ولم يلبث الكاتب عند هذه الذكريات المحزنة طويلا، ليفرغ إلى رواية حياته الثقافية، فقد كانت أولى خطاها تلك الأعوام الأخيرة من عشرينيات القرن ثم استمرارها إبان عقد الثلاثينيات، وهي فترة كان الكاتب فيها مستمعا لما يقوله الآخرون أكثر منه ناطقا بما عنده يسمع الآخرون، وها هنا نراه يصف للقارئ كيف ازدحمت حياة الناس الثقافية في بلادنا، بالأفكار القوية، ينقلها كاتبوها عن الغرب الحديث أو القديم حينا وعن أسلافنا حينا آخر، وكان لا بد للقارئ الطموح يومئذ من المقارنة بين تلك الأفكار المعروضة؛ ليأخذ منها ما يراه صالحا لطبيعته، ويترك ما لا يصلح، وهنا يروي لنا الكاتب عن نفسه أنه قد مال بكل عقله وقلبه نحو فكرة «التقدم» من مجموعة الأفكار التي امتلأت بها الصحف والكتب، وفكرة «التقدم» هذه هي من الأفكار المركبة التي تحتوي على أبعاد كثيرة، فمنها أن الآخذ بها لا بد له أن يجعل نفسه على اعتقاد راسخ بأن الحاضر قد هضم الماضي ثم أضاف جديدا تلو جديد مما أنتجته السنون، ومعنى ذلك ألا يكون «العصر الذهبي» وراء ظهورنا، بل يكون موضعه الصحيح هو في المستقبل الذي يعمل الناس على بلوغه، ومن هنا تكون فكرة «التقدم» محتوية على وجوب «التغير» مع متغيرات الحضارات المتعاقبة، و«التطور» الذي ينقل صور الحياة نحو ما هو أعلى، ومعنى ذلك وجوب الاهتمام ب «المصير» ولا ينفي ذلك الاهتمام أن تجيء قوائمه مستندة إلى تراثنا الذي تركه لنا السلف على ألا يكون في حياتنا الحاضرة بمثابة النهاية التي نقف عندها، بل يكون بين أيدينا نقطة ابتداء نجاوزها إلى مستلزمات حاضر حي ومستقبل مأمول.
كانت فكرة «التقدم» التي أخذ بها الكاتب اختيارا من كثرة الأفكار المعروضة على أقلام أعلامنا وأعلام الفكر من الغرب، ثروة عقلية تركت أثرها في نفسه، إذ يصاحبها بالضرورة كتابات طويلة عريضة عميقة عن القيم الكبرى التي بغيرها لا تتقدم حياة الإنسان خطوة واحدة، كالحرية والعدالة والمسئولية الخلقية للفرد، بما يجعله كائنا مستقلا لا تفرض عليه التبعية لأحد سوى ضميره، إلا أن تكون تلك التبعية باختياره الحر، وغير ذلك من «القيم» التي تستوجبها فكرة «التقدم»، لكن الكاتب إذ يعترف بفضل أعلامنا فيما كتبوه ونشروه خلال العشرينيات والثلاثينيات مما يجري في هذا السياق، لا يفوته أن يستدرك فيذكر لهؤلاء الأعلام أنفسهم نقيضة تركت بدورها أثرا عميقا في نفسه، وتلك هي أن هؤلاء الأعلام - وقد نشروا ما نشروه في سبيل تلك القيم الإنسانية العليا - لم يستطيعوا هم أنفسهم أن يقيموا حياتهم الاجتماعية على أسسها فكأنما أرادوا الحرية لأنفسهم دون سائر من يتعاملون معهم من عباد الله، وقل ذلك في جميع القيم التي بشروا بها، وواضح أن صاحب الدعوة إلى التقدم إذا لم يخضع حياته الشخصية لما يدعو إليه جاءت دعوته ضعيفة الأثر في حياة الآخرين.
وجاءت سنوات الأربعينيات مثقلات بما حملت من أحداث وتحولات وكان ذلك على مستويات ثلاثة: حياة الكاتب الصحفية وحياة الوطن المصري والقضية العربية، ثم العالم كله بجميع أطرافه، فأما حياة هذا الكاتب فقد حدث في مسارها تغير بدا كما لو كان تغيرا مفاجئا، لكنه في حقيقة الأمر كان أمرا متوقع الحدوث، وإن يكن قد تأخر وقوعه عما كان منتظرا، وهو أن سافر الكاتب في بعثة دراسية للحصول على الدكتوراه في الفلسفة، ولقد تحقق له ذلك والحرب العالمية الثانية ملتهبة السعير، فرأى هناك المسافة البعيدة بين كرامة الإنسان كيف تصان هناك مهما يكن شأنه من فقر أو غنى، ومن علم أو جهل، ومن ارتفاع في المنزلة أو انخفاض، وبين كرامة الإنسان في بلادنا كيف يمكن أن تهان، وأما على مستوى الوطن المصري والأمة العربية، فقد حدث في الأربعينيات الوسطى أن أنشئت الجامعة العربية، وحدث في أواخرها أن صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، ولم يمض بعد صدور القرار إلا بضعة أشهر حتى أعلن قيام دولة إسرائيل. في الفترة الفاصلة بين القرار وقيام الدولة الجديدة نشبت حرب بين العرب واليهود كان النصر فيها لليهود، ثم كان بعد ذلك ما كان، وما لا يزال كائنا من أحداث جسام يعرفها ويعانيها كل عربي، ومعظمها أحداث تصرخ من ثناياها العدالة، وماذا أنت صانع في دول قوية غنية جبارة كأنما أقسمت أمام الله أن تعلي الكلمة الظالمة؟! ونقول ذلك لتذكرة إذا ما شهدنا لتلك الدول نفسها بجبروت العلم وقوة الابتكار، وأما على المستوى الأعم والأشمل، وأعني مستوى العالم كله، وما قد شهده من تغير وقع بالفعل أو تغير في طريقه إلى الحدوث بعد حين، فقد رآه هذا الكاتب تغيرا من الجذور؛ لأنه يتضمن انتقالا من حضارة وهنت وذهب ريحها إلى حضارة جديدة تتأهب للظهور.
وفي ظن هذا الكاتب أن التغير الكبير الذي يسير بكوكب الأرض نحو حضارة جديدة قد تتكامل صورتها في القرن الحادي والعشرين، إنما هو تغير سبقته إرهاصات على طول القرن الماضي، ولك أن تمعن النظر في حقائق الحياة الواقعة إبان القرن التاسع عشر، لترى فارقا عجيبا بين حياة الفكر عند عمالقة المفكرين عندئذ، وبين صور الحياة الفعلية كما يعيشها الناس، فأما حياة الفكر النظري فقد شحنت بما يدل على انقلاب في وجهات النظر، إذ انتقل المفكرون - فلاسفة وعلماء وأدباء على حد سواء - انتقل هؤلاء جميعا بتصورهم للكون في حقيقة أمره، من أن يكون كتلة فيها قصور ذاتي لا يتيح لأي تغير أن يطرأ على أي شيء إلا إذا أحدثه له عامل خارجي عنه، إلى أن يتصوروه كونا كالكائن الحي، يأتيه التغير من ذاته هو، فهكذا خلقه خالقه ليكون التغير المتصل سنته.
كان ذلك التصور الدينامي للكون يقطع أشواطا بعيدة في حياة الفكر النظري إبان القرن الماضي، بينما كانت تجاوره حياة الناس العملية التي أخذت على نفسها أن تتحجر فيها التقاليد، بحيث لا يسمح لشيء فيها بأن يختلف يومه عن أمسه، أو يختلف غده عن يومه، ومثل هذا البون الشاسع من اختلاف الصورة بين رؤية الفكر النظري من جهة، وحقيقة الحياة في واقعها المرئي والمسموع، كان لا بد أن يثير القلق في النفوس، بحيث يصبح من الأرجح أن ينفجر هذا التوتر بين شطري الحياة: الفكر النظري والحياة كما هي واقعة، وماذا يكون ذلك التفجر إلا حروبا وثورات ؟ وذلك هو ما حدث، وكان نصيب هذا القرن العشرين هو أن يشهد ذلك الحدوث؛ إذ شهد بالفعل حربين عالميتين: أولى وثانية، كما شهد بين الحربين عددا كبيرا من ثورات الشعوب.
وعلى ضوء هذه الرؤية فلننظر إلى الحرب العالمية الثانية (انتهت سنة 1945) لنراها - كما رآها هذا الكاتب - مؤذنة بتغيرات عميقة في حياة الناس، وهي تغيرات من شأنها حتما محتوما أن تنتهي إلى صورة حضارية جديدة هي الآن في طريق التكوين، وما هذه الفترة الزمنية التي يحياها العالم الآن إلا فترة مخاض، ومن ثم فكل صور الحياة مرتجة متقلبة كأنما هي تبحث عن الوضع الجديد الذي يراد لها أن تستقر فيه.
ولقد شهدنا بالفعل منذ نهاية تلك الحرب حتى يومنا هذا حريات للشعوب والأفراد والجماعات على نطاق واسع، فكل الشعوب التي كانت مستعمرة استقلت عن مستعمريها، ونهض العمال في صحوة يطالبون فيها بحقوقهم الضائعة، وكذلك فعلت المرأة، وهكذا فعل الشباب، ولقد شهدت أعوام الأربعينيات إعلان الميثاق الذي يحدد حقوق الإنسان (في العاشر من ديسمبر سنة 1948) وشهدت قبل ذلك قيام منظمة الأمم المتحدة، وفي مثل هذا المناخ المليء بالتغيرات والتوقعات، كان هذا الكاتب، حيث كان، يدرس ويقرأ ويراجع ويتأمل، لإنجاز ما قد سافر من أجله أولا، ولكنه كذلك لم تأخذه غفوة تلهيه عن اقتناص سويعات يكتب فيها سلسلة من مقالات أدبية (وأعني بكونها أدبية أنها شكلت على نحو ما تبني مبدعات الأدب والفن في جميع أنواعهما) وكان يبني كل مقالة على مضمون يراد به أن يوقظ القارئ العربي على الكثير الذي فاته في عصر التحولات، وجاءت سنوات الخمسينيات وكان الكاتب قد عاد إلى أرض الوطن وفي ذهنه تصور واضح لما ينبغي أن ندعو إليه في دنيا الثقافة بصفة عامة، وفي مجال الفكر الفلسفي بصفة خاصة والعلاقة قريبة ووثيقة بين الجانبين؛ لأن الفكر الفلسفي لا يحقق ذاته إلا إذا كان مداره آخر الأمر تحليلا نقديا للحياة الثقافية القائمة، وهو تحليل من شأنه أن يرد الفروع المختلفة التي منها تتألف الحياة الثقافية في بلد معين وفي عصر معين، إلى محاورها العامة المشتركة؛ لأن هذه المحاور إذا تبينت حدودها، تبين معها الطابع المميز لذلك العصر في ذلك البلد، وبالتالي فإن ذلك يلقي الضوء على العصر في العالم أجمع - بدرجات متفاوتة بين أقطار العالم المختلفة - لأن العصر الواحد قمين أن يمد الروابط والصلات بين سكان الأرض جميعا، بدرجات متفاوتة كذلك.
ومن معالم الرؤية الواضحة التي عاد بها هذا الكاتب معتزما أن يجعلها برنامج عمل يهتدي به في نشاطه الفكري، أن ما قد تقدم به الغرب يمكن أن نتقدم به نحن، على مستوى الوطن المصري، وعلى مستوى الأمة العربية في آن واحد، دون أن تضيع منا الهوية هويتنا التي لازمتنا فميزتنا على امتداد عصور التاريخ، وما الذي تقدم به الغرب ثم فاتنا نحن فتخلفنا؟ إنه على وجه التحديد العلوم الطبيعية ومناهجها؛ لأن العلوم الطبيعية ومناهجها هما اللذان استحدثا مع النهضة الأوروبية، ولأسباب تاريخية وقف العربي حيث كان ولم يقدم على تلك الخطوة الجديدة، إذ على الرغم من التطور الذي تحقق في العلوم الرياضية خلال العصر الحديث، فقد كان في وسع العربي أن يساير ذلك التطور دون أن يشعر بشيء من الغرابة أو العسر؛ لأنه هو وجميع القوميات الأخرى في العالم كله، قد انتهجوا بصفة أساسية منهج التفكير الرياضي، الذي هو أن يبدأ العقل من مسلمات تؤخذ مأخذ الصواب، ثم يستخرج منها نتائجها، ولا بد لنا في هذا السياق من الحديث، أن نذكر التفوق الملحوظ في قدرة العقل العربي على هذا الضرب من الاستدلال الرياضي، سواء أكان موضوع البحث رياضة بالمعنى المألوف لنا جميعا في الرياضيات، من حساب وهندسة إلى جبر كان للعرب فضل إيجاده بعد أن لم يكن موجودا، أم كان موضوع البحث شيئا آخر، لكنه ينتهج منهج توليد النتائج من مقدمات مسلم بصحتها مقدما.
أما العلوم الطبيعية فشيء نستطيع أن نقول عنه في غير حرج، إنه جديد جدة شبه كاملة إذ إنه قد ولد مع النهضة الأوروبية، ولا ينفي هذا التعميم الجارف أن يكون عالم في العلوم الطبيعية قد ظهر هنا أو هناك من أقطار الأرض التي أسهمت في إقامة البنيات الحضاري؛ لأن العصور لا يتميز طابعها الخاص بفرد لم تنشأ قبله ولا نشأت بعده حركة يتكون منها تيار دائم، شأنها في ذلك شأن الربيع، لا نقول عنه إنه قد حل إذا رأينا عصفورا واحدا كالتائه الذي ضل السبيل.
وإن الأمر ليزداد وضوحا إذا تذكرنا أن العلوم الطبيعية في عصرنا هذا قد أخذت صورة لم يكن يحلم بها السابقون، حتى أولئك الذين ظهروا في النهضة الأوروبية، وما بعدها خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فهؤلاء لم يكادوا يستخدمون الأجهزة في حياتهم العلمية إلا بصورة بالغة البساطة والندرة بالقياس إلى ما تتميز به تلك العلوم في عصرنا هذا، إذ الأجهزة في عملية البحث العلمي، ثم الأجهزة التي تنتجها البحوث العلمية لتدخل في حياة الناس العملية، أصبحت أمرا جوهريا لا يكون العلم علما بغيرها.
صفحه نامشخص