حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرها
إذا كان رجال الكنيسة قد استمدوا الوحي الفلسفي طوال الفترة السابقة من مصادر أفلاطونية جديدة، فإن القرن الثالث عشر قد شهد انتصار أرسطو؛ فقد سعى توما الأكويني (1225-1274م) إلى إقامة المذهب الكاثوليكي على أساس فلسفة أرسطو. وبطبيعة الحال، فإن من المشكوك فيه أن تحرز هذه المهمة نجاحا إذا ما أنجزت بطريقة فلسفية خالصة؛ ذلك لأن الإلهيات عند أرسطو كانت متعارضة تماما مع مفهوم الألوهية المسيحي، ولكن الذي لا شك فيه هو أن نزعة توما الأرسطية، من حيث هي عامل فلسفي مؤثر داخل الكنيسة، قد اكتسبت مكانة أصبحت مكتملة ودائمة، وصارت التوماوية هي المذهب الرسمي للكنيسة الرومانية، وهي تعلم بهذا الوصف في جميع معاهدها ومدارسها . ولا توجد اليوم فلسفة أخرى تتمتع بمثل هذه المكانة البارزة وهذا التأييد القوي، فيما عدا المادية الديالكتيكية التي هي المذهب الرسمي للشيوعية، وبالطبع فإن فلسفة توما لم تصل في عصره إلى هذه المكانة المميزة على الفور، غير أن رسوخ سلطته على نحو أخذ يزداد جمودا فيما بعد، أدى إلى سير التيار الفلسفي الرئيسي مرة أخرى في القنوات العلمانية، بحيث عاد إلى روح الاستقلال التي كانت تسوده فلسفة القدماء.
كان توما ينتمي إلى أسرة يحمل كبارها لقب كونت أكوينو، وكان موطنها قرية تحمل هذا الاسم قريبة من مونتي كاسينو، حيث بدأ دراسته. وبعد أن قضى ست سنوات في جامعة نابولي، انضم إلى سلك الدومينيكان عام 1244م، وواصل العمل في كولونيا متتلمذا على ألبرتوس الكبير، وهو أشهر معلم وباحث أرسطي في عصره.
وبعد أن قضى توما بعض الوقت في كولونيا وباريس، عاد إلى إيطاليا عام 1259م، وكرس السنوات الخمس التالية لكتابة «الخلاصة للرد على الخارجين»
Summa Contra Gentiles
وهو أهم ما كتب. وفي عام 1266م بدأ تأليف كتابه الرئيسي الآخر «الخلاصة اللاهوتية» كما كتب في هذه السنوات شروحا على كثير من مؤلفات أرسطو التي زوده بها صديقه وليم موربكة
William of Moerbeke
مع ترجمات من اليونانية مباشرة. وفي عام 1269م رحل مرة أخرى إلى باريس، حيث أقام ثلاث سنوات. وكانت جامعة باريس في ذلك الحين معادية للاتجاه الأرسطي عند الدومينيكان ؛ لأنه كان يوحي ببعض الروابط مع الرشديين الموجودين هناك. ولقد رأينا أن نظرة ابن رشد إلى الخلود كانت أقرب إلى أرسطو منها إلى النظرة المسيحية. وكان هذا نذير سوء لأرسطو، ومن ثم فقد بذل توما جهدا هائلا لإزاحة الآراء الرشدية من معاقلها. وقد أحرزت جهوده في هذا الاتجاه نجاحا تاما، وهو انتصار كان معناه المحافظة على أرسطو في خدمة اللاهوت المسيحي، حتى لو كان ثمن ذلك التخلي عن بعض النصوص الأصلية، وفي عام 1272م عاد توما إلى إيطاليا، حيث مات بعد سنتين وهو في طريقه إلى مجلس ليون.
وسرعان ما اكتسب مذهبه الفلسفي اعترافا واسعا؛ ففي عام 1309م أعلن أنه هو المذهب الرسمي للطريقة الدومينيكانية، وبعد وقت قصير أي في عام 1323م رسم توما قديسا، وربما لم تكن لمذهب توما من الوجهة الفلسفية تلك الأهمية التي يوحي بها تأثيره التاريخي؛ فمن عيوبه أن نتائجه مفروضة مقدما بطريقة حتمية في إطار العقيدة المسيحية، أي إننا لا نجد هنا ذلك التجرد النزيه الذي نجده عند سقراط وأفلاطون، حيث يسمح للحجة بأن تقودنا إلى أي اتجاه نشاء. غير أن المذاهب الكبرى التي عرضت في كتاب «الخلاصة» هي من جهة أخرى صروح ضخمة من الجهد العقلي تعرض فيها الآراء المتعارضة دائما بوضوح وإنصاف، أما في شروح توما على أرسطو، فإنه يظهر تلميذا ذكيا دقيقا لأرسطو، وهو أمر يتجاوز ما يمكن أن يقال عن أي واحد من السابقين عليه، وضمنهما معلمه (ألبرتوس)، ولقد كان معاصروه يسمونه «العالم الملائكي»، وبالفعل كان توما الأكويني بالنسبة إلى كنيسة روما رسولا ومعلما.
كانت ثنائية العقل والنقل عند اللاهوتيين السابقين من أتباع الأفلاطونية الجديدة، خارجة عن ذلك المذهب، أما التوماوية فأحدثت انقلابا فكريا ضد النظرية الأفلاطونية الجديدة. ولقد كانت الأفلاطونية الجديدة تقول بثنائية في مجال الوجود بين الكليات والجزئيات، أو لنقل بعبارة أدق إن هناك تسلسلا متدرجا للوجود، يبدأ بالواحد ويهبط من خلال المثل إلى الجزئيات، التي هي الأدنى من حيث الوجود، ويتم عبور الهوة بين الكليات والجزئيات على نحو ما، عن طريق الكلمة (اللوجوس) وهو رأي يبدو معقولا تماما لو عبرنا عنه بلغة أقرب إلى واقع الناس؛ ذلك لأن للألفاظ معنى عاما، ولكن من الممكن استخدامها للإشارة إلى أشياء جزئية. وإلى جانب هذه النظرية الثنائية في الوجود، نجد نظرية موحدة في المعرفة؛ فهناك عقل لديه طريقة في المعرفة هي جدلية في الأساس، أما عند توما فإن الأمر على عكس ذلك تماما؛ إذ يرى - على طريقة أرسطو - أن الوجود إنما يكمن في الجزئيات وحدها، ومن هذا يستدل على وجود الله بطريقة ما. وبقدر ما تقبل الجزئيات على أنها مادة خام يكون هذا الرأي تجريبيا في مقابل محاولة العقليين استنباط الجزئيات بالعقل. غير أن موقف توما مع أخذه بنظرة موحدة إلى الوجود يؤدي إلى ثنائية في ميدان المعرفة؛ إذ يفترض مصدرين للمعرفة؛ أولهما: العقل الذي يستمد مادة فكره من تجربة الحواس، وهناك صيغة مدرسية مشهورة تقول إنه لا يوجد في العقل شيء لم يكن من قبل في التجربة الحسية. ولكن هناك بالإضافة إلى العقل الوحي بوصفه مصدرا مستقلا للمعرفة. وعلى حين أن العقل يولد معرفة عقلية، فإن الوحي يزود الناس بالإيمان. فهناك أمور تبعد تماما عن متناول العقل، ولا سبيل إلى إدراكها إلا بتوجيه من الوحي، وإلى هذه الفئة تنتمي مسائل معينة في العقيدة الدينية، مثل أركان الإيمان التي تتجاوز الفهم، ومن قبيل ذلك الطبيعة الثلاثية للإله، والبعث، والمعاد المسيحي، غير أن وجود الله، وإن كان قد يتكشف للوهلة الأولى من خلال الوحي، يمكن أيضا أن يبرهن عليه جدليا عن طريق أدلة عقلية، ومن هنا تأتي المحاولات المتعددة لإثبات هذه القضية. وعلى ذلك فبقدر ما تكون مبادئ العقيدة قابلة للمعالجة العقلية، يمكن إجراء حوار عقلي مع غير المؤمنين، أما فيما عدا ذلك فإن الوحي هو الوسيلة الوحيدة التي تؤدي بنا إلى رؤية النور. على أن التوماوية لا تضع مصدري المعرفة هذين في نهاية الأمر على قدم المساواة؛ إذ ترى أن الإيمان لازم قبل السير في طريق المعرفة العقلية. فلا بد أن يؤمن الناس قبل أن يستطيعوا الاستدلال بالعقل؛ ذلك لأنه على الرغم من أن حقائق العقل مستقلة، فإن مسألة السعي إليها هي في ذاتها مسألة وحي أو نقل.
على أن هذه الطريقة في الكلام لا تخلو من مخاطر؛ ذلك لأن حقائق النقل اعتباطية، وعلى الرغم من أنه لا يوجد تعارض في نظر الأكويني بين العقل والنقل، ومن ثم لا تضاد بين الفلسفة واللاهوت؛ فإن كلا منهما يؤدي في الواقع إلى هدم الآخر، فحيثما يكون في استطاعة العقل التعامل مع الواقع يكون النقل زائدا عن الحاجة والعكس بالعكس.
صفحه نامشخص