عندئذ يطيب كل شيء ...
ويلاحظ القارئ أن الجملة الأخيرة في القصيدة الزاخرة بالصور الحية الملموسة تعبر عن روح متدينة ترحب بكل شيء وتثني على كل شيء. ولن يغيب عنه أيضا أن مثل هذه الروح التقية المستسلمة لا تخلو من الإحساس بسلطان الموت. ولقد رأينا كيف عبر الشاعر عن هذا الإحساس القاتم المضيء في قصيدة الذكرى التي قرأناها على الصفحات السابقة أجمل تعبير وأصفاه حين قال:
فلتمتد إلي يد
بالكأس العطرة
المترعة بنور معتم
فلعلي أجد الراحة،
ما أجمل أن يحلو النوم
تحت الظل ...
يبدو أن وطأة الإحساس بالموت والفناء قد اشتدت على الشاعر في هذه السنوات التي تلت وفاة حبيبته فخنقت قدرته على الخلق أو كادت. ولذلك وجد متنفسه في ترجمته الرائعة لمسرحيتي سوفوكليس «أوديب» و«أنتيجونا» التي كان قد بدأها مع نهاية القرن. وهي ترجمة رائعة تعد من درر اللغة الألمانية، ولا يقلل من روعتها أنها بعيدة عن الترجمة الحرفية والعلمية الدقيقة، لأنها ستظل أثرا باقيا من آثار الترجمة الخلاقة التي لا يقدر عليها إلا الأدباء والشعراء الكبار. ولذلك جاءت أخطاؤها أخطاء رائعة، لأنها خرجت من يد شاعر كبير، ولأنها في مجموعها خلق جديد لا ترجمة حرفية دقيقة. وقد قدر لهذه الترجمة أن تجد ناشرا جريئا سخيا في كرمه ونبله، وهو «فريدريش فيلمانس» الذي لم يمنعه بؤس الشاعر وظلم الحياة الأدبية له من طبع ترجمته التي ظهرت في مدينة فرانكفورت سنة 1804م. والمجال لا يتسع لمناقشة هذه الترجمة الخالدة التي تعد جزءا لا يتجزأ من أدب هلدرلين وشخصيته وحنينه إلى عالم أسطوري جميل وجليل. ولعل الأيام أن تسعفني بالحديث عنها وعن أثر الفكر والأدب اليوناني على شاعرية هلدرلين وأسلوبه وخياله ومثاليته.
يبدو أن هلدرلين وصل في هذه الفترة من حياته إلى حال مؤلمة من الاختلاط والفوضى العقلية والنفسية. تشهد على هذا رسالة كتبها الفيلسوف «شيلنج» في الثانية والسبعين من عمره، وراح يتذكر فيها اللقاء المحزن الذي تم بينه وبين الشاعر المسكين في ربيع سنة 1803م. فقد سعى الشاعر إليه وعبر المسافات الطويلة على قدميه ليراه، وكأنما ساقته غريزته أو صداقته القديمة للفيلسوف الصوفي الكبير ... كان لقاء حزينا كما قلت، أقنع الفيلسوف العجوز بأن «هذه الآلة الموسيقية ذات الأوتار الرقيقة» قد اختلت إلى الأبد. كان شيلنج كلما عرض لفكرة أو شيء يتعلق بحياتهما الماضية وجد منه الجواب الصحيح، ثم لا يلبث الخيط أن ينقطع، ويضطرب كلام الشاعر ويغمغم بحديث لا يفهم. ومع ذلك فقد تأكد للفيلسوف - كما يشهد بنفسه - أنه أمام عبقري لم يفقد شيئا من فطرته النقية ولا رقته الأصيلة. ولقد لبث هلدرلين ستا وثلاثين ساعة في ضيافته فلم يصدر من سلوكه أو حديثه ما يناقض خلقه النبيل أو جوهره النقي الذي عرفه في شبابه الباكر
صفحه نامشخص