حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرها
وفي بريطانيا التي ظلت رومانية لمدة ثلاثة قرون، يبدو أن الغزوات الأنجلوسكسونية قد أدت إلى انفصال كامل عن التراث الروماني، وترتب على ذلك أن التراث الروماني العظيم في مجال القانون، الذي ظل باقيا في جميع أرجاء أوروبا الغربية الخاضعة لحكم روما، لم ترسخ أقدامه في بريطانيا، وما زال القانون العام الإنجليزي حتى يومنا هذا أنجلوسكسونيا. ولهذه المسألة نتيجة جديرة بالملاحظة في ميدان الفلسفة؛ ذلك لأن الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى ترتبط بالقانون ارتباطا وثيقا، وكان علم التفسير الفلسفي يسير جنبا إلى جنب مع الممارسة الشكلية الصارمة للتراث الروماني القديم. أما في إنجلترا حيث كان التراث القانوني الأنجلوسكسوني هو السائد، فإن الفلسفة ظلت في معظم الأحيان تحتفظ بطابع أكثر تجريبية حتى في ذروة العصر المدرسي.
ولقد اقترنت الاتجاهات التلفيقية التي كانت في ظل الإمبراطورية تمارس تأثيرها في ميدان الدين، بتطور مماثل في الفلسفة؛ فقد كان التيار الرئيسي للفلسفة رواقيا بوجه عام في العهد الأول من الإمبراطورية، على حين أن المذاهب الأفلاطونية والأرسطية الأكثر تفاؤلا قد استبعدت، ولكن بحلول القرن الثالث برز تفسير جديد للأخلاق القديمة في ضوء المذهب الرواقي، وهو تطور يتمشى إلى حد بعيد مع الأوضاع العامة للعصر. وأصبح هذا المزيج بين نظريات مختلفة يعرف باسم الأفلاطونية الجديدة، التي قدر لها أن تمارس تأثيرا كبيرا على اللاهوت المسيحي، فهي بمعنى ما جسر يمتد من العالم القديم إلى العصور الوسطى، بها انتهت فلسفة القدماء ، ومنها بدأ الفكر الوسيط.
وقد ظهرت الأفلاطونية الجديدة في الإسكندرية ملتقى طرق الشرق والغرب؛ ففيها كانت توجد مؤثرات دينية فارسية وبابلية، وبقايا الشعائر المصرية القديمة، وطائفة يهودية قوية تمارس عقيدتها الخاصة، وفرق مسيحية، ويضاف إلى هذا كله خلفية عامة من الحضارة الهلينستية. ويقال إن مؤسس المدرسة الأفلاطونية الجديدة هو أمونيوس ساكاس
Ammonius Saccas ، الذي لا يعرف عنه إلا القليل، ولكن أهم تلاميذه كان أفلوطين (204-270) الذي هو أعظم الفلاسفة الأفلاطونيين الجدد. وقد ولد في مصر ، ودرس في الإسكندرية حيث عاش حتى عام 243.
ونظرا إلى اهتمام أفلوطين بعقائد الشرق وتصوفه، فقد سار في ركاب الإمبراطور جورديان
Gordian
الثالث في حملة ضد الفرس، غير أن هذه المهمة لم تنجح؛ إذ كان الإمبراطور شابا تعوزه الخبرة، وكانت تصرفاته تثير سخط أفراد جيشه، غير أن مثل هذه النزاعات كانت تحل في ذلك الحين بالطريقة الحاسمة، وهكذا لقي القيصر الشاب مصرعه قبل الأوان على أيدي أولئك الذين يفترض أنه قائدهم، وعلى أثر ذلك فر أفلوطين عام 244 من بلاد ما بين النهرين، التي كانت مسرح الجريمة، واستقر في روما، حيث عاش وقام بالتدريس حتى نهاية حياته. وقد بنيت كتاباته على مذكرات من الدروس التي كان يلقيها في سنواته الأخيرة، وأشرف على تحريرها تلميذه فرفوريوس
الذي كان يميل إلى الفيثاغورية. ونتيجة لذلك فقد اصطبغت أعمال أفلوطين كما وصلتنا بصبغة فيها شيء من التصوف، ربما كان سببها هو المشرف على التحرير.
وتحمل أعمال أفلوطين الباقية اسم «التساعيات
Enneads »؛ إذ يتألف كل منها من تسع كتب، وهي تتسم بطابع أفلاطوني عام، وإن كانت تفتقر إلى اتساع نطاق أعمال أفلاطون وحيويتها؛ إذ تكاد تقتصر كلها على نظرية المثل وبعض الأساطير الفيثاغورية. ويجد المرء في أعماله قدرا من الانعزال عن العالم الواقعي، وهو أمر لا يثير الدهشة حين يعرف المرء حالة الإمبراطورية في ذلك الحين؛ ذلك لأن المرء لا بد أن يكون متبلد الحس تماما، أو قوي الإرادة إلى حد غير عادي، حتى يحتفظ بحالة من الرضا الدائم إزاء القلاقل السائدة في ذلك العصر. وهكذا فإن نظرية المثل تنظر إلى عالم الحس، وما فيه من مظاهر التعاسة على أنه غير حقيقي تصلح تماما لإقناع الناس بقبول مصيرهم.
صفحه نامشخص