حسا رقيقا صافيا تتلمس به الروعة والجمال،
فؤادك يتوهج بالحرية الأبية وبراءة الأطفال ...
أخي، تعال وذق معي الكأس الساحرة.
ولكنه لم يشأ أن يشاركه عنفه وثورته مع غيره من الشباب في أسواق المدينة وشوارعها. لا لأنه كان بطبعه هادئا عاكفا على نفسه، بل لأن الانضمام إلى الجمعيات والاشتراك في المظاهرات كانا من أبغض الأشياء إليه.
وربما كانت أجمل الذكريات التي يحملها هلدرلين لصديقه هو قيامهما معا في صحبة صديق ثالث كان يدرس الطب (ميمنجر) برحلة للتعرف على سويسرا «بلد الحرية الإلهية» التي اجتمع فيها الكفاح الأبي مع السلام الرعوي الجميل.
تجول الأصدقاء الثلاثة في أنحاء سويسرا، وملئوا عيونهم بمباهجها ومجاليها، وكشفت البحوث الحديثة منذ حوالي عشر سنوات عن زيارتهم لواحد من أشهر رجالات العصر، وهو يوهان كاسبار لافاتر (1741-1801م) الكاتب الشاعر المتدين، مؤسس علم الطباع، وأحد رواد حركة العصف والاندفاع، المكافحين ضد الظلم والطغيان في بلاده، المتحمسين للثورة الفرنسية وصديق جوته وهردر وهامان. ولا بد أن هذه الزيارة تركت أثرا لا يمحى في نفس الشاعر وخياله، ولا بد أن العالم المرموق قد أدرك بإحساسه وثاقب بصره سر «النار المركزية» - فهكذا كان يسمي العبقرية! - التي تتوهج في كيان هلدرلين. ولا بد أنه استعان بنظرياته في علم الطباع فقرأ ملامح وجهه، وحسب أبعاد رأسه، وعرف أن هذا الشاب الوديع المنكسر الذي يقف أمامه شاعر حق، بل هو الشعر نفسه مجسدا في كيان إنسان مسكين. ومن يدري؟ فلعل هذه الزيارة أن تكون من بين الأسباب التي دفعته إلى كتابة قصيدة رائعة عن سويسرا أهداها إلى صديقه هيلر وحيا فيها بلد الحرية وأبطالها المقدسين، وتذكر رحلته إليها مع هذا الصديق الذي يقول له بعد الأبيات التي قرأتها منذ قليل:
هناك حيث يكسو شعاع المساء السحابة الغربية بالذهب،
هناك أرسل الطرف وأذرف دموع الشوق!
آه! هناك رحنا نتجول! وسرحت العين وتاهت
في المشاهد الرائعة من حولنا! - كم حاول الصدر أن يتسع
صفحه نامشخص