قالت إجلال لعصام: ألا ترى أبي حائرا؟ - لا أرى شيئا. - أنت لا ترى شيئا إلا نفسك. - أفكر في السفر إلى الإسكندرية. - وفيم تفكر؟ - أخاف أن تكون النقود قليلة. - وماذا تريد؟ - أريد أن أذهب إلى سينما سان ستفانو وأريد أن أرقص في الكازينو. - ألست صغيرا على الرقص؟ - كلهم يرقصون. - من الفرح؟ - لا أعرف وإنما كل زملائي يرقصون. - ولكني أراهم في رقصتهم كمجانين يريدون أن يحطموا أنفسهم . - لعلهم يريدون ذلك. - ولماذا يريدون أن يحطموا أنفسهم؟ - ولماذا لا يحطمون أنفسهم؟ - لأنها أنفسهم. - إنها محطمة فعلا. - أنت مجنون. - الجميع مجانين. - أنا لست مجنونة. - إن هدوءك الزائد نوع من الجنون. - أفكر. - تعدلين نظام الكون. - أفكر في أبي. - ولماذا لا تتركين أبي يفكر في أبي؟ - إننا أولاده. - فليفكر هو فينا. - ونحن؟ - نفكر في الإسكندرية. - في السينما؟ - والرقص. - وبعد؟ - ليس هناك بعد. - لكل شيء بعد. - ليس هناك بعد.
مزق هذا الخطاب
أستحلفك بربك، بكل عزيز عندك، احكم بيني وبين المدير العام، أنا أعلم أنك لا تحبني وأعلم أنك طوال الفترة التي عرفتني فيها تعتقد أنني ثقيل الظل لا أحتمل، وأنا أعلم أنك في مجالسك الخاصة كنت تجعل مني مادة لتندرك، ونكتة لا تخطئ في إطلاق الضحك من أفواه أصدقائك بل من قلوبهم، ولا أدري كيف كانت تصلني هذه النكت، لعلها لم تكن تصلني، الواقع أنني كنت أراها تطل من عيون أصدقائك الذين أعرفهم، كنت أرى نفسي في ابتسامة ساخرة على أفواههم، وكنت أعرف أنهم وهم ينظرون إلي إنما يذكرون ما تلقيه عليهم، ومع ذلك لم أكن أعدم من حين لآخر من يهمس في أذني أن أحاول التقرب منك، وعلم الله لقد حاولت بكل ما في من طاقة ولكنك كنت تصدني في غير صلف، وتردني في غير عنف؛ فأنت عادل، وأنت تعلم أن لا ذنب لي في أنني لست خفيف الظل، ولست قريبا إلى قلبك، أو لعلك كنت تحتقر شأني، ولا يعنيك من أمري أن أكون قريبا منك، أو غير قريب، وإنما أنا بالنسبة إليك همل لا يضر ولا ينفع. لا أخفي عليك فإنه من العسير أن يخفى عليك شيء، لقد عشت عمري وأنا حريص أن أكون حقير الشأن لا أضر ولا أنفع. فأنا على الرغم مما تظنه بي من غباء أحسن تقدير الأمور، وخاصة ما كان منها متعلقا بمصلحتي الشخصية. فحين أدركت الشباب عرفت أنه لا سبيل لي أن أكون محبوبا بين زملائي. فأنا لا أستطيع أن أكون بينهم خفيف الظل حاضر البديهة سريع النكتة. ولا أستطيع أيضا أن أجاريهم فيما يتناقلون من شهي الحديث وممتع الحكايات، فحزمت أمري أن أكون مستمعا، وقد أتقنت الاستماع حتى أصبحت بينهم مستمعا، لكل حديث.
والمتحدث منهم لا يتوقع أن أجيب حديثه بحديث بل هو يكتفي بأن يقول وأنا أكتفي بأن أستمع. وهكذا أصبحت من بين الأصدقاء عنصرا نادرا لا يأنفون من الجلوس إلي؛ فإن العنصر المستمع بين الأصدقاء الأنداد عنصر قل أن تجده، والمتحدث منهم إلي لا يطلب مني رأيا ولا هو يستشيرني. إنما هو يقص علي لأنه يريد أن يقص علي، كل ما يريده الصديق منهم أن يقول وحتى لا يبدو مجنونا يتحدث إلى نفسه يبحث عني ليقول لي، أنا عنده إذن بديل عن الهواء الذي كان سيلقى إليه بحديثه على كل حال، وإن أذنا تسمع بلا فم يعلق خير من الهواء وخير أيضا من هؤلاء الذين يختزنون في داخلهم قصصا أخرى مثل قصة المتحدث تبحث عن منطلق لها وأذن.
وهكذا يا سيدي استطعت أن أتغلب على مشكلة عجزي عن الكلام، واتخذت من هذا العجز رأسمال لي بين الأصدقاء. وقد انتفعت بهذا العجز أي انتفاع؛ فأصبح الأصدقاء يتهافتون عل الحديث إلي. ألم أقل لك إن المادة المستمعة بين الأصدقاء مادة نادرة.
ومنذ أدركت الشباب عرفت أيضا أنني أستطيع أن أكون مثل كثير من أصدقائي خفيف الحركة ألعب بالبيضة والحجر؛ فأنا بطبيعة تكويني بطيء التفكير، لا أستطيع أن أكون حيث يجب أن أكون ولا أستطيع أن أفعل ما يجب أن أفعل في الوقت الذي يجب أن يتم فيه هذا الفعل. إنها مقدرة خاصة عرفت بذكائي المحدود أنني لا أتمتع بها. وأدركت أيضا أن فقداني لهذه الخاصية سيجعلني دائما متأخرا عن الرفاق في مضمار العمل؛ فإن لهؤلاء الرفاق موهبة عجيبة طالما حسدتهم عليها، إنهم يستطيعون دائما أن يقولوا لرؤسائهم ما يجب أن يقال ويستطيعون أن يؤدوا إليهم ما يجب أن يؤدى في طبيعة مواتية بغير تصنع ولا تكلف ولا افتعال، ولكن من مأمنه يؤتى الحذر ؛ فهم بهذه الموهبة التي يتمتعون بها يقدرون ذكاءهم أكثر مما يستحق من تقدير، فهم لهذا يسارعون إلى الخطأ، فإن كثرة الحركة تؤدي بطبيعتها إلى الخطأ. لهذا كان من الطبيعي أن يقعوا في أخطاء مع رؤسائهم تجعلهم يتعرضون - بطبيعة الحال - إلى غضب الرؤساء غضبا قد يصل إلى الرفت.
أما أنا فقد أدركت طبيعة تكويني، فحزمت أمري أن أكون مطيعا لرئيسي، لا أناقشه فيما يفعل ولا فيما يقول، فلا أسأله إلا الإيضاح ليكون التنفيذ دقيقا كل الدقة لا مجال فيه للخطأ.
هل أبوح لك بسر؟ لا بأس، فأنا أعلم أن شيئا لا يخفى عليك: لقد أصبحت في بيتي مع زوجتي - ولا تذع هذا عني - مع أولادي أصبحت أطيع ما يقولون، دون مناقشة أيضا. هكذا علمت أن الحياة بالنسبة إلي لن تصلح إلا بالطاعة. إن مناقشة أولادي من اختصاص زوجتي وحدها، فأنا لا أصلح للمناقشة. قصارى ما أفعله إذا طلبوا شيئا أن أسأل زوجتي إن كان يجب علي أن أنفذه أم لا.
أظنك الآن أصبحت تدرك تمام الإدراك كيف أعيش حياتي، ولكنك لا تعرف أي منصب أصبحت أشغله في الشركة، لقد أصبحت الشخص الثاني مباشرة للمدير العام. قد يدهشك هذا، فإن لم يكن أدهشك أنت فقد أدهشني أنا. لقد وجدت نفسي فجأة في مكان لا بد لي فيه أن أصدر الأوامر. أنا لست غبيا، وهل غبي من يعرف حقيقة نفسه. كم بين الناس من يستطيع أن يدرك حقيقة نفسه؟! أنا أعرفها تماما، وأقدر مواهبي، ولا أضع نفسي إلا حيث تستطيع مواهبي أن تضعني. ولذلك أثار قرار تعييني في هذا المنصب الهام في الشركة كثيرا من القلق في نفسي، وما زلت أفكر حتى انتهي بي التفكير أن أجد بين الموظفين الذين يعملون تحت رئاستي فتى من هؤلاء الذين يستطيعون أن يلعبوا بالبيضة والحجر، واتخذت منه صديقا، وجعلته هو الذي يقترح علي ما أفعل، ثم أنا آخذ ما فكر فيه وأقدمه إلى المدير العام، فإن وافق عليه أصدرت به القرار حريصا دائما أن تكون عبارة : حسب أوامر السيد المدير العام، في أول القرار أو في آخره، وهكذا استطعت أن أكون أداة منفذة إما لاقتراح مرءوس أو لأوامر رئيس.
فليس عجيبا إذن أن أظل في أمان من غضب رئيسي أو مرءوسي على السواء، ولا يهمني من بعد ما يرميني به رئيس ومرءوس على السواء. إني أكاد أسمع الهمس الذي يدور في نفوسهم والذي يلقون به إلى خاصة أصدقائهم، وأظنك في غنى أن أنقل إليك هذا الهمس، فلا شك أنك تعرفه، ولكن ما يهم، ما يهم ما دمت من اقتراحات مرءوس أو من أوامر رئيس في حصن حصين.
صفحه نامشخص