History of Literary Criticism Among the Arabs
تاريخ النقد الأدبي عند العرب
ناشر
دار الثقافة
شماره نسخه
الرابعة
سال انتشار
١٩٨٣
محل انتشار
بيروت - لبنان
ژانرها
الإهداء
إلى أبي بكر عباس
الذي كان دائما صديقًا مخلصًا وناقدًا أمينًا
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
حاولت في هذه الدراسة أن أقدم صورة عن النقد الأدبي عند العرب منذ أواخر القرن الثاني الهجري حتى القرن الثامن، أو من الفترة الممتدة بين الأصمعي وابن خلدون - في مشرق العالم الإسلامي ومغربه -، وقد اتبعت فيها منهج التدرج الزمني، لأنه يعين على تمثل النقد في صورة حركة متطورة. بين مد وجزر أو ارتفاع وهبوط، على مر السنين. وقد عمدت إلى الوقوف عند القضايا الكبرى، معرضًا عن جزئيات الأمور التي تصرف الدارس عن إبراز الدور " الفكري " للنقاد العرب، وتنشبه في الأخذ والرد حول الأمور الجانبية، وتورطه في شكة معقدة من القواعد البلاغية.
وإذ كان همي منصرفًا إلى إقامة كيان للنقد الأدبي عند العرب، كان لابد لي من الاستقصاء في المصادر، المطبوع منها والمخطوط على السواء. والاحتكام إلى أساس شمولي في النظرة الكلية إلى ذلك الكيان، ولهذا السبب لم اقصر الرؤية على من عرفوا بالنقد التطبيقي مثل الآمدي والقاضي الجرحاني وابن الأثير، بل درست من كان لهم نشاط نظري في النقد مثل الفارابي وابن سينا وابن خلدون، محاولًا في كل خطوة ان أوجد - حتى عند النقاد التطبيقيين - الأسس النظرية الفكرية التي كانت توجه النقد لدى كل منهم، وبغير هذا التصور - فيما اعتقد - تظل دراسة النقد الأدبي
1 / 3
عند العرب وصفًا سطحيًا أو تلخيصًا مبتسرًا للآثار التي خلفوها.
وقد كان يحدوني إلى هذا العمل - الذي استغرق من جهدي سنوات - شعوري بان النقد عند العرب في حاجة إلى استئناف في النظر والتقييم، إذا أنا قرأت ما كتب عنه من مؤلفات حديثة، وإحساسي وأنا اقرأ الكتب النقدية المختلفة التي كتبها الأسلاف أن فيها ما يستحق بذل الجهد ليعرض ذلك النقد بأمانة وإنصاف.
واحب أن أقرر هنا، أن النقد لا يقاس دائمًا بمقياس الصحة أو الملاءمة للتطبيق، وغنما يقاس بمدى التكامل في منهج صاحبه؛ فمنهج مثل الذي وضعه ابن طباطبا أو قدامة، قد يكون مؤسسًا على الخطأ في تقييم الشعر - حسب نظراتنا اليوم - ولكنه جدير بالتقدير لأنه يرسم أبعاد موقف فكري غير مختل، وعن هذا الموقف الفكري يبحث دارس تاريخ النقد، ليدرك الجدية والجدة لدى صاحبه في تاريخ الأفكار.
ولهذا تركت هؤلاء النقاد يتحدثون عن مواقفهم بلغتهم في أكثر الأحيان، ولم أحاول ان أترجم ما قالوه إلى لغة نقدية معاصرة، إلا في حالات قليلة جدًا حين تستغلق العبارة على القارئ المعاصر، كما هي الحال في نقد حازم القرطاجني.
ولست أدعي أنني أتيت على كل ما يمكن أن يقال في هذا الموضوع، ولكني التزمت بحدود المنهج الذي رسمته، وهو منهج يمكن القارئ بعد ان يقرأ مادة هذا البحث من أن يعيد بناء كثير من الجزئيات والقضايا المفردة على نحو جديد - حسبما بينت ذلك في المقدمة؛ فإني غنما جعلتها نموذجًا للبحوث المستقلة في مشكلات بأعيانها مثل: أثر الاعتزال في نشأة النقد الأدبي وتطوره - شخصية الناقد كما تصورنا النقاد العرب - أثر الإحساس
1 / 4
بالتطور وقيمته لدى كبار النقاد - طبيعة المشكلات التي وجهت النقد - كيفية دراسة القضايا الهامة في تاريخ النقد؛ ولم أحاول فيها الاستقصاء لان ذلك يعني ان أعيد مادة الكتاب في شكل آخر؛ ولهذا أرى أن أنبه إلى قيمة المقدمة - رغم قيامها على الإيجار - ولعل الفائدة منها أن تكون أتم وأوفى إذا عاد غليها القارئ بعد أن ينتهي من قراءة فصول الكتاب.
هذا وإني لأرجو مخلصًا أن أكون قد وفقت في بلوغ ما سعيت غليه من غاية لم أدخر جهدًا في سبيلها، والله الموفق.
بيروت في ٣٠ نيسان (إبريل) ١٩٧١ إحسان عباس
1 / 5
ـ[مقدمة]ـ
حدث بعضهم، قال: " تحاكم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وعبدة بن الطبيب والمخبل السعدي إلى ربيعة بن حذار الأسدي في الشعر، أيهم أشعر؟ فقال للزبرقان: أما أنت فشعرك كلحم اسخن لا هو انضج فأكل ولا ترك نيئًا فينتفع به، وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرود حبر يتلألأ فيها البصر، فكلما أعيد فيها النظر نقص البصر، وأما أنت يا مخبل فإن شعرك قصر عن شعرهم وارتفع عن شعر غيرهم، وأما أنت يا عبدة فإن شعرك كمزادة احكم خرزها فليس تقطر ولا تمطر " (١) .
لعل هذا النموذج من أرقى الأمثلة واشدها دلالة على طبيعة النقد الأدبي، قبل أن يصبح لهذا النقد كيان واضح، فهو نموذج يجمع بين النظرة التركيبية والتعميم والتعبير عن الانطباع الكلي دون لجوء للتعليل، وتصوير ما يجول في النفس بصورة اقرب إلى الشعر نفسه (٢)، وذلك هو شأن أكثر الأحكام التي نجدها منذ الجاهلية حتى قبيل أواخر القرن الثاني
_________
(١) الموشح: ١٠٧ - ١٠٨.
(٢) عاد هذا النموذج إلى الحياة في تعليقات كتاب المقامات النقدية وما أشبهها، وسيرد الحديث عنها في مواضعه من هذا الكتاب.
1 / 7
الهجري؛ وإذا كان هذا النموذج من أرقاها فإن معظم النماذج الباقية إنما يتحدث عن شئون خارجة عن الشعر نفسه أو جزئية فيه، شئون متصلة بالعرف أو بالمعارف التي يتضمنها الشعر أو بلفظة معجبة هنا ولفظة غير معجبة هنالك أو ببيت محكم المعنى والسبك؟ الخ.
ولكن النقد في حقيقته تعبير عن موقف كلي متكامل في النظرة إلى الفن عامة أو إلى الشعر خاصة يبدأ بالتذوق، أي القدرة على التمييز، ويعبر منها إلى التفسير والتعليل والتحليل والتقييم - خطوات لا تغني إحداهما عن الأخرى، وهي متدرجة على هذا النسق؛ كي يتخذ الموقف نهجًا واضحًا، مؤصلًا على قواعد - جزئية أو عامة - مؤيدًا بقوة الملكة بعد قوة التمييز؛ ومثل هذا المنهج لا يمكن أن يتحقق حين يكون أكثر تراث الأمة شفويًا، إذ الاتجاه الشفوي لا يمكن من الفحص والتامل، وإن سمح بقسط من التذوق والتأثر، ولهذا تأخر النقد المنظم حتى تأثلت قواعد التأليف الذي يهيئ المجال للفحص والتقليب والنظر.
والتأليف يخلق مجالًا للنقد صالحًا، ولكنه لا يستطيع أن يخلق وحده نقدًا منظمًا، بل لا بد هنالك من عوامل أخرى؛ واهم هذه العوامل جميعًا الإحساس بالتغير والتطور: في الذوق العام او في طبيعة الفن الشعري أو في المقاييس الأخلاقية التي يستند غليها الشعر أو في العادات والتقاليد التي يصورها أو في المستوى الثقافي ونوع الثقافة في فترة إثر أخرى أو في مجموعة من القيم على وجه التعميم؛ ذلك لان هذا الإحساس بالتغير والتطور هو الذي يلفت الذهن - أو ملكة النقد - إلى حدوث " مفارقة " ما، ولابد لهذه المفارقة أول الأمر من أن تكون ساطعة متباعدة الطرفين، حتى تمكن النظر الذي لم يألفها قبلًا من رؤيتها بوضوح. وقد كان سموق النماذج الشعرية الجاهلية ثم حركة الأحياء لتلك النماذج في العصر الأموي وبعض العصر العباسي واتخاذها قبلة للجميل أو الرائع من الشعر سببًا في حجب كل
1 / 8
حقيقة تطورية عن العيون. ولهذا لم يبدأ الإحساس بالتغير والتطور إلا حين أخذت بعض الأذواق تتحول عن تلك النماذج إلى نماذج جديدة، وحين أخذت المقاييس الأخلاقية والقيم العامة والتقاليد المتبعة تنحني أمام تيارات جديدة أو تصطدم بها، وحين تعددت المنابع الثقافية وتباينت مستوياتها.
ومع أن هذه المشكلات جميعًا كانت قد برزت حين عاش الأصمعي فإن التصاقه بالرواية واللغة ذلك الالتصاق الشديد لم يسمح له أن يراها بوضوح أو ان يتمثلها؛ ولكن رغم ذلك كله كان الأصمعي - فيما اعتقد - بداية النقد المنظم لأنه أحس ببعض المفارقة التي أخذت تبدو في أفق الحياة الشعرية، غير انه بدلًا من أن ينظر إلى المشكلة في ضوء تطوري، نظر إليها من خلال موقف " ثابت "، نظر إلى الشاعر - أيًا كان - فوجده أحد اثنين، فهو إما فحل وغما غير فحل، ونظر إلى منبع الشعر فوجده أيضًا واحدًا من اثنين إما الخير وإما الشر، وليس بسبب تدينه قرن الشعر بالشر، ولكن لأن " الشر " عنده هو صورة النشاط الدنيوي جملة، والشعر ينبع من ذلك النشاط.
وقد يكون ابن سلام أشد صلة بالنقد المدروس من الأصمعي، ولكنه يشبهه في انه حصر رؤيته ضمن ذلك " الثبوت " الذي يمثله الشعر الجاهلي والإسلامي؛ هو الأصمعي يرى الشاعر فحلًا أو غير فحل، ولكنه يزيد عليه في أن الفحولة درجات، ومن ثم كانت نظريته في الطبقات.
وتقع المشكلة التي تورق ابن سلام ضمن ذلك الإطار الثابت، وهي التمييز بين الأصيل والدخيل من ذلك الشعر القديم، ثم هو لا يعني بشيء آخر، بعد أن مزج بين النقد والتاريخ الأدبي، وأقام الثاني منهما على قاعدة نقدية دون أن يهتم كثيرًا بالتعليل في اختياره لتلك القاعدة.
وهذا هو الفرق بين كل منهما وبين الجاحظ، فغن الجاحظ الذي
1 / 9
نفى الأصمعي وسائر الرواة من حيز النقد كان يحس أنهم قصروا عن الوعي بالمفارقات الكبرى التي جدت في حياة الشعر والناس: أما هو فإنه لا يستطيع ان يغض الطرف عن ذلك الصراع بين القديم والمحدث (أي عن التغير الذي طرا على أذواق جيلين) ولا يستطيع أن ينسى كيف انه يعاشر جيلًا يستمد ثقافته من كليلة ودمنة وعهد أردشير ويعرض عن الشعر العربي، بل ربما كان يعرض عن كل ما هو عربي ويؤمن بالثقافة المترجمة معتقدًا أنها الزاد الوحيد للمثقف حينئذ، وهو على وعي شديد بان الشعر نفسه أصبح من نتاج غير العرب كما كان من نتاج العرب، وانه أصبح كذلك قسطًا مشتركًا بين الحاضرة والبادية، ولهذا كان موقف الجاحظ النقدي شيئًا جديدًا بالنسبة لمن تقدمه، فهو في صراعه ضد الشعوبية يرى في الشعر مادة المعرفة، وهو في موقفه الثقافي الحضاري يحاول أن يرى من الزاوية العقلية - عن استطاع - ذلك التفاوت في الشعر بين العرق العربي وغير العربي وبين البادية والحاضرة، أي ان يلحظ اثر الجنس والبيئة. ولكن نقد الجاحظ - إذا استثنينا كتابه في نظم القرآن - لم يكن سوى مكمل لنشاطه الفكري عامة، أي كان جزءًا صغيرًا في مبنى كبير متعدد الجنبات والزوايا، ولهذا جاءت أكثر آرائه النقدية نتفًا لا إشباع فيها.
غير ان هذا لا يمنعنا من أن نقول إن النقد الأدبي ولد في حضن الاعتزال (الجاحظ - بشر بن المعتمر - الناشئ الأكبر) والمتأثرين به، سواء أكان ذلك التأثر موجبًا أو سالبيا (ابن قتيبة، ابن المعتز)، وكان الاعتزال حينئذ يعني في أساسه الاحتكام إلى العقل، والعقل يهئ من جموح العاطفة والعصبية، ولهذا قضى بان الزمن لا يصلح أن يكون حمًا على الشعر، مما أدى منذ البداية إلى أن يسلك النقد طريقًا وسطًا لا تفضيل فيها لقديم على محدث أو العكس، وغنما هنالك كما يقول العقل الاعتزالي: محض الحسن والقبح، وذلك هو أساس النقد الأدبي؛ والعقل هو المرجع الأخير في
1 / 10
التذوق، ولهذا كان الصدق في الشعر أصلح لأنه مقبول لدى العقل، ثم كان الاعتزال يعني ردًا على الثنوية دفاعًا عن الدين. ومن ضمن ذلك الرد على الثقافة التي تبث الأفكار الثنوية بدعوة مضادة هي العودة إلى ينبوع الثقافة العربية، ومصدر المعرفة العربية، وذلك هو الشعر؛ كذلك فغن الاعتزال يعتمد على الجدل من اجل الإقناع، ولهذا لم يجد ضيرًا في أن يجعل الشعر إحدى وسائل الإقناع أي أن يتحول إلى شكل خطابي وان تقترب المسافة بينه وبين النثر؛ وكانت بعض نماذج الشعر القديم تسعف على هذا التصور، وفي مثل هذا الجو نسمع الثناء على قصيدة عبيد بن الأبرص بأنها أحرى أن تسمى " خطبة بليغة "؛ وفي طبيعة هذه النشأة نستطيع أن نلمح السيئات التي علقت بالنقد الأدبي من حيث ارتباطه بالاعتزال؛ فقد أصبح النقد والشعر كلاهما نشاطين عقليين، وتحولت مهمة الشعر مدة طويلة إلى تقديم المعرفة، وأخذ النقاد يقفون وقفات طويلة عند البحث عن المعاني. ومن ثم عن قضية أخذها أو سرقتها، وطغت مشكلة السرقات الشعرية - أو كادت - على سائر المشكلات النقدية وأهدرت في سبيلها جهود كثيرة (وسأعود للحديث عنها في غير هذا الموضع)، وكاد يمحي الفاصل بين الشعر والخطابة في نظر النقاد، ووضعت مقاييس عامة تصلح للشعر مثلما تصلح للخطابة؛ وكان لابد لهذا الموقف من ان يحدث رد فعل، وجاء هذا الرد على ثلاث صور: الانحياز إلى جانب اللفظ، والتعلق بالصورة الشعرية، والهرب من الأثر الفلسفي للتمييز بين الشعر والخطابة وللوقوف عند مشكلة العلاقة بين الشعر والصدق أو الشعر والكذب؛ ولست اعني أن هذه الصور الثلاث من رد الفل كانت دائمًا منفصلة، ولا أنها بقيت على مر الزمن منفصلة عن الوقفة الاعتزالية النقدية، بل أصبح الناقد بعد فترة من الزمن انتقائيًا يصنع من هذه التيارات - أو من بعضها - اتجاهه النقدي الخاص.
ولكن كيف يمكن ان نتهم الاعتزال بأنه وجه الأنظار إلى البحث
1 / 11
عن المعنى، ونحن نعلم ان الجاحظ - وهو معتز لي - جعل سر الإعجاز قائمًا في " النظم " وانه هو صاحب نظرية " المعاني المطروحة " التي يعرفها البدوي والحضري والعربي والعجمي؟ ألا يوحي هذا بشيء من التناقض؟ لتوضيح ذلك علينا أن نقرر أولا أن كلمة " معنى " مطاطة متعددة الدلالات، فإذا قيل أن الاعتزال لفت الانتباه إلى المعاني فإن ذلك يفيد أنه اهتم بالمعاني العقلية أو كما وضح عبد القاهر من بعد: إلى المعاني التي يشهد العقل بصحتها، فهذه هي التي يؤثرها عبد القاهر - ومن بعده ابن الأثير - على التخييل، أي على الصورة الشعرية التي تداني العقل من طريق التمويه. أما المعاني التي يقصدها الجاحظ فهي مادة المشاهدة والتجربة، في الحياة عامة. وهذه حقًا مطروحة للناس جميعًا، وهم لا يتفاوتون غلا في " نظم) التعبير عنها. وقد أدرك عبد القاهر بنفاذ نظرته ان الجاحظ كان مضطرًا للمناداة بذلك الرأي خدمة للإعجاز لأنه كان يرد على من يرون أن معاني القرآن لا تستقل عن المعاني (أي المواد) العامة التي يتحدث عنها الشاعر والخطيب. ولكن رأي الجاحظ أسيء فهمه، فأوجد فئة من النقاد يحاولون التهوين من شان المعنى في سبيل الدفاع عن النظم (الآمدي مثلًا)؛ أو يدافعون عن الصناعة اللفظية دون أن يحاولوا إدراك مرامي الجاحظ، أو يتبينوا موضع الخطر في منهجهم النقدي. ومن شاء أن يدرس أثر الاعتزال في تاريخ النقد - إيجابًا وسلبًا - وجد ذلك في تضاعيف التطور النقدي حسبما عرضته في هذا الكتاب، وسألمح إلى بعضه في سياق هذه المقدمة، ولكن قبل ذلك يتعين علي أن أعود - بعد هذا الاستطراد الضروري - للحديث عن الصلة بين النقد وبين الإحساس بالتغير والتطور.
عندما نتعمق المواقف النقدية لدى كبار النقاد - وقد مر بنا الاستشهاد بالجاحظ - في تاريخ النقد العربي سنجد أن الإحساس بالتطور والتغير هو العامل الخفي في شحذ هممهم للنقد، يستوي في ذلك ابن قتيبة وابن طباطبا
1 / 12
وقدامة الآمدي والقاضي الجرحاني وابن رشيق وعبد القاهر وابن شهيد وحازم القرطاجني وابن الأثير؛ فإنك لا تجد واحدًا من هؤلاء إلا وهو يحس أن الشعر في أزمة، وانه يتقدم بآرائه لحلها، وليس من الطبيعي أن نقف عند جميع من ذكرناه من النقاد ومن لم نذكره منهم لتبيان ذلك النوع من الإحساس، وإنما يكفي أن نقف عند أمثلة معينة؛ وأول من نجده عميق الإحساس بالتغير ابن طباطبا. فهو قد شعر أن العادات والمثل العليا العربية التي كان يرتكز إليها الشعر القديم قد تغيرت، ودرست الأساطير التي كانت تغذي الشعر أيضًا. ولهذا أحس ابن طباطبا أن الشاعر المحدث قد وقع في مأزق، وفي محاولته ليخرجه من هذا المأزق، وجد نفسه يستعمل أدوات الناقد ومعداته، وقد تكون دواعي ذلك الإحساس خاطئة، كما قد تكون القواعد النقدية التي طلع بها ابن طباطبا مضللة لاتجاه الشعر، ولكن لا جدال في ابن طباطبا - رغم ذلك كله - ناقد فذ في موقفه النقدي، ولعله متأثر بالمعتزلة لأنه يلح على أن الصدق يجب أن يتوفر في الشعر، ويكاد يمحو الحد الفاصل بين الشعر والنثر، ولعله كان معتزليًا حقًا، فنحن نجهل حقيقة انتمائه المذهبي؛ إلا أن " عقلانيته " الخالصة تصله وصلًا وثيقًا بالمعتزلة.
وقد يقال إن قدامة بن جعفر لم يطلع على ما كتبه ابن طباطبا، ولكن موقف قدامة في مجمله رد على موقف ابن طباطبا؛ لقد اعتقد ابن طباطبا أن القاعدة الأخلاقية التي قام عليها الشعر القديم قد تغيرت وان تغير الشعر (المحدث) اصبح أمرًا مختومًا، فجاء قدامة ليقول: لا؛ للفضيلة مقياس خلقي ثابت مهما تتغير الأزمنة والبيئات، ولهذا يظل الشعر شعراء ما دام يعبر عن ذلك المقياس الثابت للفضيلة؛ وهكذا رد قدامة الشعر إلى مبدأ " الثبوت " لا إلى مبدأ التغير، وكأنه يقول أن الحقائق لا تتغير. ولكن أين الأزمة التي أحس بها قدامة إن كان محور نقده هو الإيمان بالثبوت؟ لقد أحس بها على عكس ما تصورها ابن طباطبا، لقد أحس بانكسار في
1 / 13
تيار الشعر. فلم يستطيع أن يخلق مسوغًا لهذا الانكسار كما فعل ابن طباطبا. وإنما حاول أن يجبر ذلك الانكسار بالعودة إلى القاعدة الفلسفية التي ترى وراء التكثر وحدة. ووراء التغير نواة ثابتة، أي أراد قدامة ان يرسم حدودًا لتلك النواة الثابتة، ولابد أن يحس من يقرأ " نقد الشعر " أن مؤلفه ضيق الصدر بالشعر المحدث، لا لان الإقرار به ينقض عليه نظريته بل لأنه يطلب إليه أن يثبت ان التغير الحادث فيه ليس إلا شيئًا عارضًا ظاهريًا. وان وضع معيار ثابت للشعر عامة هو مهمة الناقد. ويجب أن نتذكر أن ابن طباطبا ذو صلة بالفكر الكلامي، وأن قدامة ذو صلة بالفكر الفلسفي اليوناني، فإذا قرن ابن طباطبا الصدق بالشعر ذهب قدامة إلى النقيض، فتحدث عن كذب الشعر لان كلمة " كذب " كانت تطلق في عصره على ما أصبح يعبر عنه بلفظ " تخييل " من بعد، ويبدو أن المتأثرين بالفكر الكلامي مثل ابن طباطبا وعبد القاهر تشبثوا بالصدق وأن الذين تأثروا بالفكر الفلسفي وجدوا في لفظتي " الكذب " و" التخييل " مترادفين. وهو عكس ما قاله حازم القرطاجني من بعد حين اتهم المتكلمين بأنهم هم الذين نسوا الكذب إلى الشعر ليرفعوا القرآن فوقه ويميزوه عنه، وهذه مشكلة سنفردها بالحديث أيضًا.
وحين كان الإحساس بالتطور يتصل بأثر فكري - كلامي فلسفي - كان النقد ينال حظًا غير قليل من العمق، لأن ذلك الأثر الفكري كان دائمًا كفيلًا بتنظيم الإحساس وتوجيهه في منهج متميز المعالم، فأما مجرد الإحساس وحده فإنه كان يجعل النقد عند أذكى النقاد التماعات ذهنية أو لمحات سريعة، ومن ابرز الأمثلة على ذلك نقاد الأندلس، وهي بيئة كانت - في الغالب - تنفر من الكلام مثلما تنفر من الفلسفة؛ ولا ينكر أن ابن شهيد مثلًا ناقد ذكي أدرك معنى التطور في طبيعة الصناعة الشعرية وأقره (وإن التفت كثيرًا إلى نماذج ثابتة القيمة) كما أحس بان الأزمة في الشعر نفسه إنما تنجم عن الصراع بين الروح والجسد، فإذا تغلبت الروح جاء الشعر
1 / 14
جيدا، والعكس في حال سيطرة الجسد. فذهب إلى القول بروحانية الشعر ولكنه لم يستطع أن يتحول بنقده إلى منهج منظم لأنه كان قليل البضاعة من الثقافة. وكذلك يمكن ان يقال في ابن خيرة المواعيني فإنه وقف عند فكرة التطور وقفة طويلة وسمي صورتها العامة باسم " التدريج " وحاول تطبيقها في ميدان التربية، ولهذا نسمعه يقول " والتدريج مطرد حتى في النبوة وتحمل الرسالة؟.. وإذا اعتبرت معنى التدريج وجدته في كل موجود من الحيوان والنبات على رتب النمو؟ " (١)، ومع ذلك لم يستطع ان ينقل فكرته عن " التدريج " إلى حيز النقد الأدبي. أو إلى دراسته للشعر، لأنه فصل بين ثقافته العامة والنقد، واعتمد آراء الآخرين، ولم يكن لديه من الشجاعة في الرأي ما يسعفه على الاستقلال برأي ومنهج.
ومع ان ابن رشيق أعاد الوقفة التي وقفها ابن طباطبا حين أحسن بأزمة الشاعر المحدث، إلا أنه نقل هذا الإحساس إلى صعيد آخر، وهو مدى الصلة بين الآني والثابت، وإنما أوحى له بهذا الموقف أستاذه عبد الكريم، الذي أحس بالصراع بين النتاج الإقليمي المحلي (الآني القيمة) وبين النتاج العام (الخالد القيمة) وقد أقر كلاهما أن الأول لا غنى عنه، ولكنهما أعطيا قصب السبق لما تجاوز حدود البيئة والزمان، واتسم بالخلود؛ أي أن كلًا من ابن رشيق وعبد الكريم قد اكتشف قيمة " الثبوت " في تيار التطور - إن صح التعبير -.
من هذه الأمثلة - وأرى هذا القدر منها كافيًا - يمكننا أن نرى أن المشكلة التي أثارت نقدًا كانت في أكثر الأحيان مزدوجة الطرفين، وأنها حين نجمت عن طبيعة النقل والرواية في الشعر كانت تسمى مشكلة الأصالة والانتحال، وحين صدرت عن تغير في الذوق والأدوات الشعرية أصبحت
_________
(١) الريحان والريعان، الورقة: ٧.
1 / 15
مشكلة زمنية تسمى القدم والحداثة (أو مشكلة القديم والمحدث)، وقد ماتت المشكلة الأولى من الوجود النقدي بعد ان وقف عندها ابن سلام، كما ماتت الثانية بعد ان ضرب الشعر المحدث في الزمن وتفاوتت درجات الحداثة نفسها، ولكن النقاد لم ينسوا هذه المشكلة التي تحولت عندهم دائمًا إلى المشكلة " المتقدم والمتأخر " وظلوا يقفون عندها دون أن يتناولوها بالحماسة التي تناولها بها النقاد في القرن الثالث؛ وحين أصبحت الحداثة متفاوتة أو متنوعة انتقلت الأزمة إلى المفاضلة أو الموازنة بين اثنين اثنين من المحدثين (العباس بن الأحنف والعتابي/ أبو تمام والبحتري) وأصبحت المشكلة المزدوجة هي مشكلة الطريقة الشعرية، ويلمح في أساسها تلك المفاضلة بين مذهب النظم ومذهب المعاني؛ وأحيانًا بين ما يسمى الطبع والصنعة في الشعر؛ وظل الحال كذلك حتى ظهر المتنبي، وقامت من حوله معركة شعرية عنيفة دامت طويلًا، ولم تكن القضية هنا ثنائية بطبيعتها، غذ كانت في أكثر من دائرة الشعر جملة، كما فعل النقاد المتأخرون في الأندلس من شيوخ ابن خلدون، إلا إنها كانت تتذرع بدرجة من الإنصاف لا تلبث أن تزول، وإذن فمن الممكن أن نتصور المشكلة مزدوجة وهي وضع التراث كله جملة في ناحية ووضع شعر المتنبي في ناحية أخرى ومحاولة الموازنة بينهما للقضاء على الثاني، وفي سبيل هذه الغاية ضاعت الفروق التي ثارت بين ابي تمام والبحتري، ورضي النقاد بهما معًا - رغم ما كان بينهما من تفاوت - بعد أن تصارعت الأذواق حول طريقتهما ردحًا طويلًا من الزمن. ولكن هل يمثل الشعر العربي كله حتى المتنبي نوعًا من الوحدة التي تلتقي عندها الأذواق المختلفة لقاء ترحيب وتزور عن شعر المتنبي؟ ذلك هو الأساس في الخدعة النقدية التي جرفت في طريقها غثاء كثيرًا، وكانت المعركة في الحقيقة قتلًا لحيوية النقد، إذ أصبح على الناقد إما أن يقبل على المتنبي ليسهم في النقد وإنما أن يذهب في إعادة صياغة المشكلات القديمة، فإذا
1 / 16
انتهى الأمر إلى ابن الأثير قبل الشعراء الثلاثة أبا تمام والبحتري والمتنبي - على إدراك للتفاوت بينهم - ليتخلص من الشعر القديم جملة؛ ولكن من يقرا " منهاج البلغاء " لحازم يحس انه يضع قواعده النقدية وضعًا جديدًا وفي ذهنه أن " المثل الأعلى " للشعر هو المتنبي؛ ولسنا ندري هل كان من حسن حظ النقد الأدبي عند العرب أو من سوء حظه أن جميع المشكلات الهامة التي أثارت كبريات القضايا النقدية قد انطلقت في دور مبكر قصير المدى، واعني بالمشكلات: مسالة الأصالة والانتحال والقدم والحداثة والخصوصة حول طريقتين في الشعر، ومحاولة حل مسألة الأعجاز؟ الخ حتى أصبحت الإجابة على القضايا مجتمعة (مثل قضية اللفظ والمعنى والمطبوع والمصنوع وقواعد الموازنة؟ الخ) من نصيب النقاد في القرن الثالث، وما كان نصيب القرن الرابع إلا زيادة التمرس بها. بحيث أن القاضي الجرجاني عندما أراد ان يشارك في الميدان النقدي وجد جميع الأدوات جاهزة لديه فلم يكن دوره في الحقيقة سوى أن يحسن استخدامها؛ أقول لا ندري بعد المتنبي لم يعد يستطيع إلا تفسيرًا جديدًا لجزئيات صغيرة أو وقفة مطولة عند قضية دون أخرى، وكثيرًا ما أصبحت حيوية النقد بعد ذلك تعتمد على شخصية الناقد نفسه (وأبرز مثل على ذلك ابن رشيق وابن الأثير) باستثناء حازم الذي عاد يستعمل أدوات متباينة مختلفة في منطلق جديد، إلا انه كما قلنا كان قد جعل من المتنبي محورًا لفهم طبيعة الشعر ولم يستطع معاصروه ولا من جاء بعدهم أن يدركوا خطورة حركته الإصلاحية لتباعد الشقة بين القاعدة والأمثلة التي كانوا يمارسونها. وقد يكون المتنبي رسم فعلًا خطًا فاصلًا في الشعر العربي ووقف وحده وقفة شاهرة. ولكنه في الوقت نفسه اثبت عجز النقد ودورانه حول نفسه لا لان الأدوات النقدية عجزت عن ان تفسر كنه تفوقه، وحسب، بل لان هذا النقد نفسه لم يستطع أن يقيم أية علاقة بينه وبين مختلف المستويات الشعرية بعد المتنبي (قبولًا أو رفضًا) .
1 / 17
كان الشعر في جملته يسير في طريق جديدة عبر عنها ابن وكيع حين أصر على أن الشاعر الحق إنما هو " مطرب لا يطالب بمعرفة الألحان "، وكانت الشقة بين أدب العامة وأدب الخاصة قد أخذت تتسع، وكانت الصلة بين الشاعر والراعي قد أصبحت ظلًا لا حقيقة، ولكن النقد لم يستطع أن ينفض عنه جموده العام. نعم ارتفعت هنا وهناك أصوات لتنصف شعر المتأخرين ولترى في الصورة الشعرية وحدها سر التفوق (ابن سعيد الأندلسي مثلًا) بل لتفضل هذا الشعر المرقص المطرب على شعر القدماء، ولكنها أضافت إلى جمود النقد بدلًا من ان تنعشه، لأنها تعلقت بظاهرة واحدة من ظواهر الشعر ونسيت ما عداها. ويكفي أن نذكر كيف ان ابن رشيق أعاد صياغة القضايا النقدية في العمدة بطريقة سهلة ميسرة جذابة، فإذا الكتاب يصبح حجر الزاوية في النقد الأدبي، في المشرق والمغرب على السواء، وكان الناس رأوا فيه كل ما يحتاجون إليه من آراء وتفسيرات، ولم تعد بهم حاجة إلى الاستقلال في التفسير والحكم. هل نقول إن النقد أصبح شيئا " مدرسيًا " ملتبسًا بالبلاغة؟ هل نقول إن الإحساس بالتطور وبالأزمة الناشئة عنه قد كاد ينعدم. (فيما خلا مثلين أو ثلاثة)؟ ذلك قد يكون صحيحًا، وإذا صح فربما كان هو العامل الذي أسلم النقد إلى " مسلمات " أشبه شيء بقواعد البلاغة.
في هذا السياق السابق بلغنا الدور الذي أصبح فيه الناقد القادر على الابتكار غير موجود، أو أصبح شخصية ثانوية لا قيمة لها في النشاط الأدبي (أو في الركود الأدبي أيضًا)؛ ولكنا قطعنا شوطًا طويلًا دون ان نتنبه إلى دور الناقد على مر الزمن، ولهذا كان لابد من ان نعود لنصور هذا الدور فنقول: كان الناقد موجودًا في كل مرحلة، لان ابسط العلاقات بين الإنسان والشعر تحمل في ثناياها حقيقة نقدية، فالنابغة في سوق عكاظ ناقد، وعمر بن الخطاب ﵁ في تفضيله زهيرًا ناقد، والرواة الذين ميزوا - بتعميم شديد - خصائص جرير والفرزدق والاخطل كانوا نقادًا
1 / 18
ولكن الحاجة إلى ناقد ذي منهج وقدرة على الفحص إنما أثارها ابن سلام لأول مرة حين اصطدم بقضية الانتحال؛ ويمكن أن نطور فكرة ابن سلام فلا نراها تقف عند حد الشعر القديم، وإنما سيظل الانتحال موجودًا على مر الزمن وستظل الحاجة إلى هذا الناقد ملحة كذلك؛ ولكن ابن سلام كان يرى المشكلة في الشعر القديم دون سواه، لتوثيق ذلك الشعر كي يظل صالحًا أولًا لرسم الفوارق بين شاعر وآخر على أساس من الصحة في نسبة الشعر، وثانيًا لان هذا الشعر مصدر هام من مصادر اللغة والثقافة. ولكن " ناقد " ابن سلام لم يميز بشيء سوى البصيرة، وهذه البصيرة تأتي من رواية النماذج الصحيحة وحفظها ومن ثم تتربى ملكة النقد والتمييز لديه، فالناقد لدى ابن سلام ما يزال " راوية " حصيفًا مثل خلف الأحمر.
إذن فإن ازدواجية المشكلة هي التي خلقت الحاجة إلى ناقد بصير، أي أن الناقد كان - كما كان من قبل - حكمًا ترضى حكومته؛ فلما نشأت مشكلة الترجيح بين أبي تمام والبحتري زادت سلطات هذا الناقد حتى اصبح هو الحكم الوحيد أو هم " المستبد " الذي يقول فيؤمن الآخرون على قوله، دون أن يسألوه: لم؟ وكيف؟ إلا أن شاء هو ان يبين لهم ذلك. لم يعد الناقد " راوية " بصيرًا، لان الثقافة وحدها لا تصنع ناقدًا، إنما الناقد امرؤ " متخصص " كما هي الحال البناء أو العارف بشئون الخيل أو الخبير في شئون السلاح. فكل منهم يسلم له قوله في صنعته، وكذلك يجب أن يسلم الأمر للناقد، ولا يرد عليه حكمه. والسر في رفع شان الناقد لدى الآمدي هو قضية الموازنة، إذ على الرغم من أن الآمدي حاول أن يقيم موازنته على أسس محسوسة (كأسس البناء وصاحب الخيل وصاحب السلاح) إلا أن الموازنة - كل الموازنة - تبلغ بصاحبها حد الإحالة على عموميات مثل: طريقة العرب. الذوق المألوف؟ الخ؛ وحينئذ يتحول الناقد الذي ظنه الآمدي " عالمًا " إلى " كاهن " يحدس بتيارات خفية؛
1 / 19
بل إنه لو جاز للآمدي أن يسمي ناقده " كاهنًا " - واحدًا من كهان الجاهلية - يدرك اللا منظور من وراء المنظور لما تردد في ذلك؛ ولو قيل للآمدي: هذا ناقد آخر يخالفك في الحكم ويرى رجحان أبي تمام علي البحتري لكان الجواب الحاضر لديه: لكنه ليس بناقد؛ ولهذا تم التطابق بين الآمدي والناقد " المستبد " حتى أصبح الآمدي عند نفسه رمزًا للناقد الذي استشرفت إليه العصور.
وقد لقيت صورة هذا الناقد هذا الناقد الذي لا يعترض على مقراراته وآرائه قبولًا كبيرًا وخاصة لدى الباحثين في مشكلة الاعجاز؛ ذلك هذه المشكلة إلا دقيقة لم تعد سؤالًا عن الموازنة بين الجودة وعدم الجودة - كما هي الحال في الشعر الإنساني - وغنما كانت سؤالًا عن الجودة المطلقة في جهة، بالنسبة لكل درجات الجودة في إنشاء الىدميين، أي أنها زادت من درجة الحاجة للاطمئنان إلى شخص يصدع بحكم لا يجوز أن يواجه بأدنى اعتراض؛ وقد وضعت مشكلة الأعجاز النقد الأدبي كله على أبواب " منطقة اللا تعليل " فكبرت الناقد كثيرا وأوقعت النقد في حيرة لم يستطع الفكاك منها؛ ولهذا عاد الباقلاني إلى ناقد الآمدي فمنحه أسمى منزلة، بعد أن استنفد راي الآمدي في روعة التأليف؛ وعاد عبد القاهر يحاول أن يبسط التعليل في مستويات الجودة في الآدميين، شاعرًا انه هو الناقد الذي يستطيع أن يحل المشكلة، ورغم براعته الفائقة في التحلي والتعليق فإنه لم يستطع أن يمس فكرة الأعجاز غلا لمامًا. ومرة أخرى وجد القاضي الجرحاني ملاذه لدى " ناقد " الآمدي، لأنه حين أقر - شأنه شأن القاضي المنصف - بسيئات المتنبي وأقام بينه وبين الشعراء الآخرين نسبة معقولة من القرابة والمشابه، وقف عند الباب المغلق وهو القدرة على إبراز النواحي الإيجابية أو الكشف عن حقيقة الروعة في شعر المتنبي، فاطمأن إلى حكم الناقد الذي يجب أن يؤخذ قوله بالقبول إذا هو قال إن هنالك روعة لا تحد، وكفى.
1 / 20
وإذا كانت الروعة (أو أقصى درجات الجودة) من الأمور المحيرة للنقد فما أحرى أن يكون الأعجاز فوق مجاله بكثير. وحين عرض حازم لهذه المشكلة سماها " كمال الشعر "، فأقر بأن كل بحث في النقد يعز عليه استقصاء الأمر فيها، أي أن الناقد يجب أن يقف عند ما تمكنه أدواته من الحكم فيه. فأما الكمال فإنه شيء نظري ربما قصرت الأدوات المتوفرة عن التمرس به. وعند الحديث عن صورة الناقد في النقد العربي يجب ألا ننسى أن " الناقد الشاعر " كان هو النموذج الذي تنسب إليه الإجادة في النقد، ولا يشذ عن هذه القاعدة غلا التقدير الخاص الذي لقيه قدامة بن جعفر - ولم يكن شاعرًا - ولكن تقديره إنما كان لوضوح منهجه ودقة مصطلحه، لا لخبرته النقدية بجمال الشعر.
وحين تحدد دور الناقد وميز بحقوق خاصة به ومجال لابد له من ان يعمل فيه ظهرت الحاجة إلى مصطلح نقدي. وكان ما أداه الخليل في مصطلح العروض دليلًا يهتدي به أوائل النقاد؛ فإن الخليل ربط في ذلك المصطلح ربطًا وثيقًا بين الشعر وبيت الشعر (البيت، الوتد، السبب، الإيطاء؟ الخ) . أي كانت خلاصة موقف الخليل أن الشعر ولد في البداوة ولهذا فأنه صورة للكيان البدوي، ومصطلحه يمكن ان يأخذ من ذلك الكيان - (وهذه الفكرة قد أطنب حازم من بعد في تحليلها والإفادة منها في فهم العلاقة بين الشعر وطبيعة البيت البدوي ومثال ما قاله: " وجعلوا اطراد الحركات فيها الذي يوجد للكلام بين استواء واعتدال بمنزلة أقطار البيوت التي تمتد في استواء. وجعلوا كل قطر به وذلك حيث يفصل بين بعضها وبعض بالسواكن. ركنًا؟ وجعلوا الوضع الذي يبنى عليه منتهى شطر البيت وينقسم البيت عنده نصفين بمنزلة عمود البيت الموضوع وسطه. وجعلوا القافية بمنزلة تحصين منتهى الخباء والبيت في آخرهما
1 / 21
وتحسينه من ظاهر وباطن؟ الخ) (١)؟ ولهذا التف أوائل النقاد إلى حياة البداوة في اختيار المصطلح، فكان مصطلح " الفحولة " الذي اختاره الأصمعي، وربما لم يكن هو اول من استعمله، مستمدا من طبيعة حيوان الصحراء - وخاصة الحمل - قبل أن يكون مستمدا من حقيقة التماييز بين الرجال في هذه الصفة، واستعار صاحب كتاب " قواعد الشعر " مصطلحه من الخيل حين جعل الأبيات غراء ومحجلة ومرجلة، ومن المدهش أن حازمًا رغم اتساع المصطلح لديه عاد - بعد قرون - يستعمل مصطلحين مستمدين من الفرس وهما التسويم والتحجيل، ولم يكف النقاد عن الالتفات للبداوة في اختيار المصطلح، وحسبما أن نذكر مصطلح " عمود الشعر " الذي نلقاه لأول مرة عند الآمدي، فأنه وثيق الصلة بالخباء.
غير أن المنبع البدوي لا يستطيع أن يمد الناقد بكل ما يحتاجه من مصطلحات وخاصة حين يخضع الشعر لتفننات الصنعة على مر الزمن أو تقوى فيه التيارات الثقافية، فجمع ابن المعتز عددًا من المصطلحات في كتاب " البديع " من أبرزها " الأثر الكلامي " - وهو مصطلح يدل على أثر الاعتزال في طبيعة التعبير وفي المصطلح النقدي على السواء. غير أن محاولة ابن المعتز تعد أولية ساذجة إذا نحن قارناها بما صنعه قدامة، فغن التفات قدامة إلى قيمة المعنى جعله يحاول إيجاد " منطق " للشعر، منطبق تمامًا على أصول المنطق العقلي، ولهذا كان أول من حدد جودة المعنى: بصحة التقسيم وصحة المقابلات وصحة التفسير والتكافؤ؟ الخ؛ وجعل أضدادها دلالة على رداءة المعنى أو فساده؛ ورغم التعديلات الكثيرة التي أجراها النقاد من بعد على مصطلحات قدامة - كالحاتمي مثلًا - فإنها التي ميزته لدى النقاد اللاحقين؛ هذا في المعاني من حيث قيام الشعر بها. أما المعاني من حيث تداولها فقد تطلبت مصطلحًا آخر مثل الأخذ والتوارد
_________
(١) مناهج البلغاء: ٢٥٠ - ٢٥١.
1 / 22