حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرها
وإذن فعلى حين أن من الممكن التمييز في موضوع النظرية السياسية بين نظرية سقراطية وبين التطورات الأفلاطونية التالية، فإن هناك سمات معينة للنظرية الإجماعية بوجه عام تظل مشتركة بين الرجلين. من هذه السمات رأيهما في طبيعة التعليم، بل إن موقفهما إنما هو تعبير صريح عن الطريقة التي نظر بها التراث اليوناني إلى البحث والمعرفة، فنحن نذكر أن العلم والفلسفة كانا يمارسان في مدارس أو جمعيات يتحقق فيها تعاون وثيق بين المعلمين وتلاميذهم. والحقيقة الهامة التي يبدو أنها قد أدركت ضمنيا على الأقل منذ البداية الأولى، هي أن التعليم ليس عملية سرد معلومات. صحيح أنه لا بد من وجود قدر من السرد، ولكنه ليس هو الوظيفة الوحيدة للمعلم، ولا أهم وظائفه، ولقد أصبحت هذه الحقيقة أوضح في أيامنا هذه مما كانت في ذلك العصر؛ لأن السجلات المكتوبة كانت أندر، وكان العثور عليها أصعب مما هو اليوم.
ففي وضعنا الراهن، يكون من المعقول أن يعمل أي شخص قادر على القراءة على جمع المعلومات من مكتبة، وأصبحت حاجة المعلم إلى تقديم معلومات مجردة أقل مما كانت عليه في أي وقت مضى. والواقع أنه مما يشهد بالفضل العظيم لفلاسفة اليونان أنهم أدركوا الطريقة التي يمكن بها ممارسة التعليم الأصيل؛ فدور المعلم هو التوجيه وتمكين التلميذ من إدراك الأمور بنفسه.
غير أن تعلم التفكير بطريقة مستقلة ليس قدرة تكتسب دفعة واحدة، وإنما ينبغي اكتسابها بجهد شخصي وبمساعدة مرشد قادر على توجيه هذا الجهد، وهذه هي طريقة البحث تحت إشراف أستاذ، كما نعرفها اليوم في جامعاتنا، ويمكن القول إن أية مؤسسة أكاديمية تكون قد تحققت وظيفتها الصحيحة بقدر ما تنمي عادات التفكير المستقل وروح البحث المتحرر من التحيز والهوى المؤقت، أما إذا أخفقت جامعة في تحقيق هذه المهمة، فإنها تهبط إلى مستوى التلقين، وفي الوقت ذاته تكون لهذا الإخفاق نتائج أخطر؛ إذ إنه حيثما يتهاوى التفكير المستقل، سواء بسبب الافتقار إلى الشجاعة أو انعدام النظام، تنمو تلك النباتات الشيطانية، نباتات الدعاية والسلطوية، دون أن يقف في وجهها شيء. وهكذا فإن قمع الفكر النقدي أخطر بكثير مما يتصور معظم الناس، فبدلا من أن يخلق وحدة هدف حية في المجتمع، نراه يفرض نوعا من التجانس الراكد القبيح على المجتمع ككل. ومن المؤسف أن هذا أمر لا تدركه الأقلية من الذين يتربعون على كراسي السلطة والمسئولية.
وعلى ذلك فالتعليم هو أن يتعلم المرء كيف يفكر بنفسه بتوجيه معلم. ولقد كان ذلك يمارس بالفعل منذ بداية المدرسة الأيونية، واعترف به الفيثاغوريون صراحة، بل لقد ذهب الفيلسوف الفرنسي جورج سوريل
G. Sorel
إلى أن كلمة الفلسفة لم تكن تعني أصلا حب الحكمة، وإنما «أصدقاء» الحكمة، حيث كان المقصود من هؤلاء «الأصدقاء» بالطبع هم أفراد الطائفة الفيثاغورية، وسواء أكان الأمر كذلك أم لم يكن، فإن في ذلك على الأقل تأكيدا على أن العلم والفلسفة ينموان بوصفهما تراثا مستمرا، لا على أنهما جهود فردية منعزلة، وفي الوقت ذاته يكشف لنا ذلك عن السبب الذي كان من أجله سقراط وأفلاطون يعارضان السفسطائيين بكل هذا العنف؛ ذلك لأن هؤلاء الأخيرين إنما كانوا موردين للمعارف المفيدة فحسب، وكانت تعاليمهم - إن كان ما يقدمونه جديرا بهذا الاسم - سطحية. ومن الجائز أنهم كانوا قادرين على أن يعلموا شخصا ما كيف يقوم باستجابات سليمة في مواقف متباينة، غير أن مثل هذه المعلومات المكدسة لم تكن ترتكز على أساس، ولم تكن خاضعة لاختبار نقدي، وليس معنى ذلك بالطبع أن المعلم الأصيل يستحيل أن يصادف حالات ميئوسا منها، بل إن من السمات المميزة للعملية التعليمية ضرورة بذل كل من الطرفين جهدا متبادلا.
ولقد ارتبطت هذه النظرية التعليمية عند سقراط بفكرة أخرى ترجع إلى عهد الفيثاغوريين الأوائل، ففي محاور «مينون» تسمى عملية التعليم تذكرا لأشياء سبق تعلمها في حياة سابقة، ثم نسيت منذ ذلك الحين، وعملية التذكر هذه هي التي تحتاج إلى ذلك الجهد المشترك الذي أشرنا إليه من قبل. أما مفهوم التذكر ذاته، فيرتكز على الرأي القائل إن النفس تمر بسلسلة من حالات التجسد واللاتجسد المتبادلة، وهو رأي يرتبط ارتباطا واضحا بنظرية تناسخ الأرواح كما كان يعتنقها الفيثاغوريون؛ فالنفس اللامتجسدة أشبه بالنائمة، وهذا هو السبب الذي يجعل من الضروري عندما تصبح في حالة يقظة وتجسد، إيقاظ ما تعلمته في حياة سابقة، ويحاول سقراط إثبات ذلك عن طريق توجيه الأسئلة إلى صبي من عبيد مينون، لم يكن لديه أي قدر من التعليم فيما عدا معرفة اللغة اليونانية العادية، ومع ذلك فإن سقراط ينجح عن طريق مجرد توجيه أسئلة بسيطة إليه في أن يستخلص من الفتى كيفية تكوين مربع تساوي مساحته ضعف مساحة مربع معلوم. وينبغي أن نعترف بأن السرد الذي قدمه أفلاطون ليس مقنعا تماما بوصفه دليلا على نظرية التذكر؛ لأن سقراط هو الذي يرسم الأشكال على الرمل ويصحح للصبي أخطاءه كلما ضل، ولكننا نجد ها هنا وصفا دقيقا إلى حد بعيد للموقف التعليمي، فالتفاعل بين المعلم والتلميذ على النحو المبين في هذا المثال هو الذي يؤدي إلى تعليم أصيل، وبهذا المعنى يمكن وصف التعليم بأنه عملية ديالكتيكية (جدلية) بالمعنى اليوناني الأصلي لهذه الكلمة.
ومن المهم أن نلاحظ أن النظرية التعليمية التي عرضنا معالمها ها هنا، قد تركت أثرها على لغة الكلام العادية، بغض النظر عن التعليم أو الفلسفة؛ ذلك لأننا نتحدث عادة عن إيقاظ أو إثارة إلهام شخص بموضوع ما. وهذا مثال لظاهرة عامة في نمو المصطلحات الكلامية؛ ذلك لأن اللغة العادية هي مستقر أجزاء متناثرة من التأملات الفلسفية الموروثة من الماضي. وهذا أمر يستحسن أن يتذكره من آن لآخر أولئك الذين يؤلهون الكلام العادي، وكأنه يعلو على كافة قواعد البحث والاستقصاء.
أما عن نظرية التذكر، فقد استخدمها سقراط في محاولة منه لإثبات خلود النفس، وقد وصفت هذه المحاولة في محاورة «فيدون» وإن كان من الواجب أن نلاحظ أنها لم تنجح، وعلى أية حال فمن المفيد أن نتذكر أن الفيثاغوريين المتأخرين قد تخلوا عن نظرية تناسخ الأرواح، وتبنوا كما ذكرنا من قبل رأيا مبنيا على فكرة الانسجام، يؤدي في الواقع إلى نتيجة عكسية، هي أن النفس فانية، أما بالنسبة إلى الجانب التعليمي لعملية التذكر، فنلاحظ أن ممارسة العلاج بالتحليل النفسي مبنية على نفس هذه الفكرة، أعني إيقاظ الذكريات من الماضي. وعلى الرغم من كل ما ينطوي عليه التحليل النفسي من عناصر غامضة، فإن إدراكه للارتباط بين التعليم والعلاج أسلم من إدراك علم النفس الترابطي
associationist
صفحه نامشخص