حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرها
إن نظرية الصيرورة عند هرقليطس تلفت الانتباه إلى أن الأشياء جميعا يسري عليها نوع من الحركة، ولكن التحول التالي في الفلسفة اليونانية ينتقل بنا إلى الطرف المضاد، وينكر الحركة على إطلاقها.
لقد كان من السمات التي تشترك فيها كل النظريات التي عرضناها من قبل، أنها تبذل محاولة لتفسير العالم عن طريق مبدأ واحد، وبالطبع فإن الحلول تختلف من مدرسة إلى أخرى، ولكن كل مدرسة كانت تدعو إلى مبدأ أساسي واحد فيما يتعلق بالتركيب الذي تتألف منه الأشياء جميعا، ولكن أحدا لم يتصد حتى الآن لاختبار وجهة النظر العامة هذه بطريقة نقدية. وكان الناقد الذي أخذ هذه المهمة على عاتقه هو بارمنيدس
.
إننا لا نعرف عن حياة بارمنيدس إلا أشياء قليلة هامة، شأنه في ذلك شأن الكثيرين غيره؛ فقد كان من مواطني إيليا
Elea ، في جنوب إيطاليا، أسس مدرسة سميت بالمدرسة الإيلية، نسبة إلى المدينة. وكانت فترة نضجه هي النصف الأول من القرن الخامس، وإذا صحت رواية أفلاطون، وكذلك زينون تلميذ بارمنيدس فإنه زار أثينا، حيث قابلا معا سقراط حوالي عام 450ق.م، ولقد كان بارمنيدس وأنبادقليس
Empedocles ، من بين الفلاسفة اليونانيين جميعا، هما وحدهما اللذان عرضا نظرياتهما بصورة شعرية، وكان عنوان قصيدة بارمنيدس هو «في الطبيعة»، وهو نفس العنوان الذي كان يطلق على الكثير من الكتابات الأخرى للفلاسفة الأقدمين، وهذه القصيدة تنقسم قسمين؛ أولهما: «طريق الحق»، ويتضمن نظريته المنطقية التي تهمنا هنا قبل غيرها، أما في الجزء الثاني: «طريق الظن» فيعرض مذهبا في الكون ذا طابع فيثاغوري في أساسه، وإن كان يقول بصراحة تامة إننا يجب أن ننظر إلى هذا كله على أنه وهم. ولقد كان بارمنيدس ذاته منتميا في البداية إلى النظرية الفيثاغورية، غير أنه تخلى عنها عندما صاغ انتقاداته العامة، وهكذا فإن هذا الجزء من قصيدته يقصد به أن يكون تعدادا للأخطاء التي تحرر منها.
يبدأ نقد بارمنيدس من نقطة ضعف كانت تشترك فيها النظريات السابقة كلها؛ تلك هي التعارض بين الرأي القائل إن الأشياء جميعا قوامها مادة أساسية ما، والقول في الوقت ذاته بوجود مكان فارغ، فنحن نصف المادة بقولنا «إنها موجودة»، والمكان الفارغ بقولنا «إنه غير موجود»، ولقد كان الخطأ الذي وقع فيه الفلاسفة السابقون جميعا هو أنهم تحدثوا عما هو غير موجود كما لو كان موجودا، بل إن هرقليطس يبدو كما لو كان قد قال إنه يوجد ولا يوجد في آن معا، وفي مقابل هذا كله أكد بارمنيدس ببساطة «أنه موجود»؛ ذلك لأن ما لا يوجد لا يمكن حتى التفكير فيه، إذ لا يستطيع المرء أن يفكر في لا شيء، كما أن ما لا يمكن التفكير فيه لا يمكن أن يوجد؛ ومن ثم فإن ما يمكن أن يوجد يمكن التفكير فيه، هكذا كان الاتجاه العام للحجة التي استند إليها بارمنيدس.
هذه الحجة تؤدي فورا إلى بعض النتائج؛ فعبارة «إنه موجود» تعني أن العالم مليء في كل مكان بالمادة، أما المكان الفارغ فهو ببساطة غير موجود، لا داخل العالم ولا خارجه، وفضلا عن ذلك فلا بد أن يوجد من المادة في مكان ما بقدر ما يوجد في مكان آخر، وإلا لتوجب أن نقول عن مكان ذي كثافة أقل إنه ليس موجودا بمعنى ما، وهو محال. ولا بد أن يكون هذا الموجود حاضرا بالتساوي في جميع الاتجاهات، ويستحيل أن يمتد إلى ما لا نهاية؛ إذ لو صح ذلك لكان معناه أنه غير مكتمل، ثم إن هذا الموجود غير مخلوق، وهو أزلي؛ لأن من المحال أن ينشأ من لا شيء، ويرتد إليه بعد فنائه، أو أن ينشأ من شيء ما، ما دام لا يوجد إلى جانبه شيء. وهكذا نصل إلى صورة للعالم على أنه كرة مادية مصمتة، متناهية، متجانسة، بلا زمان ولا حركة ولا تغيير. والحق إن تلك ضربة قاصمة لتصورنا العادي، غير أنها هي النتيجة المنطقية لمذهب مادي واحدي متسق مع نفسه، فإن كان ذلك يجرح حواسنا، فالعيب عيب حواسنا، وينبغي علينا أن نستبعد التجربة الحسية بوصفها خداعة، وهذا بعينه ما فعله بارمنيدس؛ فهو إذ مضى بالنظرية الواحدة حتى نهايتها المريرة، قد أرغم المفكرين التالين له على أن يبدءوا بداية جديدة، والحق إن الكرة «الكونية» التي تحدث عنها بارمنيدس إنما هي مثال لما كان يعنيه هرقليطس حين قال إن الصراع لو انتهى لانتهى معه العالم.
ومن الجدير بالملاحظة أن نقد بارمنيدس لا يمس نظرية هرقليطس لو نظر إليها نظرة صحيحة؛ ذلك لأن الرأي القائل إن الأشياء قوامها النار، ليس في واقع الأمر أساسيا لنظرية هرقليطس، بل إن دوره كان مجازيا من حيث إن اللهب إنما هو وسيلة واضحة ملموسة لتمثيل الفكرة الهامة القائلة إنه لا شيء يظل ساكنا، وإن الأشياء كلها في تغير دائم، ولقد شرحنا من قبل كيف ينبغي تصور عبارة مثل: إنه يكون ولا يكون في إطار مذهب هرقليطس، وواقع الأمر أن نظرية هرقليطس كانت بالفعل تنطوي على نقد ضمني للميتافيزيقا اللغوية عند بارمنيدس.
إن نظرية بارمنيدس، في صورتها اللغوية، ترتد ببساطة إلى القضية التالية: إنك حين تفكر أو تتكلم، فأنت تفكر أو تتكلم عن شيء ما، ويترتب على ذلك ضرورة وجود أشياء خارجية مستقلة تفكر فيها وتتكلم عنها. وهذا أمر يمكنك أن تقوم به في مناسبات مختلفة عديدة، ومن ثم فإن موضوعات الفكر أو الكلام ينبغي أن توجد دائما، ولما كان من المحال ألا توجد هذه الموضوعات في أي وقت، فلا بد أن التغير مستحيل، ولكن ما أغفله بارمنيدس هو أنه، وفقا لرأيه، لا يستطيع أن ينكر أي شيء ما دام هذا الإنكار معناه أنه يتكلم عما هو غير موجود. ولكن لو كان الأمر كذلك، لما استطاع في الوقت ذاته أن يؤكد أو يثبت شيئا، وبذلك يصبح كل حديث، وكل مقال، وكل فكر مستحيلا، ولا يبقى إلا «أنه موجود»، تلك الصيغة الفارغة التي تعبر عن مجرد الهوية.
صفحه نامشخص