اسب سبز بر خیابانهای آسفالت میمیرد
الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت
ژانرها
سأله الرجل ضاحكا: وكيف أطيعك، إذا كنت سأشتريك؟ أجابه الفيلسوف المربوط بالأغلال: لأنني سأعلمك، ولذلك سأكون سيدك! ولأنه إذا كان هناك طبيب أو ملاح يعيشان في الأسر فلا بد لكل منهما أن يطاع!
أعجب الثري المذهول بكلام العبد الغريب، وقرر أن يأخذه معه ليعلم أولاده، ولا بد أنه رضي عنه تمام الرضا، فقد قال عنه لأصحابه فيما بعد: إن روحا طيبا دخل بيتي، ولا بد أنه ازداد إعجابا بغرابته وشجاعته حين حاول بعض أصدقائه الذين استمعوا إلى دروسه أن يفتدوه، فقال: إنهم بلهاء؛ لأن الأسود ليست عبيدا لمن يطعمها، بل إن من يطعمونها يقعون تحت رحمتها! ولا شك أننا لا نستطيع أن نأخذ كلمة الأسود مأخذ الجد، ولا نصدق أنه كان جادا في حسبان نفسه من الأسود، على حين أنه يعيش عند إكسينياديس المذكور معيشة العبيد؛ أعني معيشة الكلاب، ولكننا من ناحية أخرى نميل إلى تصديق ما يقال من أنه - وفاء لكلبيته المشهورة - لم يعلم أبناء سيده الجدل أو اللغو بالعبارات العويصة الخلابة، بل علمهم كيف يكتفون بفتات الخبز والماء البارد؟ وكيف يسيرون في الشوارع حفاة صامتين، لا يتلفتون حولهم؟
هذه الحكايات - كما ترون - قد تدل على ضعة الكلب ومهانته، أو على تواضع الحكيم وانكساره. وإذا كنتم لا تقنعون به برهانا على كلبيته فيكفي أن أوجه انتباهكم إلى سلوكه المشهور في شوارع أثينا وحاراتها وأسواقها ومسارحها وعلى سلالم معابدها ومدارسها؛ فربما رأيتم مع بعض الرواة أنه كان كلبا لا يرقى الشك في كلبيته، ستذكرون أولا ما قلته على لسانه من قبل من أنه كلب من النوع الذي يثني عليه الجميع؛ ولكن ما من أحد يجرؤ أن يصحبه معه إلى الصيد. إنه إذن - لو صح هذا التعبير - كلب مغرور! ولكن دعكم من كلامه ولننظر في أفعاله.
تخيلوا معي رجلا أشعث الشعر، رث الثوب - أقول الثوب ولا أقول الثياب - متجهم الوجه، حافي القدمين، قذر اليدين والأظفار، يحمل جرابا على ظهره، ويكشر عن أسنانه كلما قابله الأطفال وصاحوا في وجهه: ها هو ذا الكلب! ها هو ذا الكلب! إنه يمشي على الثلج في الشتاء، وينام في أي مكان تحت السماء، ويشير إلى النجوم قائلا: ها هم أولاء الأثينيون يرعونني ويقدمون لي مكانا آوي إليه.
يحمل في جرابه رداء يطويه في النهار ويتغطى به في الليل، ويضع فيه زاده القليل الذي لا يزيد عن كسرات من الخبز، ويضع حبات من الزيتون تصدق بها عليه المحسنون، يحمل في يده صحفة قديمة يأكل فيها ويشرب، بل إنه - فيما يقال - قد استغنى عن هذه الصحفة أيضا حين رأى ذات يوم طفلا يشرب من النهر براحة يده، وقال: إن طفلا صغيرا قد فاقني في بساطة الحياة. ومع أن هذا القول يوحي بإعجابه بالأطفال فإنهم فيما يبدو لم يكونوا يتركونه في حاله؛ فربما استرعاهم منظره وهو يسير شبه عار في الشوارع، أو يجلس وحيدا على قارعة الطريق يلتهم اللحم الطري، أو يقرض العظام التي يلقي بها الأثرياء من موائدهم، فيلتفون حوله ويصيحون: حذار وإلا عضنا. فيرد عليهم قائلا: لا تخافوا يا صغار؛ فالكلب لا يأكل البنجر!
ولا بد أنه سئم تعقب الأطفال له أينما ذهب، أو سخرية النساء والأغنياء به كلما شاهدوا هيئته الزرية، أو من تأفف الفلاسفة منه كلما سمعوه يتحاور في الفلسفة مع أنه لم يحمل يوما كتابا ولا شأن للكلاب بالفلسفة! لا بد أنه سئمهم جميعا؛ فاختار أن يلجأ إلى برميله المشهور، ينام فيه بالليل؛ ليحتمي من برد الشتاء، أو يتدحرج به في النهار بعيدا عن أعين الصغار والكبار، حقا إن احتماءه بالبرميل كان دليلا على زهده وقوة إرادته وإيثاره شظف العيش؛ ولكن هل خلصه من الناس أو منعهم من أن يطلقوا عليه صفة الكلب؟ العكس هو الصحيح؛ فقد أصبح البرميل علما عليه، وزاد بالطبع من اهتمام الناس به، ومشاكسة الأطفال له، وجذب الغرباء والمتطفلين إليه! ولا نستطيع أن نعرف الآن إن كان التجاؤه إلى هذا البرميل المشهور فرارا من أعين الناس وحبا في الوحدة والانفراد، أو كان رغبة منه في الخلو إلى نفسه والتعمق في ظلماتها ومتاهاتها! وهل كان ذلك لزهده في الظهور أمام الناس، أو كان إمعانا في الظهور وحبا في الاستعراض كما نقول اليوم؟
لا ندري على وجه التحديد! والمهم أنه وضع نفسه في البرميل، وراح يتدحرج به على الثلج أو فوق التراب كلما احتاج إلى الحركة؛ لقد أراد أن يقول للناس: لقد استغنيت عنكم واكتفيت بنفسي، تركت الكوخ والبيت، سئمت المعبد والمسرح، زهدت في الظهور أمامكم بثيابي المتسخة الممزقة التي تؤذي ذوقكم وأبصاركم، فاتركوني أعيش في برميلي في هدوء!
ولكن هل تركوه حقا يعيش حياته في هدوء؟ وهل كان هو نفسه يريد أن يتركوه وينسوه؟ لقد ظلوا مع ذلك يسمونه الكلب، بل إن حياته في البرميل المشهور قد أكدت لهم كلبيته أكثر من أي شيء سواه، ويظهر أنه يئس من زوال هذه الصفة عنه؛ فحين أطل برأسه ذات يوم من البرميل ليرد على من يسأله: لماذا سمي كلبا؟ قال له: إنني أهز ذيلي لمن يعطيني شيئا، وأنبح من يردني، وأعض بأسناني اللئام والأنذال!
لا شك أن هذه الإجابة تحمل في طياتها قدرا كبيرا من التكبر والغرور، وإذا كنا لا نستطيع كما قلت أن نتصور كلبا مغرورا فقد نستطيع أن نستثني كلبنا الفيلسوف من ذلك ونقول مع بعض الرواة: إنه كان مغرورا بحق، وإن كلبيته لم تكن سوى دليل على غروره الفظيع، ربما كان في تجواله في شوارع أثينا بشعره الأشعث المنسدل على أذنيه، ومنظره الزري القذر، وجراب الشحاذين على ظهره، وضراوة الوحش في عينيه وتكشيرة أسنانه، أو في دحرجته برميله هنا وهناك بلا هدف معلوم؛ ربما أراد بذلك أن يقول للأثينيين: لست كلبا؛ بل أنتم الكلاب! إنكم تحرصون على التقاليد، وتذلون أنفسكم لجمع المال، وتتباهون بالثياب الجديدة والمساكن الجميلة، وتصانعون الطغاة وتجاملون الأغبياء من الحكام والقواد والأغنياء، وتهتمون بثرثرة السفسطائيين والفلاسفة الذين يخدعونكم بكلامهم المعقد المسحور؛ ولكن ها أنا ذا قد زهدت في المال والثياب والحكم والكلام البراق، ها أنا ذا أعيش وحيدا محروما، جائعا، حافيا، مكتفيا بنفسي؛ فمن فينا الكلب أيها الكلاب؟
ربما لم يقل كلبنا المدهش كل هذا الكلام، ولكن النوادر التي تحكي عن غروره وشراسته أكثر من تلك التي تروى عن ذله وانكساره؛ لقد هاجم الجميع، واحتقر الأثينيين حتى استكثر أن يسميهم الرجال (لا تنسوا أنه أخذ ذات يوم يصيح مناديا: يا رجال! فلما تجمع الناس جرى وراءهم بعصاه قائلا: لقد ناديت الرجال ولم أناد الكلاب!)
صفحه نامشخص