أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم .
إلى هنا قد رأينا طريقين يمكن للفكر الفلسفي بسيره في أي منهما أن يبلغ «التوحيد» الذي ينشده فيما يراه من كثرة ظواهر وكائنات؛ كان أولهما طريق «القيم»: الحق، والخير، والجمال، وهي القيم الكبرى التي تحمل في جوفها جميع القيم التي نهتدي بها في حياتنا، «فالحق» في مجال المعرفة العلمية وما يدور مدارها و«الخير» في مجال السلوك التقي المستقيم وهو نفسه السلوك الذي جاء «الدين» ليرسم صورته أمام الناس، ثم «الجمال» الذي يشير إلى الحالة الوجدانية التي يشعر بها الإنسان إزاء ما يعمله بدافع المعرفة وما يعمله بدافع الدين، وأما الطريق الثاني الذي قد يسلكه الفكر الفلسفي؛ التماسا «للوحدة» المنشودة في ظواهر الكون وكائناته، فهو طريق النظر إلى التشكيلات اللغوية والرمزية التي استخلصها الإنسان في تدوين ما «عرفه» عن الأشياء، وما «أحس» به من ضروب المشاعر نحو تلك الأشياء، فقد يؤدي النظر إلى تلك التشكيلات اللغوية، وهي التي تحمل «العلوم» و«العقائد» و«الأدب» وغيرها، إلى الوصول إلى جذر واحد مشترك تجيء تلك الأقسام فروعا له.
وهنالك غير هذين الطريقين طرق أخرى يسلكها الفكر الفلسفي للوصول إلى الوحدة المنشودة، لعل أهمها هو ما يلجأ إليه «المتصوفة» وخلاصته: أن يلجأ الإنسان إلى اللقاء المباشر بالوجود العيني بدل أن يلجأ إلى «الأقوال» التي قيلت عن ذلك الوجود، ولأضرب للقارئ مثلا بسيطا يفرق له بين الجانبين: افرض أن أمامنا «وردة» معينة فقال عنها قائل: «هذه وردة حمراء زكية الرائحة.» فهل ترى حقا أن بين هذين الطرفين تكافؤا بحيث نستطيع أن نستغني بالجملة اللغوية عن «الوردة» ذاتها، التي قيلت عنها تلك الجملة؟ الواقع أن العلاقة بين الطرفين لا تؤدي بنا إلى مثل هذا التكافؤ، فبينما «الجملة» مؤلفة من عدة كلمات وكل كلمة منها مؤلفة من عدة حروف، نرى «الوردة» كائنا موحدا، إن «الجملة» جعلت للون الأحمر اسما قائما وحده وجعلت للرائحة الزكية رموزا قائمة وحدها، وأما «الوردة» فلا انفصال فيها بين جسمها ولونها ورائحتها، كل هذه الجوانب التي باعدت بينها «اللغة» نراها في «الشيء» مدمجة بعضها مع بعض موحدة كلها في وجود واحد، وهكذا يرى «المتصوف» من الفلاسفة وأعني «التصوف» من حيث هو «منهج» للنظر يفضل أن يمس بوجدانه حقائق الأشياء، فإذا وجد نفسه مضطرا إلى اللجوء إلى «اللغة» ليعبر بها عما أحسه من وحدة كونه، كان على بينة بأنه في الحقيقة لم يضع فيما كتبه وجدانه الذي شعر به، إذ لا حيلة لأحد يستطيع بها أن يبلغ الآخرين وجدانه الداخلي، فهيهات للمحب - مثلا - أن ينبئ الآخرين عن حقيقة حبه بكلمات يقولها، إذ الكلمات هي كلمات وليست شعورا ينبض به قلب، وهكذا الحال فيمن أحسن الوحدة في الوجود، وهو إحساس يقرب صاحبه من إدراك الواحدية والأحدية في خالق الكون سبحانه وتعالى.
لقد سرت مع القارئ في رحلة ارتحلناها معا في «مطبوعتنا الزرقاء» التي تصور بالخطوط الأولية أقسام المعرفة الأساسية: العلم، والدين، والفن، والفلسفة، إيمانا منا بأن أول النهج المؤدي بصاحبه إلى «رؤية» صحيحة هو وضوح الفكر، ولن يتأتى لإنسان هذا الوضوح إلا إذا درب نفسه على إدراك الصلات والفواصل بين الأفكار، أو بين المعاني وبالتالي بين المواقف والأشياء، فليس في الناس من هو أشد جهلا ممن يخلط الأفكار والمعاني والأشياء والمواقف بعضها ببعض ثم يحسب أنه قد عرفها ، ألم أقل لك في فاتحة هذه الأحاديث أن أجهل الجاهلين جاهل يجهل أنه جاهل؟ فأود أن أختمها بقولي: إن أعلم العلماء عالم يعني أنه مهما بلغ من العلم فهو لم يؤت من العلم إلى القليل.
إرادة التغيير «1»
قل ما شئت عن معجزات الخلق الإلهي لهذا الكون العظيم بمن فيه وما فيه، فكل ما يصادفك في رحابه الواسعة، من أصغر كائناته إلى أكبرها - إذا كان في وسعك أن تقف عند شيء منه قائلا هذا هو أصغرها، وعند كائن آخر قائلا: وهذا هو أكبرها؛ لأن وراء ما تراه اليوم أصغرها ما هو أصغر منه ينكشف لك غدا، وفوق ما تظنه اليوم أكبرها، ما تعلم غدا أنه أكبر منه - أقول: إن كل ما عساك مصادفته في هذا الكون الواسع جدير بأن يستوقف النظر بما قد انطوى عليه من إعجاز الخلق، وحسبك من هذا الإعجاز ما قد ينكشف للإنسان الباحث سره، وهو سر يتجلى في «القوانين» التي تضبط سيره، بدءا مما هو دون الذرة من جزئياتها فصاعدا إلى المجرات، كل صغيرة في هذا الكون اللامحدود وكل كبيرة محكوم بقانون أو بمجموعة قوانين، يكشف العلم ما يكشفه، وبمقدار ما يكشف يزداد إدراكا لعظمة الخالق عز وجل، ومع ذلك الإعجاز المتجلي في كل كائن على حدة وقد انتظمته قوانينه حتى لا يكون الأمر في وجوده فوضى فإن «الحياة» متبدية في الكائنات الحية، من أصغر نبتة تنبت من الأرض فصعودا حتى يبلغ الصاعد ذروة «الحياة» متمثلة في الإنسان الذي أراد له ربه بين سائر الأحياء تكريما؛ ففي الإنسان كل ما في الحياة النباتية والحيوانية من أصول حيوية، ثم أضيف إليها قدرات أخرى، كل قدرة منها يبعث إعجاز خلقها على الذهول، عند من يتدبرها مليا ليتأمل روائعها في روية وعلى مهل، وإن هذا الكاتب ليتخير في لحظته هذه إحدى تلك القدرات المعجزات، راجيا قارئه أن يشاركه الوقفة المتأملة فيما اختار، وأعني قدرة الإنسان على «التذكر»، ففي وعاء ذاكرته، ويا له من وعاء الله أعلم بحقيقته! ملايين الملايين من مخزونات المكان والزمان وما قد وقع فيهما من أحداث، منها ما هو مرئي، ومنها ما هو مسموع، ومنها كل ما يخطر ببالك من تفصيلات الحياة كما تقع للأحياء؟ وإذا شئت فاجلس مع نفسك جلسة سارحة، تاركا زمامها إلى أحلام يقظة تتداعى لك فيها قطوف ولمحات من ماضيك، وتأمل عندئذ ذلك السيل الدافق من مشاهد ولقاءات وأحاديث وضحكات وصرخات ودموع تأتيك من مخزون الذاكرة، وكأنها شوارد الإبل في فلاة، فأخذت «الذاكرة» المعجزة العجيبة تنشط لتجمعها لك من هناك ومن هنا لا تدري أنت كيف جاءت بها من أطرافها المتباعدة مكانا وزمانا، ولا لماذا اختارت تلك الشوارد المتباعدة في حدوثها، لتسلكها لك الآن في عقد منضود يقدمها إلى بصيرتك صورة في إثر صورة، وربما ظننت أنها قد تتابعت دون أن تكون بين سابقة منها ولاحقة تلك الرابطة السببية التي تشير إلى نظام يضمها معا في سلسلة متعاقبة الحلقات، إلى أن تعلم شيئا عن «القوانين» العلمية التي استنبطها علماء النفس من دراستهم لأحلام اليقظة وأحلام النوم.
ذاكرة الإنسان كنز نفيس يحمله ولا يدري أين حمله، فهي في جوف صاحبها بمنزلة عالم بأسره فيه أرجاء المكان وآناء الزمان، وفيه أفراد من البشر وجماعات، وفيه أحداث تعلو في بعضها حظوظ فيكون النعيم والضحك، وتهبط في بعضها حظوظ فيكون الشقاء والبكاء، إنه هو العالم كما خبره الذاكر، طواه في ذاكرته طي الحريص على نفائسه يودعها الخزائن الآمنة كي لا يضيع منها مثقال خردلة، لا بل إن صور الحياة التي عاشها صاحب الذاكرة بالطريقة التي حفظت بها وبالطريقة التي يسترجع بها ما يسترجعه الذاكر من أحداث ماضية، لهي أكثر نفعا وأشد حيوية من الحياة الحقيقية التي خاضها صاحب الذاكرة؛ لأن الصور المكنونة في خزائن الذاكرة لا تتقيد بترتيب زمني مفروض عليها، ففي مقدورها أن تعيد ترتيب مراحل العمر، فتأتيك في سرحة واحدة من سرحات أحلامك بصورة من أمسك القريب لتأتيك بعدها بصورة من أمسك البعيد، فللصور في ترتيب الذاكرة منطق خاص ليس هو منطق الحياة كما وقعت ، وقد يضيف الخيال إليها إضافات من عنده ليصلح بها ما كانت قد أفسدته وقائع الحياة الحقيقية كما وقعت بالفعل، فمثلا ربما لقيت إهانة من سليط ذات يوم، وجمد لسانك وقتئذ فلم ترد الإهانة بما تستحقه، فتعود إليه الصورة في أحلام يقظتك أو «أحلام نومك» بعد عشران من السنين، فها هنا يتقدم الخيال برد مناسب يقحمه إقحاما في موضعه المناسب من حلقات الصور المتتابعة.
بمثل هذه الذاكرة في حيويتها وإبداعها راح صاحبنا يستعيد شيئا من حياته الفكرية خلال تلك الحقبة من سنه، وأعني تلك الفترة التي استدارت بها عقود السنين، خروجا من الأربعينيات ودخولا في الخمسينيات، فيذكر فيما يذكره تلك الساعة التي استثيرت فيها ليكتب كذا أو ليكتب كيت، فالعاطفة تثيرها مشاهد الحياة البائسة اليائسة، والعقل يرتب الصورة التي يصورها القلم، وما أكثر ما رسم صاحبنا بقلم الأديب - وليس بقلم العالم في تلك الحالات - وما قد انفعل به من مشاهد الحياة عندئذ، ولم يعد بنا حاجة إلى أن نعيد على القارئ ما قد أسلفناه له في بعض هذه الأحاديث، عما يميز المقالة «الأدبية» مما سواها من فنون «المقالة»، وكانت لصاحبنا قدرة موهوبة بشكر الخالق الوهاب جلت قدرته، وأعني طريقته في صياغة المقالة «الأدبية» إذا ما أرادها في موقف معين، يكفينا تذكير للقارئ أن نذكره هنا بأن المقالة «الأدبية» هي كأي فرع من فروع الفن صورة تقام على «شكل» بحيث يصل المعنى المقصود إلى المتلقي بطريق غير مباشر، وفي تلك المرحلة من عمره، أكثر صاحبنا من تلك الصياغة الفنية ليعرض بها ما أراد عرضه على قرائه، وعلى سبيل التلخيص الموجز السريع نذكر أمثلة ترد الآن من تلقاء نفسها على سن القلم: فمقالة كان عنوانها «عند سفح الجبل» وفيها أنه سمع عن جماعة شأنها عجب تسكن على قمة الجبل فصعد إلى القمة ليرى ويسمع، وإذا هي منطقة سكنية غاية في الأناقة والنظافة والثراء والجمال، وشوارعها كالخالية، وسأل: أين سكان هذا المكان؟ فقيل له إنهم مجتمعون في قاعة المداولة يبحثون في دستور يريدون «للشعب »، وذهب صاحبنا إلى حيث يجتمعون فلم يجرؤ على الدخول، لكنه وقف مترددا عند الباب المغلق وهو باب ينفتح وينغلق كلما جاء عضو أو خرج عضو، وعند كل انفتاحة للباب يتاح لصاحبنا أن يسمع صياح المتحدثين، فلا يسمع إلا كلمة «الشعب» حتى لقد سمعها مئات المرات، ثم هبط من قمة الجبل ليجد عند السفح امرأة حطمتها السنون، ولا بد أن يكون مع تلك السنين عوز ومرض وكدح وعناء، جلست المرأة متربعة على الأرض، وفرشت أمامها رقعة من الخيش رصت عليها قطعا من الحلوى، وكلما مر بها إنسان قالت بصوتها المتقطع البطيء وهي تنش بذراعها الذباب عن حلواها: «حلاوة يا زباين.» فوقف صاحبنا سائلا: بكم تبيعين يا أمي كل هذه الحلوى؟ فأجابت دهشة: كلها؟ كلها؟ إنها بقرشين، فأخرج صاحبنا القرشين ولف قطع الحلوى في صحيفة كانت في يده، أما أين ذهب بها فيترك للقارئ أن يكمل لنفسه الجواب، وكانت تلك المرأة هي «الشعب» الذي من أجله اختلف السادة على قمة الجبل، أيستعيرون له الدستور من فرنسا؟ من بلجيكا؟ من واق الواق؟ وكانت المسكينة بأمس حاجة إلى حياة ترعاها في شيخوختها المحطمة المريضة.
وفي مقالة أخرى عنوانها «عروس المولد» صورة لغلام وقف في برد الشتاء، حافي القدمين، وكانتا قدمين تشقق منهما الجلد حتى لقد كان الغلام يرتكز على يمناهما حينا، وعلى يسراهما حينا، ليريح القدم المرفوعة من حصوات الأرض، أقول: وقف ذلك الغلام قبالة بائع حلوى المولد، مركزا بصره في عروس بعينها، رآها مزدانة ببريقها مسيلة للعابه بحلاوتها، وبينما هو يميل برأسه نحو كتفه في حلم المتيم المشتاق، إذا بكف غليظة تهوى على قفاه فتوقعه صارخا، وينظر ليرى الشرطي فيفزع ... إلخ، وفي ذلك الشرطي تتجسد الدولة الراعية للشعب الباحثة له فوق قمة الجبل على دستور مستورد من «بلاد بره» ملفوف في ورق السلوفان أو في كساء من حرير.
ومن هذا الطراز أخذ صاحبنا يكتب مقالاته الأدبية عشرات منها تلو عشرات، ثم فوجئ صباح يوم صائف، هو الثالث والعشرون من شهر يوليو سنة 1952، بمتحدث في الإذاعة يذيع نبأ الضباط الأحرار، وما هي إلا أيام قلائل حتى دوت أرضنا وسماؤنا بما يعلن عن ثورة لإقامة «عدالة اجتماعية»، وها هنا تطابق الصوت مع الصدى، وجاء الواقع محققا للحلم، نعم، إنها «عدالة اجتماعية» ما يريده الشعب، وسرعان ما أخذت بشائر إنصاف الجماهير يعلن عنها واحدة في إثر واحدة، وكانت فاتحة التغيير إعادة النظر في ملكية الأرض الزراعية، ولم تمض بضعة أشهر حتى أنشئت وزارة جديدة أسموها وزارة الإرشاد القومي (أو ما فيه هذا المعنى) وهي التي تطورت لتصبح فيما بعد «وزارة الثقافة»، وخوطب صاحبنا يوم إنشائها ليضيف إلى عمله الجامعي منصبا قياديا في تلك الوزارة الناشئة، فظنها فرصة سنحت، تمكنه من أن ينقل بعض رؤاه فيما يتصل بتكوين المواطن المصري ثقافيا بحيث يتلاءم مع مقتضيات ينقلها إلى عالم التطبيق، لكنه سرعان ما تبين له أنه يحلم في واد، وأما واقع الحياة في تيارها الجاري ففي واد آخر، لقد حسب أخونا أن عبارة «الإرشاد القومي» يراد بها رسم خطة جديدة لمستقبل الثقافة في تفاوت مستوياتها، وإذا بالمقصود هو المشاركة في ترتيب «الدعاية» وتوجيهها في سبيل التبشير بالثورة وأهدافها، وإنها لثورة، وإنها لأهداف، جاءت حقا معبرة أصدق تعبير عما كان يضطرب في صدورنا جميعا، لكن «الدعاية» لها بتلك الصورة المباشرة المطلوبة، هي آخر ما كان يستطيعه صاحبنا، فللدعاية بمعناها المعروف قدرات وشخصيات ليست هي، ولم تكن قط في يوم، قدرات صاحبنا وشخصيته، فهو دارس مدقق في المعاني، خجول، منطو، وهي - أي الدعاية - تريد من يأخذ المعاني على إجمال ظاهرها، كما تريد الجريء الذي لا يبالي مواجهة الجمهور، فلم يكن بد أمام تلك الزاوية المنفرجة - بين المطلوب من جهة والمستطاع من جهة أخرى - إلا أن يكر راجعا إلى محرابه.
صفحه نامشخص