وأيا ما كان الأمر في هذا، فقد عاد صاحبنا بهذه الفكرة تملأ رأسه فلا تدع مكانا لغيرها؛ لأنه إذا كانت بعض الدراسات العلمية تحتم على الدراس إلماما دقيقا وكافيا بالمادة العلمية التي هي موضوع تخصصه، كأن يلم الطبيب بمادة العلم الطبي، ورجل القانون يلم بمواد القانون، وهكذا، فإن ذلك لا ينطبق انطباقا تاما على بعض المواد العلمية الأخرى، ومنها مادة «الفلسفة»، أو قل إن ذلك هو ما عاد صاحبنا مؤمنا به؛ لأن عملية التفكير عند الفيلسوف، إن هي إلا «منهج» يستطيع به أن يرد فروع الحياة من حوله إلى أصل فكري واحد، يصل إليه بعمليات من التحليل المنطقي لما يراه، كي يستخرج من جوف الأمور الواقعة ما هو مضمر فيها من دلالات، ومن شأن الفيلسوف في أي عصر، أن يثبت ما قد وصل إليه، إما تلقينا لتلاميذه، وإما كتابة يدون بها ما قد رأى، وتتراكم هذه التدوينات من مختلف الفلاسفة، في مختلف العصور، حتى يصبح بين أيدينا - نحو الورثة - ما هو في حقيقة أمره، تاريخ للفلسفة، وعلى الدارسين لهذا الفرع من الميراث الفكري، أن يلموا بذلك التاريخ ما استطاعوا دقة وشمولا.
لكن كل فيلسوف ممن ورد ذكرهم في هذا التاريخ، إنما هو رجل عني بعصره هو، إذ رأى حوله من ظواهر الحياة والكون ما رأى، بل وما يشاركه في رؤيته عامة الناس ودع عنك صفوتهم، إلا أنه هو الذي ينفرد بموهبته دونهم جميعا، في القدرة على استقطاب الكثرة الكثيرة من الظواهر، استقطابا يردها إلى أم واحدة، أو إلى أصل واحد، وأن طالب الفلسفة ليخرج من دراسته بأقل من القليل، لو أنه تخرج لا يحمل في جعبته إلا ما قاله الفلاسفة، كل في عصره وعن عصره، لكنه يتخرج ومعه ثروة لا حدود لها، إذا كان قد استطاع أن يستخرج من طرق الفلاسفة في التفكير، ذلك المنهج الذي يمكن به رد الظواهر الثقافية إلى عناصرها وأصولها؛ لأنه عندئذ لا يفقد كثيرا إذا نسي مع مر الأيام بعض ما قاله هذا الفيلسوف أو ذاك، في هذه الظاهرة أو تلك، لأن ما هو أهم من ذلك عنده، إنما هو ما يستطيعه هو إزاء الحياة الثقافية التي يحياها مع أهل عصره، فكلما ازداد قدرة على «نقدها» نقدا يريد به تأصيلها وتحليلها والكشف عن عناصرها، ازداد بالتالي قدرة على الكشف عن مدى صلاحيتها أو عدم صلاحيتها للظروف التي يحيا مع مواطنيه في حبائلها، وإذا لم يتخرج دارس الفلسفة بكثير أو قليل من هذه القدرة النقدية لفكر عصره، فلأي هدف آخر - يا ترى - قد درس ما درسه من تاريخ الفلاسفة السابقين وما دونوه؟
عاد صاحبنا وفي رأسه رؤية واضحة عن الفكر الفلسفي وما ينبغي لدارسه أن يستخدمه فيه، هذا إذا حرص ذلك الدارس على ألا تضيع دراسته هباء مع الهباء، فهو وإن يكن مسئولا عن الإلمام الوافي بما تخصص فيه من ميادين ذلك الفكر، فيما أورده التاريخ مما قدمه الفلاسفة على امتداد عصوره، إلا أنه لا يكون قد ظفر من دراسته بثمرتها الحقيقية، ما لم يدرك جيدا لماذا قال الفيلسوف المعين ما قاله، وبالطريقة التي قاله بها، وماذا كانت العلاقة بين ما قاله من جهة، وما يحياه الناس في حياتهم الواقعية من جهة أخرى، فإذا تحقق الدارس من هذا كله، نتجت له نتيجتان واضحتان؛ الأولى: هي أن الفكر الفلسفي، بكل صوره ومذاهبه، وثيق العرى بالحياة الفعلية التي يعيش الناس في رحابها وثناياها، وعلى نحو ما يجيء الفن والأدب فيصوران تلك الحياة، أو قل ينعكسان عنها إما تصويرا مرآويا وإما تعديلا لمسارها، وفي هذه الحالة يستخدم كل فرع وسيلته الخاصة به، فالموسيقى تقول في ذلك ما تقوله ألحانا وأنغاما، والأدب يقول كلمات منظومة أو منثورة، في شعر أو مسرحية أو رواية، والتصوير يقوله ألوانا وخطوطا وأشكالا، تجيء الفلسفة فتقول فكرا، ومن هنا نلحظ أن جميع هذه الفروع «الثقافية»، إنما تنسج خيوطها بعضا مع بعض لمن أراد أن يجمعها معا في رقعة واحدة، يطلق عليها اسم «الحياة الثقافية» وأما النتيجة الثانية، التي يستخلصها دارس تاريخ الفلسفة، وهي نتيجة بالغة الأهمية وتتطلب إمعان النظر: فهي أن «الفلسفة» لا تشترط نفسها موضوعا معينا؛ لأنها «منهج» أولا وآخرا، ينصب به صاحبه على ما شاء من موضوعات العلوم والثقافة، وتكون مهمته في ذلك هي أن يرتد بالموضوع الذي ينظر فيه إلى مبادئه الأولى التي عليها يقام هيكل بنائه، ولماذا يفعل ذلك؟ إنه يفعله لتتضح العلاقة الحقيقية بينه وبين سائر فروع الحياة الثقافية في العصر المعين، وكثيرا جدا ما يحدث أن من يفلسف موضوعا معينا من موضوعات العلم والثقافة، هو أحد المختصين بذلك الموضوع، أراد أن يتعقب موضوع اختصاصه إلى جذوره، وهنا نلحظ أن صاحب الفكر الفلسفي قد يقتصر على النظر في موضوع واحد كعلم الطبيعة ، أو علم الأحياء، أو علم التاريخ أو غير ذلك من فروع، لكنه كذلك قد يتسع به الأفق، وتشتد به الموهبة، فيحاول الوصول إلى المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه العلوم كلها، كما تقوم عليه مع العلوم سائر ما يمكن أن يدركه الإنسان من حقائق الكون العظيم.
إذن فليس المهم في الفلسفة ماذا يكون موضوع البحث، بل المهم هو المنهج الفكري الذي ينصب على أي موضوع يختاره الباحث، ليتقصاه إلى مصادره وأصوله الأولى، ولا نعني أن نتعقب تاريخه، بل نعني أن نتعقب منطق وجوده وكيانه، ومع ذلك فلا بد لنا أن نضيف حقيقة مهمة، وهي أنه بالرغم من حرية الفكر الفلسفي في اختيار موضوعه حيثما شاء، إلا أن واقع الأمر هو أن ثمة ثلاثة محاور كبرى تستقطب عناية الإنسان وأسئلته واهتماماته، لا فرق في ذلك بين عصر وعصر، أو أمة وأمة، وتلك القضايا الثلاث هي: الله، والكون، والإنسان، لكنها قضايا - كما ترى - أوسع جدا من أن يلتقي فيها الفكر الإنساني كله عند جانب معين من جوانبها، فلئن وجدناها ماثلة في نتاج الفلاسفة من أي عصر في التاريخ؛ فذلك لأنها موضوعات كبرى تتسع لمعظم ما قد يشغل الناس فيتساءلون ويسألون ليظهر فيهم من يحاول الجواب، أما إذا قصرنا النظر على تفصيلات ما يشغل الناس في عصر معين، فهنا نجد لكل عصر ما يشغله ويميزه.
الفلسفة - إذن - «منهج» بلا موضوع، أو هكذا استخلص صاحبنا من دراساته، فاتسع أمامه مجال النشاط الفكري؛ لأنه حر فيما يختاره من موضوعات ليتقصاه بالنظر، والذي يميز منهج الفكر الفلسفي دون مناهج العلوم الأخرى، هو سمة هامة، لولاها لا نحبس العقل وراء قضبان من حديد تقيد حركته بغير مبرر، وذلك المميز هو أنه لا يبدأ عمليته الفكرية من «فروض» يقيمها هو، أو تقيمها له جهة أخرى، لتكون له بمثابة محطة القيام للقطار، ولا كذلك الحال بالنسبة إلى العلوم جميعا: رياضية وطبيعية وإنسانية، فهذه كلها تقيم بنيانها على «فرض» يوضع ليبدأ منه السير، ونعني ب «الفرض» هنا، حقيقة توضع على سبيل الاقتراح، لنرى بالبحث ما عساها تتجه لنا من نتائج، كالنظريات في الرياضة، والقوانين في العلوم الطبيعية والاجتماعية، وأما الفكر الفلسفي فيصب البحث على موضوع البحث مباشرة وبلا وسيط، فإذا كان السؤال المطروح - مثلا - هو عن حقيقة الزمان، أو المكان، أو الخلق، أو العقل، أو النفس، أو الدولة، أو الحرية، أو الصداقة، أو الفن، أو ما شئت، تناولها الفكر الفلسفي بالنظر المباشر، غير مقيد بفرض يقول له: ابدأ بما يقال عن الزمان بأنه كذا، أو عن الدولة بأنها كيت، بل ينصرف مباشرة إلى تحليل الموضوع إلى عناصره الممكنة؛ ليستند إليها - إذا ما تبينها - في الوصول إلى «تعريف» قاطع لحقيقة الموضوع المطروح للنظر، والأغلب أن تتجمع بين يدي الفيلسوف مجموعة تعريفات لعدة موضوعات، كان قد أحسن اختيارها؛ فيتخذ منها ما يشبه العمد التي يقام عليها بنيان.
وبقدر نجاحه في ذلك، يكون نجاحه في أداء المهمة الأساسية التي كان من أجلها يبذل الفكر، ألا وهي «توضيح» ما يغلب عليه أن يكون غامضا في أذهان الناس، بمن فيهم علماؤهم وقادة الفكر منهم، على أهميته في صحة الحياة الإنسانية وجريانها في قنواتها ميسرة السبل، ومن ذلك ترى أن غاية الفيلسوف من عمله، هي «وضوح الأفكار»، وهنا قد يدهش القارئ؛ لأنه كثيرا ما سمع عن «الفلسفة» غموضها وتعقيد عبارتها، وهو في ذلك معذور؛ لأن جميع من سمع منهم تلك الفرية، إنما هو أناس يخلطون بين «الدقة» و«الغموض»، فما أيسر أن تقول - مثلا - إني أرى جبلا، ولكن هذا الذي اكتفيت فيه باسم «جبل» إذا ما اقتربت منه رأيته في تفصيلاته عالما معقدا من حجر ونبات وحشرات وكهوف إلخ، وكذلك كل «فكرة» ترد في أحاديث الناس تسهل ما دمنا نكتفي بذكر اسمها، لكنها سرعان ما يتبين لنا كم هي مليئة بمقوماتها وعناصرها ودوافعها ومراميها، إذا ما أعمل فيها مشرط الفكر الفلسفي تشريحا وتفصيلا، وعندئذ قد يصعب ما كان سهلا، لكن وجه الصعوبة هنا هو أن ما كان معلوما بمعرفة سطحية لا تغني عن الحق شيئا، قد أصبح معلوما في دقة ووضوح، ويستطيع من شاء أن يقيم على تلك المعرفة الدقيقة الواضحة ما شاء أن يقيم وهو على ثقة من سلامة المبنى.
كان صاحبنا على يقين بينه وبين نفسه، بأن الحرية الفكرية في وطنه بحاجة إلى مراجعة تتناولها من الأساس، فأقل ما يقال فيها يومئذ، هو أنها على فقر شديد في الإبداع الفكري، وليس الحديث هنا متجها بصفة مباشرة إلى عالم الأدب والفن، إذ قد يكون الرأي مختلفا بعض الشيء في هذا المجال، أما «الفكر» الذي من شأنه أن يفرز «تصورات» عقلية مجردة، تكون في حقيقتها بمثابة خرائط مكثفة ترسم أمام الناس طرق السلوك العملي الناجح في مختلف ميادين الحياة، فقلما كان فيه إبداع من صنع المواطن العربي المعاصر، إذ هو في حياته الشخصية والاجتماعية معتمد بصفة عامة على الموروث: إما عن طريق ما هو مدون في كتب السلف، وإما عن طريق التقاليد المتوارثة في صورها العملية، وأما فيما عدا ذلك من جوانب الحياة، كنظم الحكم وما يتعلق بها من أفكار ومذاهب، ونظم التعليم في مراحلها وأقسامها وفي المواد العلمية التي تدرس بها، ولك أن تضيف إلى ذلك تيارات الفكر المختلفة المتعلقة بالأوضاع الحضارية الجديدة، بما في ذلك مذاهب الفلسفة والسياسة والنقد والتذوق، وما إلى ذلك من أمور، أقول: أما عن هذا كله، فكان الأرجح فيه أن ينقل المفكر العربي عن الغرب نقلا مباشرا، اللهم إلا محاولات لفظية كانت تشاهد عند فريق يرفض - نظريا - ذلك الاغتراف من حضارة الآخرين وثقافتهم، لكنها محاولات لم تكن لتؤثر تأثيرا ظاهرا تتغير به الأوضاع كما هي قائمة أو متطورة على أرض الواقع، فنظم الحكم هي نظم الحكم، ونظم التعليم هي نظم التعليم، وهكذا ...
نعم، هكذا كانت الحال: «أحوال شخصية» (كما يسمونها) تلتزم التقليد والعرف وأحكام الشريعة كما يبينها علماء الدين، وإلى جانبها حضارة جديدة بصورها وما يلحق بها في عالم الفكر، مأخوذة من الغرب بصفة أساسية، فأين ما أبدعه «الفكر» العربي في أي شيء من ذلك؟ إن معظم «الأفكار» الأساسية التي كانت تدور حولها أوجه النشاط عند رجال الفكر منا يومئذ، لم تكن من إبداعنا العقلي، بل كانت منقولة عن مثيلاتها في الغرب، وخذ من تلك الأفكار أقواها ظهورا، وأوسعها شيوعا وأشدها تحريكا للضمائر، مثل فكرة «الحرية» و«العدالة» و«الوطنية» - وهي أمثلة نسوقها - ودقق النظر فيها سائلا من أين جاءت معانيها وأبعادها، لمن تناولوها من أعلام روادنا في عالم «الفكر» تجد مصادرها هناك في الغرب، وهي حقيقة قد تثير الدهشة للوهلة الأولى، وما هي إلا لحظة واحدة من مراجعة نزيهة، حتى يتبين الحق، فهذه «الكلمات» معروفة ومفهومة، وهي ألفاظ من لغتنا العربية، وهي ورادة في الكتب الموروثة عن السلف قليلا أو كثيرا، وأما «معانيها» الجديدة التي على أساسها احتدم اللهب الفكري على أقلام روادنا، فهي مأخوذة عن أصحابها من أبناء الغرب، ولا عجب في ذلك - إذا أردت النزاهة - لأن هذه المفاهيم وأمثالها لا تتحدد معانيها على صورة معينة ثابتة منذ تولد، بل هي تنمو في معانيها مع النمو الحضاري والثقافي، نموا يضيف إليها أبعادا من المعنى لم تكن لها في تاريخها الماضي، فلم يكن يرد على خاطر العربي في الماضي وهو يستخدم لفظ «الحرية» بعض معانيها، كالحرية التي يقابلها «الرق»، والحرية التي تختار بها «الإرادة» «مخيرا» لا مسيرا، وإنما أبعاد معانيها كما نعرفها اليوم، في السياسة، وفي الاقتصاد، وفي الفن والأدب، وفي تربية الطفل، وما إلى ذلك، فلم يكن لها وجود ظاهر، وحتى مفهوم «الوطنية» بمعناه السياسي والاجتماعي، لم يكن واضحا في الأذهان وضوحه عند الغرب الحديث، ومنه أخذه الآخرون وأخذناه، وهو مفهوم لا ندعي أنه خير كل الخير، بل نراه قد اقتضى روح التعصب القومي على نحو مسرف، كثيرا ما كان سببا في نشوب الحرب، حتى بين أبناء الأمة الواحدة، إذا أحس فريق منها أنه مختلف عن الفريق الآخر: عرقا، أو تاريخا، أو مذهبا، فأراد أن يستقل وحده في وطن خاص به.
والفقر في إبداعنا الفكري لا بد أن يثير سؤالا، وهو السؤال الذي وجده صاحبنا منذ أواخر الأربعينيات مطروحا ويتطلب الجواب، وأعني السؤال الذي يسأل: ما الذي أحدث فينا عندئذ عقم التفكير فامتنع الإبداع ، ولجأنا إلى الأخذ، عن أسلافنا مرة وعن الغرب الحديث مرة؟ وكان بعض الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال - فيما ظن صاحبنا - هو الطريقة الغامضة التي نستخدم بها «اللغة» ولسنا نقصر القول في هذا على عامة الناس، بل نوسع مداه ليشمل رجال الفكر منا، بل ويشمل معهم كثيرين من رجال العلوم، والحديث عن «اللغة» من حيث هي، بالطريقة التي تدور بها على ألسنة الناس في أحاديثهم الجارية، بل وتدور بها كذلك على أقلام الكتاب فتترك انطباعها على القراء، ليس حديثا عن شيء جديد ظهر بعد أن كان خافيا، وإنما هو حديث رأيناه واردا عند كثيرين من أئمة الفكر، لا سيما عندما ينتقل التاريخ الفكري من عصر إلى عصر جديد، ففي مرحلة الانتقال، أو قل إن مرحلة الانتقال ذاتها لم تكن لتحدث إن لم يكن قد ظهر في الناس نابغ يلفت أنظارهم إلى ما توقعهم فيه «اللغة» من سقطات عقلية، لا ينقذهم منها إلا التدقيق في استخدامهم للغتهم، كلما كان موضوع الحديث من الجدية والأهمية والخطورة، بحيث يستوجب أن تكون «الفكرة» المنقولة والمحمولة في أصلاب التركيب اللغوي الذي ينقلها، فكرة واضحة الدلالة في المرحلة الزمنية والرقعة المكانية التي استخدمت فيها.
فذلك هو سقراط يقف بشخصه وجهوده مرحلة انتقال للتاريخ الفكري بين عصرين: عصر سبقه أراد أن يترك للعادات اللغوية وحدها أن تحدد المعاني، حتى ولو كانت تلك المعاني ذات أثر عميق في حياة الناس، ومن هنا أحيطت الأفكار بضباب من الغموض؛ لأن لكل فرد معين زاوية خاصة تلقى منها عاداته اللغوية، ولكي تفهم ذلك بطريقة واضحة انظر في عصرنا هذا، وفي بلدنا هذا، كم إجابة تأتيك إذا سألت جماعة متفرقة من المواطنين، ما الذي يفهمونه من كلمة «الاشتراكية» أو «الديمقراطية» أو «المواطن الصالح» ...؟! إنك على الأغلب واجد نفسك أمام إجابات تتعدد بتعدد الأفراد، أولا، وواجد - ثانيا - أن أحدا ممن أجابوك لا يعلم على وجه الدقة والوضوح ما الذي يعنيه بجوابه، ومن مثل هذه الحالة المضطربة في استخدام الناس للغتهم - مفردات وتراكيب - حاول سقراط ، في بلده وفي زمنه، أن يلفت أنظار الناس إلى ضرورة البحث إزاء كل مصطلح له أهميته، عن معناه الذي يكون في تحديده ودقته، بمثابة «التعريف المنطقي» الذي يقيمه العقل لذلك المصطلح، فليست هذه الدقة وما يلازمها من وضوح الفكر، نوعا من الترف الذي يمكن حذفه عند الضرورة، بل هو شرط أساسي لمن أراد حياة فيها مقومات التقدم والازدهار.
صفحه نامشخص