ولم تقولي شيئا، ولكنك قبل أن تغادري السيارة إلى البيت قلت هامسة: وأنا أحبك.
ونزلت، وظللت أنا ذاهلا عن نفسي غير مصدق ما سمعت.
لم تذهب كلمتي التي حفظتها لك طوال السنين سدى، هي إذن قد صادفت ما كنت أرجو أن تصادف من صدق، هو الحب الكامل إذن. سرت بالسيارة ذاهلا لا أدري إلى أين، فكل الطرق التي كانت أمامي أضيق من أن تسع فرحتي، وسمعت ضجيجا في الشارع لم ألتفت له، وفي إشارة مرور دخل وجه إلى سيارتي وصاح بي: اقفل الباب.
وتنبهت حينئذ أن باب سيارتي ظل مفتوحا كما تركته، وتمنيت لو أستطيع أن أتركه مفتوحا كما تركته، تمنيت أن تتجمد اللحظة التي قلت فيها وأنا أحبك، تمنيت لو وقف الدهر عندها لا يتحرك، ملت بسيارتي إلى جانب الطريق ووقفت، أريد أن أقف لعل الزمن يقف، وأريد أن أسير، أن أغمر هذا العالم جميعه بهذه الفرحة التي تعربد في كياني كله، أريد أن أصمت وأسمع همستك وأن أحبك مرة أخرى، وألف ألف مرة أخرى، وأريد أن أنادي جميع من يمر بي لأقول له لقد قالت: وأنا أحبك. أريد أن أفعل هذا جميعه في وقت واحد. كيف يمكن أن أقف وأسير، وأن أسكت وأتكلم؟ كم هو عاجز هذا الإنسان، عاجز أمام فرحته، كما هو عاجز أمام قدره!
ظللت واقفا ولم أشعر بالكون حولي يهدأ حتى خلا بي العالم والنشوة في صدري كما هي، وأفقت على خيوط الفجر الأولى تنساب في الظلام في هدوء ودعة، وأقفلت باب السيارة ووجدت نفسي في سريري ولم أنم.
ومرت بعد ذلك فترة من حياتي، هي حياتي الحلوة جميعا، تجمعت في هذه الأيام، لم تقولي لي بعدها أحبك، ولم أقلها لك، ولكنني كنت أحس الحب من نغمة صوتك، من نظرة في عينيك، من همسة لا معنى لها، أو لمسة تبدو كأنها غير مقصودة.
وكنت كلما أردت أن أقول لك نتزوج تراجعت، فما كنت أريد حبنا الضخم الكبير يصبح زواجا فقط، ولم يكن هناك أكبر من الزواج، كنت أريد حبي من نوع جديد، وطالت الأيام بي ولم أقل نتزوج، كأنما أردت أن أستمتع بكل قطرة من نداء حبنا، ولم أدر لماذا توقفت عن الخروج معي، مرة واحدة رفضت أن تخرجي معي رفضا باتا قاطعا، ثم تركت مواظبتك على الكتابة، ثم انقطعت عن الجريدة يوما، وسألت: أين؟ وطالعني النبأ الهائل، اليوم خطبتها، ماذا؟! أمن أجل هذا انقطعت؟ لماذا لم تقولي؟ لقد كنت أرى حبنا أكبر من كل شيء، كان الزواج بالنسبة إليه أمرا ضئيلا هينا، كنت أعتقد أننا نستطيع أن نتمم الزواج في أي لحظة، كنت أريد أن أتمتع به حبا حرا واسعا كبيرا غير مقيد بحجم معين هو الزواج.
لماذا لم تقولي، لماذا؟ ولماذا لم تقبلي أن أتصل بك بعد هذا؟ لماذا رددتني بهذه القسوة حين اقتربت منك أحادثك، عند باب منزلك؟ لويت عني وجهك ومضيت في طريقك وكأن الذي كان بيننا كره كبير، صادق هذا الذي قال: إن أقرب العواطف إلى الحب هو الكره. لقد كرهتك يومذاك، كرها قدر الحب الذي أحببتك به، لقد حطمت ذلك الحب الكبير الذي ادخرته لك طوال حياتي جميعا، أحسست كرهي يشتعل في نفسي كسعار من جحيم، وتبعتك بعيني، ورأيتك وأنت تنظرين خلفك إلى سيارتي لتري إن كنت قد مشيت أم ما أزال واقفا، ورأيتك وأنت تنعطفين إلى الشارع الأيمن، وأحسست كرهي يملأ نفسي، وسمعت بوق سيارة من الشارع الذي انعطفت إليه، تمنيت لو أنها قتلتك، ولماذا لا؟ لقد تمنى هذه الأمنية شاعر قديم، تمني لو أنها ماتت حتى يستريح من حبها، أما أنا فقد تمنيت لو أنك مت لأستريح من كرهي، ولماذا أتمنى؟ لماذا لا أقتلك أنا؟ لقد كانت كلمة أحبك التي قلتها لك هي كل ما أدخره من حياتي، وقد بددتها، بددت حياتي جميعا، لماذا لا أقتلك.
سرت بالسيارة وأوقفتها بعيدا عنك وتركتها ونزلت، أريد أن أقتلك، أدفعك أمام ترام فأقتلك، أو أخنقك إذا لزم الأمر، سرت خلفك وأنت لا ترينني، وسرت، وسرت، وفكرة قتلك تزداد وضوحا في نفسي، وفي شارع قليل المرور، عبرت الشارع دون أن تنظري، وكنت وراءك، ونبتت من الطريق سيارة تغول الطريق ووجدت نفسي دون أن أحس ألقي بنفسي عليك لأنتزعك من براثنها ولتصدمني أنا السيارة بدلا منك.
لا، لا تعودي في غد لزيارتي في المستشفى، لقد كان ما بيننا حبا لا مثيل له في الحياة، ولا أريد أن يصبح شكرا أو عطفا، لقد أضعت أكبر شيء أحببته في حياتي، وهو حبي، ولم يبق لي شيء لتنقذيه، فحتى لو أحببتني اليوم فليس هذا هو الحب الذي أردت، لقد كنت أريده حبا خالصا طلقا واسعا سعة الأرض والسماء، سعة الأمل والحياة، ولست أنت التي تستطيعين أن تقدمي هذا الحب، فلا تعودي، لا، لا تعودي.
صفحه نامشخص