كل شيء إذن قد انقضى، واللقاء أبعد وأتعس من أشواق الشعراء المساكين. وإذا كان العاشق يتلفت بقلبه وعينيه إلى هناك حيث تقيم المحبوبة، فهو لا يستطيع أن يخدع قلبه ولا عينه عن بعد الشاطئ واستحالة اللقاء. ليقل إذن وداعا، ولتسقط الكلمة على أرض الواقع بعدما رنت في أنغام الشعر!
وهذا هو الذي حدث بالفعل!
فقد تم الوداع النهائي في شهر مايو سنة 1800م.
وحاول الحبيبان أن يؤجلا الفراق الأخير بالوهم والأمل، ولكنهما كانا يعلمان في قرارة نفسيهما أنه قدر لا مناص منه. ومع ذلك فهما يعلمان أيضا أن الفراق هو فراق الجسد، والحرمان هو حرمان العين أن ترى العين، واليد أن تسعد بلمس اليد، ولذلك فلا حيلة لهما إذا استمر القلب يحس بالقلب، وظلت الروح تهفو إلى الروح وتتشبث بأمل بعيد في مستقبل أبعد.
إن سوزيته تكتب إليه في إحدى رسائلها المتأخرة فتقول بعد أن استحكم اليأس من الحاضر، ولم يبق لأتقياء القلب إلا الثقة والانتظار: «عدني أنك لن ترجع مرة أخرى، وأنك سترحل من هنا بهدوء، لأنني إذا لم أعرف هذا فسوف أظل إلى الصباح ملازمة للنافذة وأنا في أفظع حالات القلق والتوتر، ولا مفر لنا في النهاية من أن نسترد الهدوء؛ لذلك دعنا نمض على طريقنا في ثقة واطمئنان، ولنحاول في صميم ألمنا أن نشعر بالسعادة، ولنتمن أن يدوم لنا هذا الألم طويلا طويلا لأننا نستمد منه إحساسنا بالنبل الكامل والقوة على احتمال قدرنا. وداعا! وداعا! ولتباركك السماء!»
واستجاب الشاعر لهذا الدعاء .. وبدأ يحس في نفسه قدرة جديدة على الرضا بالألم أو النظر إليه كقدر حقيقي لا مفر منه. ولذلك أصبح موقفه الجديد هو موقف التحمل والصمود، أي الانتقال إلى مرحلة أخرى من مراحل العذاب الهادئ الطويل، لا يستطيع الإنسان أن يبلغها حتى يصطدم كما قلت بآخر حدود الألم. هناك تسمو الذات فوق عذابها «الذاتي» وتتأمله كما يتأمل الخالق مخلوقه، في صمت وصبر وأسى لا يخلو من الشعور بالموت والفناء ...
وطبيعي أن يحلق الشاعر في مثل هذه المرحلة إلى أسمى ما يمكن أن يصل إليه جناحاه، وأن يبدع أبقى أعماله وأنقاها وأبعدها عن الشكوى والكآبة والأنين .. فقد وصل إلى مرحلة «موضوعية» - إن صح هذا التعبير - وانفصل عن ذاته أو ارتفع فوقها، وراح ينظر إليها من أعلى. وهل جوهر الفن إلا في هذا البعد أو الابتعاد عن موضوعه؟ وهل يستطيع الفنان أن يخلق فنا جديرا بهذا الاسم إذا ظل غارقا في حمى عواطفه وأشجانه وأحزانه؟ وهل يمكن أن يملك السخرية والدعابة الصافية، أو القدرة على التجربة المتجددة والرؤية الشاملة إذا لم يرتفع فوق مادته ليسيطر عليها لا لتسيطر عليه؟
لا أريد أن أستطرد في هذا الرأي الذي عبرت عنه في مجال آخر، وإنما أحب أن أنتقل منه إلى قصيدة أو بالأحرى «مرثية» من أجمل المرثيات التي كتبها هلدرلين وهو في قمة نضجه وشموخه بين سنتي 1799م و1800م. وعنوان المرثية نفسه وهو «نواح مينون على ديوتيما» يدل على روحها. فاسم «مينون» قد ورد كثيرا في التراث اليوناني، وهو بمعناه اللغوي يفيد الصبر والريث والتحمل والصمود. ولا بد أن نقف قليلا عند هذه القصيدة التي تحتل مكانة هامة في شعر هلدرلين وحياته على السواء، شأنها في هذا شأن المرثيات الأخرى الطويلة (كالخبز والنبيذ والعودة). ولن نستطيع بالطبع أن ننقل كل أبياتها،
10
بل سنكتفي بتقديم عدد قليل منها يفيدنا في الإحساس بموقف الصمود والصبر والأمل اليائس الذي انتهى إليه الشاعر بعد رحلة العذاب والحيرة الطويلة.
صفحه نامشخص