الحب الضائع
1
ما أكثر ما أعجب من نفسي! وما أسرع ما يستحيل هذا العجب إلى سخرية منها أول الأمر، ثم إلى رثاء لها وعطف عليها! لا يعرض لي شيء غريب أو مألوف إلا حاولت أن أتبين أصله وأرده إلى علته. وقد أبلغ من ذلك ما أريد فأرضى؛ وهذا نادر، وقد أعجز عن التعليل والتأويل فأسخط؛ وهذا كثير. وأنا على كل حال ساخرة من نفسي لهذا المرض الذي لا أجد منه برءا؛ مرض التماس العلة والانتهاء إلى المصادر والأسباب.
والناس يقولون: إننا - نحن الفرنسيين - أمة مريضة بالتعليل والتحليل، وإن فيلسوفنا ديكارت قد أفسد علينا عقولنا لكثرة ما ألح علينا في أن نحلل ونعلل، ولشدة ما فتنا بتحليله وتعليله حتى أصبحنا جميعا فلاسفة أو كالفلاسفة، وحتى اتخذ العالم منا والجاهل، والمثقف منا والساذج، طور الفيلسوف الذي لا يرضى ولا يطمئن إلا إذا رد كل شيء إلى أصله، ووجد له تفسيرا أو تأويلا.
وأكبر الظن أن هذا حق؛ فإننا - نحن الفرنسيين - حين تعرض لنا المشكلات أو تلم بنا الأحداث لا نعنى بحل المشكلات ولا بالتخلص من الأحداث، وإنما نعنى قبل كل شيء بتفسيرها وتأويلها، فإذا وصلنا من ذلك إلى ما نريد رضينا واطمأنت قلوبنا وأذعنا للقضاء، وقد يشغلنا هذا عن التماس المخرج مما يلم بنا من الخطوب أو يعرض لنا من الأزمات.
أنا إذن فرنسية من هؤلاء الفرنسيين، لم أبرأ من هذا المرض الفرنسي العام؛ مرض التأويل والتعليل، وأنا جادة الآن في البحث عن أصل هذا الخاطر الغريب الذي أجلسني إلى هذه المائدة ومد يدي إلى هذا القلم، ثم أخذ يجريها على القرطاس بهذا الكلام الذي أكتبه.
ذلك أني لم أكتب قط إلا ما تعود أمثالي أن يكتبن من هذه الكتب اليسيرة القصيرة، التي تتصل بين الصديقات حين يفترقن ويحرصن على أن تتصل بينهن المودة وتتصل بينهن المجاملة بنوع خاص، وتتصل بينهن بنوع أخص هذه الثرثرة التي لا يستطعن أن يخلصن منها أو يعرضن عنها.
لم أكتب قط إلا هذه الكتب القصار إلى الصديقات حينا، وإلى أبوي وإخوتي حين كنت بعيدة عن الأسرة، رهينة لذلك السجن الذي اضطررت إليه ثمانية أعوام، والذي نسميه المدرسة. وأنا الآن جالسة إلى هذه المائدة، مجرية قلمي على هذا القرطاس، لا لأكتب كتابا إلى صديقة، ولا لأكتب كتابا إلى أحد من أسرتي؛ فإني لا أفكر في أحد غير نفسي ولا أحب أن يقرأ أحد شيئا مما أكتبه الآن ومما سأكتبه فيما سيتصل من أيام. فإني لم أجلس للكتابة إلا وأنا مقدرة أنها ستتصل. وأنا أبحث عن هذا الخاطر الغريب الذي دفعني إلى هذا النحو من التفكير والكتابة، فلا أكاد أهتدي إليه.
أنا أذكر أن ثلاثا من أترابي قد زرنني منذ أيام فخضنا في أحاديث مختلفة، وذكرت كل واحدة منهن كثيرا من شئونها الظاهرة والمستورة، وتحدثت كل واحدة منهن بما تسر بين حين وحين إلى دفترها حين تخلو إلى نفسها وتأوي إلى غرفتها بعد أن يتقدم الليل. وأذكر أني سمعت أحاديثهن فعجبت لها وأعجبت بها، ولم أستطع أن أشارك فيها؛ لأني لا أسر إلى دفتري شيئا إذا آويت إلى غرفتي بعد أن يتقدم الليل، بل لأني لم أتخذ قط لنفسي دفترا أسر إليه أحاديث نفسي، وآمنه عليها، وأستعين به على ما قد يضيق به صدري من الخواطر والهموم، أو على ما تفيض به نفسي أحيانا من ألوان الغبطة والابتهاج.
بل لم أفكر قط في شيء كهذا، وإنما آمنت دائما بأن سر النفس يفقد حرمته وطبيعته إذا تجاوز التفكير إلى طرف اللسان أو إلى طرف القلم. وأبيت دائما أن أشرك في أحاديث نفسي أحدا غيري، ويجب أن أعترف بأن أحاديث نفسي لم تكن ذات خطر، وبأنها لم تبلغ قط من القوة أن تشعرني بالحاجة إلى من يشاركني فيها أو يعينني عليها ، ولكن سمعت أحاديث الصديقات، ولا أدري لماذا أعجبتني أنباء هذه الدفاتر التي تؤتمن على الأسرار وتتلقى الأحاديث حين تأوي كل واحدة منهن إلى غرفتها بعد أن يتقدم الليل.
صفحه نامشخص