق المرأة أن تخفي وجهها بالكامل دون أن يطاردها أحد.
لكن الأمر في حالتها كان مختلفا، فهي امرأة مكشوفة الوجه، الصحيفة نشرت صورتها واسمها الثلاثي وعنوانها، غرفتها أيضا ظهرت في الصورة، والسرير الخشبي الساقط الألواح، واللمبة المتهالكة فوق مكتب يعلوه الغبار، وكتاب مفتوح تطل منه رأس مومياء، ودرج في المكتب به بعض قطع النقود، ودفتر توفير في البنك بلا رصيد، ثم هناك ذلك الحبل المتدلي من السقف، كأنما جاهز للالتفاف حول العنق، والذباب الميت الملتصق به، وفي نهايته اللمبة المحروقة، ثم الصمت، أجل الصمت الذي يصفر في الأذنين كالريح، أو ذلك الشخير المعتاد لرجل يغط في النوم.
كان زوجا مثاليا يوفر لها السكينة، وكل شيء يشير إلى رغبته الصادقة في استمرار الزواج.
قالها رجل البوليس وهو يدور بالكرسي، يهز يده في الهواء ممسكا بهراوة طويلة، أشار بها إلى المكتب. - لا شيء يثير الاشتباه إلا رأس المومياء، هذي! أتعرف رأس من هذه؟! - رأس أم الهول.
كان رئيسها في العمل يرد بصوت مملوء بالثقة، فيضغط على كلمة «أم الهول» بفكيه وأسنانه، ثم ينفث الدخان في السقف، والغليون بين شفتيه، رمق رجل البوليس بطرف عينه، وراح يؤكد بصوت عال: نعم أم الهول. - أم الهول؟ لم نسمع بها من قبل؟ - عدم السماع بها لا يعني عدم وجودها. - أهي زوجة أبو الهول؟
لم يعد رجل البوليس مستقرا في الكرسي، يدور به حول نفسه والهراوة في يده، رفع ذراعه وكادت تهبط فوق رأس أم الهول، لكن رئيسها في العمل كان جالسا مستقرا، ينفث الدخان من فتحات أنفه وفمه، أذناه أيضا خرج منهما الدخان ، الغليون الأسود يلتوي إلى الأمام بزاوية حادة، وعنقه أيضا يلتوي بالزاوية نفسها، عيناه إلى أعلى نصف مفتوحتين، يرمق رجل البوليس بطرف عين. - بعد أن اغتصب أبو الهول العرش أمر بإزالة النهدين من التمثال، وإضافة اللحية. - اللحية؟! - نعم، لحية مستعارة، انظر!
صفحه نامشخص