كانت «سيكي» فتاة في ميعة الصبا ونضارة الشباب يزينها جمال فاتن وطلعة مشرقة بهية، قد أثمر صدرها ثمر الشباب، وأثمر خدها التفاح الوردي، وصدرها الرمان الجاثم. لحظاتها فتاكة وقسماتها رائعة، لها وجه تأخذه العين ويقبل عليه القلب، ترتاح له الروح، وتكاد القلوب تأكله والعيون تنهشه. صورته تجلو الأبصار وتخجل الأقمار، كأنه إشراقة الصبح أو صفحة البدر. فتعلقت بجمالها عيون الشباب الولهان كلما أقبلت أو أدبرت، وبحت في طلب يدها حناجر الرجال. كل يريد أن يستأثر لنفسه بروضة الحسن وربة الفتنة والدلال. فحيثما ذهبت تجر وراءها جيشا من العشاق المتيمين، وأينما وجدت تتطلع إليها آلاف العيون وتجرح بسهام لحاظها مئات القلوب. فأذكى هذا نيران الغيرة في قلب «فينوس» ربة الحب، فغلى مرجل الحقد في صدرها وألهب فؤادها؛ فأضمرت السوء ل «سيكي» وصممت في نفسها أمرا.
استدعت «فينوس» ابنها «كيوبيد» وأمرته أن يوقع «سيكي» في حب رخيص مع أحقر الرجال وأوضعهم شأنا. بيد أن «كيوبيد» لما رأى «سيكي» هاله أن يرى مطلع الشمس من وجهها ومنبت الدر من فيها وملقط الورد من خدها، ومنبع السحر من طرفها، ودجى الليل من شعرها، ومغرس الغصن من قدمها، ومهيل الرمل من ردفها. فاشتعل قلبه بحبها وهامت نفسه بها، واخترقت لحاظها فؤاده؛ فأصبح أسير هواها وعبد غرامها، وأحس بشوق جارف يسري بين أحنائه ويدفعه إلى التقرب منها والتحدث إليها.
وهكذا وقع «كيوبيد» في غرام «سيكي»، فأحبها حبا عنيفا تحكم في نفسه، وملأ عليه يقظته وأحلامه. فكان يزورها ليلا متخذا من الظلام ستارا يحجبه عن أعين الفضوليين الحاسدين، وعن عيني «سيكي» نفسها، ولا يبرح مخدعها إلا إذا شق الفجر بخنجره الفضي حجاب الظلام، ولاحت في الأفق تباشير الصباح.
لم يعلم أحد بهذا الحب المستتر والغرام السري، غير أخوات «سيكي»، فضايقهن ما تتمتع به شقيقتهن من نعيم وهناء وحسدنها على حبيبها الذي يترقرق ماء الحسن من وجهه، وينبعث السحر من لحاظه، والشهد من ألفاظه.
حسدا حملنه من أجلها
وقديما كان في الناس الحسد
فاجتمعن وتباحثن في أمرها، وأخيرا بعد أخذ ورد، قر قرارهن على الكيد لها والإيقاع بها، وتآمرن على سلبها حبيبها أو تنفيره منها بمختلف الطرق وشتى الوسائل، فدبرن لها أمرا.
تظاهرت الأخوات الماكرات بحب شقيقتهن المعشوقة، وأعملن جهدهن في التودد إليها والتقرب منها حتى مالت إليهن واطمأن قلبها لهن، وتوطدت بينهن أواصر المحبة الأخوية من جديد. وذات صباح، أخذت الأخوات يحدثن «سيكي» عن حبيبها المجهول، وينفرنها منه، ويصفنه بأخس الصفات، حتى أوهموها وأدخلوا في روعها أنها تضطجع مع وحش كاسر غليظ الوجه، قبيح الملامح دميم الخلقة، شرس الطباع، تعافه النفس وتشمئز منه العين.
أثرت هذه الكلمات والأقوال في «سيكي» المسكينة، وأثارت فضولها. فلما أقبل الليل ونشر زنجي الظلام أجنحته القاتمة على الكون، أويت إلى خدرها وقد وطدت العزم على استجلاء الحقيقة.
وقبل أن يجر الظلام أذياله، ويمسح النهار وجه الفجر، ويهجر «كيوبيد» مخدع معشوقته، تسللت «سيكي» في حذر من بين أحضان «كيوبيد» النائم، وأحضرت السراج قريبا من المخدع وأشعلته في هدوء. فما إن وقع بصرها على وجه حبيبها حتى صعقها جماله الخارق وأذهلها بهاؤه الفذ، فاهتز المصباح في يدها وسقط زيته الساخن على جسد «كيوبيد»، فهب من نومه مذعورا وقد أفزعته محاولة «سيكي»، وآلمه شكها وريبتها في شخصه، وأغضبها فضولها النسوي، فاشتد حنقه عليها وأقسم بأغلظ الأيمان ليهجرنها بلا عودة، وليقطعن صلته بها أبد الدهر.
صفحه نامشخص