ووصل به الأمر في أحد الأيام - وكان في اليوم التالي على موعد مع شيلر - أن يقضي الليل مؤرقا والنهار معذبا لا يستطيع أن يجد نفسه أو يهتدي إلى فكرة.
ومهما يكن الأمر في شأن هذه العلاقة بين الشاعرين فلم تكن علاقة بين شريكين يقدر كل منهما عبقرية صاحبه - كما كانت مثلا بين شيلر وجوته - بل شابها إشفاق هلدرلين من تفوق «الرجل العظيم»، وكان ذلك في أغلب الظن من الأسباب التي دفعته إلى الفرار من المدينة والعودة إلى حياة التجوال.
والمؤكد أن شيلر قد عطف عليه من الناحية الإنسانية وحاول أن يعينه على مواجهة الحياة، ولكنه لم يستطع أن يقدر عبقريته حق قدرها ولم يتح له أن يسبر أغوارها ويدرك عمقها ...
أما عن جوته - عملاق الأدب وكعبة حجاج الفكر في فيمار - فقد كان لقاؤه الأول معه مصادفة لم تجلب معها إلا المرارة والانكسار .. ذهب هلدرلين لزيارة شيلر، ودخل من الباب فحياه الشاعر الإنسان ورحب به. وكان هناك زائر آخر سبقه إليه، ولكنه لم يفطن إلى وجوده، إذ لم تصدر عنه إشارة تدل عليه، ولم يفه بكلمة تكشف عن شخصيته. وقدمه شيلر إليه، كما نطق باسمه لهلدرلين، ولكن هذا لم يفهم اسمه، ولذلك حياه في برود، دون أن ينظر إليه؛ إذ كان لفرط ارتباكه مشغولا عنه بشيلر وحده.
وظل الغريب صامتا. وجاء شيلر بنسخة من مجلة «تاليا» التي كان يصدرها آنذاك فقدمها لهلدرلين، وكان قد نشر فيها قطعة من روايته الوحيدة «هيبريون» وقصيدته إلى القدر. ومد الغريب يده فتناول المجلة من على المائدة، وتصفحها لحظات دون أن يقول كلمة واحدة. وشعر هلدرلين أن وجهه يحمر ويزداد احمرارا. ونطق الغريب كلمات قليلة، كانت لعمقها كفيلة بأن تلفت شاعرنا إلى شخصية صاحبها.
الشاعر فريدريش شيلر.
وأقبل زائر آخر هو الرسام «ماير» الذي كان يعيش في مدينة فيمار. وأخذ الغريب يتحدث معه في شئون مختلفة، وبقي هلدرلين لا يفطن إلى شيء .. ثم انصرف بعد قليل، وسمع في نفس اليوم من نادي الأساتذة أن «جوته» نفسه هو الذي كان في زيارة شيلر!
هكذا يصف لنا هلدرلين هذا اللقاء الأول الذي تم بمحض الصدفة، وإن لم يكن للصدفة دخل في أن يظل هذان الكوكبان بعيدين يسبح كل منهما في فلكه. صحيح أنه يحدثنا في بعض رسائله إلى صديقيه نويفر وهيجل، عن لقاء آخر مع جوته كما يذكر هذا اللقاء بالشكر والعرفان ويقول بالحرف الواحد: «إن أجمل متعة نحظى بها في حياتنا هي أن نجد كل هذه الإنسانية مقترنة بكل هذه العظمة ... إنه هادئ، في نظرته سمو وجلال، وفيها كذلك حب، وهو في حديثه بسيط غاية البساطة ...» غير أن هذه الكلمات المخلصة لا تغير من الحقيقة شيئا .. والحقيقة هي أن الشاعرين الكبيرين لم يعرفا هلدرلين ولم يقدر لهما إدراك عبقريته. ربما كان المسئول عن هذا هو شخصيته القلقة المضطربة التي اعترف جوته بحيرته إزاءها، وربما كان السبب هو أنهما ظلا حبيسين في عالمهما الشامخ الواضح المحدد، فلم تتح لهما النظرة الحرة إليه. وكانت النتيجة أن اعتبره شيلر من أصحاب النزعة الذاتية المتطرفة، ووضعه جوته بين الشعراء الغنائيين الحالمين (وأوضح دليل على هذا أنه نصحه بالاتجاه إلى كتابة القصائد القصيرة، وهي نصيحة لا تتفق بحال مع طبيعة هلدرلين ونفسه الطويل)! ولعلهما في النهاية قد شعرا نحوه بشيء غير قليل من الخوف والإشفاق جعلهما عاجزين عن وضعه في إطار معروف أو قالب محدد.
ومن سوء الحظ أيضا أنه لم يقدر له أن يلتقي لقاء حقيقيا بالكاتب المؤرخ الفيلسوف هردر (1744-1803م) وكان مثل هذا اللقاء خليقا أن يكشف عن القرابة الروحية التي تجمع بينهما، والجذور الفكرية المشتركة التي تجعلهما يقفان من الوجود الحي النامي موقف الخشوع والورع. لقد ذهب هلدرلين إليه، واحتفى به «الرجل النبيل» حفاوة قلبية صادقة، تركت في نفسه أثرا لا ينسى. ومع ذلك فإن هذا اللقاء العابر لم يؤت الثمرة المرجوة، ولم يتح لذلك الكاتب المتدفق الواسع الأفق أن يعرف شاعرنا عن قرب أو يوجهه ويرعاه، وهو الذي يدين له عشرات الأدباء - ومنهم جوته نفسه - بفضل الرعاية والتوجيه.
ويتكرر هذا الإخفاق أيضا - ولكن في صورة أكثر اختلافا وأشد إثارة - في صلة هلدرلين بفيشته (1762-1814م)، وهو «روح مدينة يينا» في ذلك الحين. ولكن لعل السبب في هذا الإخفاق أن يكون كامنا في موقفه من الفلسفة لا من الفيلسوف.
صفحه نامشخص