حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرها
وهكذا أصبح علم الإغريق وفلسفتهم، والأهم من ذلك فنهم، يمارس تأثيره على الحضارات الشرقية القديمة، وتشهد الآثار الباقية من العملات والأواني والمباني والتماثيل، وكذلك المؤثرات الأدبية إلى حد أقل على هذا الغزو الثقافي، وبالمثل فإن الشرق مارس تأثيرا جديدا على الغرب، ولكن هذا التأثير كان أقرب إلى التراجع والانتكاس؛ إذ يبدو أن ما استحوذ على خيال اليونانيين أكثر من أي شيء آخر في ذلك الحين كان التنجيم البابلي. وهكذا كان العصر الهلينستي، برغم كل ما فيه من توسع علمي وثقافي، أشد إيغالا في الخرافة من العصور الكلاسيكية بكثير. وهذا أمر يحدث مثله في عصرنا هذا وأمام أعيننا، فعندما كنت شابا كان التنجيم مقتصرا على قلة من المختلين المهووسين، أما اليوم فإن هذا المرض قد أصبح له من القوة ما يكفي لإقناع المهيمنين على الصحافة الشعبية بأن يخصصوا أعمدة لما تضمره النجوم. وربما لم يكن ذلك بالأمر المستغرب؛ ذلك لأن العصر الهلينستي بأسره كان حتى مجيء الرومان غير منضبط ولا مستقر ولا آمن، وكانت جيوش المرتزقة التي تنتمي إلى الجماعات المتنازعة تعيث فسادا في المناطق الريفية من آن لآخر، أما المدن الجديدة التي بناها الإسكندر فكانت تفتقر سياسيا إلى استقرار المستعمرات الأقدم عهدا، التي كانت تجمعها روابط تقليدية بوطنها الأم، وكانت الجو العام في ذلك العصر يفتقر إلى الشعور بالأمان ، إذ كانت إمبراطوريات جبارة قد زالت، وكان خلفاؤها يتقاتلون على السيطرة في جو متقلب. وهكذا فإن تقلب الأحوال قد انتقل إلى نفوس الناس بطريقة لا لبس فيها ولا غموض.
أما من الوجهة الثقافية، فقد انتشر التخصص على نحو متزايد، وعلى حين أن كبار الشخصيات في العصر الكلاسيكي كانوا يستطيعون بوصفهم أفرادا في دولة المدينة، أن ينتقلوا بين موضوعات شتى، حسبما تقتضيه الظروف، فإن باحثي العالم الهلينستي كانوا يقتصرون على ميدان واحد محدد. وانتقل مركز البحث العلمي من أثينا إلى الإسكندرية، وهي أنجح مدن الإسكندر الجديدة، وملتقى العلماء والكتاب من كافة أرجاء العالم. فكان الجغرافي إراتوسثنيس خلال بعض الوقت أمينا عاما لمكتبة الإسكندرية الكبرى، كما كان إقليدس يعلم الرياضيات، وكذلك فعل أبولونيوس، على حين أن أرشميدس قد تعلم هناك. أما من الوجهة الاجتماعية فإن أساس الحياة المستقرة قد تزعزع بنمو عدد العبيد بين السكان، ولم يكن في استطاعة الأحرار أن ينافسوا العبيد بسهولة في الميادين التي اعتادوا العمل فيها، ومن هنا كان الشيء الوحيد الذي يمكنهم أن يفعلوه هو أن يصبحوا جنودا مرتزقة، آملين أن يشتركوا في غزوة تتيح لهم الثراء عن طريق السلب والنهب، وعلى حين أن اتساع نطاق التأثير اليوناني قد علم الناس مثلا عليا أوسع نطاقا مما تعلموه في دولة المدينة، فلم يكن هناك رجل أو قضية لهما من القوة ما يجعل البقايا المبعثرة لعالم الإسكندر تلتف حولهما.
ولقد أدى الإحساس المتأصل بانعدام الأمان إلى الإقلال من الاهتمام بالشئون العامة، وإلى هزال عام في الكيان العقلي والأخلاقي، وإذا كان اليونانيون القدماء قد تهاونوا في المشاركة في مشاكل عصرهم السياسية، فإن يونانيي العصر الهلينستي قد تهاونوا على نفس النحو، وفي النهاية كان على الرومانيين، بما عرف عنهم من عبقرية التنظيم، أن يصنعوا من الفوضى نظاما، وأن ينقلوا حضارة اليونان إلى العصور التالية.
وبانتهاء العصر الذهبي لدول المدن، أصيب العالم اليوناني بهبوط عام في نضارته وحيويته، والواقع أنه إذا كانت هناك صفة بارزة يشترك فيها كل الفلاسفة الأثينيين الكبار، فهي موقفهم الإيجابي المقبل على الحياة؛ فلم يكن العالم في نظرهم مكانا سيئا للعيش، والدولة يمكن الإحاطة بجميع أطرافها في لمحة واحدة.
وقد اتخذ أرسطو من هذه الصفة - كما رأينا - واحدة من صفات مدينته المثلى، غير أن التوسع المقدوني أدى إلى زعزعة هذه النظرة السعيدة الراضية، وانعكس ذلك في كل الاتجاهات الفلسفية السائدة في تلك الأيام على صورة تشاؤم شامل وإحساس بانعدام الأمان. أما الشعور بالثقة الذاتية، الذي كان يتملك المواطنين الأرستقراطيين من أمثال أفلاطون، فقد اختفى إلى غير رجعة.
ويمكن القول بمعنى معين إن موت سقراط كان هو الحد الفاصل في الثقافة اليونانية. صحيح أن أعمال أفلاطون ستظهر بعد ذلك، غير أننا نشعر بالفعل بأننا بدأنا نهبط إلى وديان الثقافة الهلينستية، وبدأ يظهر في الفلسفة عدد من الحركات الجديدة؛ أولاها ترتبط مباشرة بأنتيسثنيس، وهو أحد تلاميذ سقراط، ويرتبط اسم أنتيسثنيس بإحدى المفارقات في التراث الإيلي، وهي المفارقة التي تقول إن من المستحيل إصدار أحكام ذات معنى؛ فإما أن تقول: أ هي أ، وهو حكم صحيح، ولكنه لا يستحق أن يقال، وإما أن تقول: أ هي ب، ولما كانت ب ليست هي أ، فلا بد أن يكون الحكم باطلا، فلا عجب إذن أن يفقد أنتيسثنيس ثقته بالفلسفة، ويعتزل في أخريات أيامه حياة الطبقة العليا التي كان يحياها، ويعيش الحياة البسيطة للناس العاديين، وقد تمرد على عادات عصره، وكان يتمنى أن يعود إلى حياة بدائية لا تشوبها شائبة من أعراف المجتمع المنظم وقيوده.
وكان من تلاميذه ديوجين
Diogenes
الذي كان مواطنا لسينوبي، وهي مستوطنة يونانية على شاطئ الأوكسين
Euxine ، ومنه استمدت الحركة الجديدة طابعها، وقد عاش ديوجين حياة تماثل حياة الكلب في بدائيتها، مما أكسبه لقب «الكلبي
صفحه نامشخص