وكانت الأندلس دولة واحدة في عصر خلفائها الأمويين، ثم تمزقت الدولة فصارت دويلات صغيرة، على كل منها ملك أو أمير، لا يفتأ في شجار ونزاع مع جيرانه. وقد تتجزأ الدويلة عند موته إمارات صغيرة، يستبد على كل منها أمير، ينعت نفسه بنعوت الملك والإمارة، حتى قال أحد شعراء الأندلس يصف هذه الدويلات:
مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب معتضد فيها ومعتمد
أسماء مملكة في غير موضعها
كالقط يحكي انتفاخا صولة الأسد
ففي هذا الزمن نشأ رجل يدعى أبا الوليد أحمد ... بن زيدون، ولد بقرطبة سنة 394ه وترقى بإشبيلية سنة 463ه. وقد اشتهر بحبه لامرأة تدعى ولادة، من نسل الخلفاء الأمويين. وكان كلاهما أديبا، فكانا يتراسلان، ويؤلفان قصائد الغزل، ويجتمعان سرا وعلانية.
قال ابن نباتة عن ابن زيدون: «كان من أبناء الفقهاء المتعينين، واشتغل بالأدب ، وفحص عن نكته، ونقب عن دقائقه، إلى أن برع، وبلغ من صناعتي النظم والنثر المبلغ الطائل. وانقطع إلى أبي الوليد بن جهور أحد ملوك الطوائف المتغلبين بالأندلس، فخف عليه وتمكن من دولته، واشتهر ذكره وقدره، واعتمد عليه في السفارة بينه وبين ملوك الأندلس، فأعجب به القوم وتمنوا ميله إليهم، لبراعته وحسن سيرته. واتفق أن ابن جهور نقم منه أمرا فحبسه، واستعطفه ابن زيدون برسائل عجيبة وقصائد بديعة، فلم تنجح، فهرب واتصل بعباد بن محمد صاحب إشبيلية الملقب بالمعتضد، فتلقاه بالقبول والإكرام، وولاه وزارته، وفوض إليه أمر مملكته. وكان حسن التسيير، تام الفضل محببا إلى الناس، فصيح المنطق جدا.»
وقال عن ولادة: «كانت بقرطبة امرأة ظريفة من بنات خلفاء العرب الأمويين المنسوبين إلى عبد الرحمن بن الحكم المعروف بالداخل من بني عبد الملك بن مروان، تسمى ولادة ... ابتذل حجابها بعد نكبة أبيها وقتله، وتغلب ملوك الطوائف، ثم صارت تجلس للشعراء والكتاب، وتعاشرهم وتحاضرهم، ويتعشقها الكبراء منهم. وكانت ذات خلق جميل، وأدب غض، ونوادر عجيبة، ونظم جيد.»
واتصل الحب بين ابن زيدون وولادة، وكان كل منهما ينظم القصائد ويتغزل بصاحبه، فمن ذلك ما قالته ولادة فيه:
ترقب إذا جن الظلام زيارتي
صفحه نامشخص