حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرها
Athanasius
هو الذي اتخذ الخطوات الأولى التي أدت في النهاية إلى إخضاع حركة الرهبنة لسلطان الكنيسة. ولقد كان جيروم - كما رأينا - من أقوى أنصار أسلوب حياة الرهبنة. وخلال القرن السادس أخذت الأديرة تشيد في بلال الغال وإيرلندا، وكانت أهم الشخصيات في تاريخ الرهبنة الغربية هي شخصية بندكت، الذي أطلق اسمه على الطريقة البندكتية. وقد ولد عام 480م لأسرة من النبلاء، ونشأ في حياة الترف والبذخ التي تميز بها نبلاء الرومان، ولكن حدث له وهو في العشرين من عمره رد فعل عنيف على تقاليد نشأته الأولى، فقضى ثلاث سنوات من حياته ناسكا في كهف. وفي عام 520م أسس ديرا في مونتي كاسينو أصبح مركزا للطريقة البندكتية. وكان نظام هذه الطريقة كما حدده مؤسسها يشترط على أعضائها أن ينذروا أنفسهم للفقر والطاعة والعفة، أما مظاهر التقشف الشديدة التي كان يمارسها الرهبان الشرقيون فلم تكن تروق لبندكت؛ ذلك لأن تقاليدهم كانت تفسر الرأي المسيحي القائل إن الجسد آثم تفسيرا حرفيا. وهكذا كانوا يتنافسون فيما بينهم على الوصول إلى أشد حالة من حالات تجاهل الجسد. أما الطريقة البندكتية فقد قررت أن تضع حدا لهذه الممارسات الشاذة الضارة.
وكانت السلطة والقوة تترك لكبير الرهبان، الذي كان يعين مدى الحياة. وفي العهود اللاحقة أصبحت للطرق البندكية تقاليدها الخاصة التي كانت تتباين إلى حد ما مع مقاصد مؤسسها. وقد جمعت مكتبة كبيرة في مونتي كاسينو، وبذل العلماء البندكتيون جهودا كبيرة في سبيل المحافظة على ما تبقى من تراث العلم الكلاسيكي.
وظل بندكت في مونتي كاسينو حتى وفاته عام 543م، وبعد حوالي أربعين عاما نهب اللومبارديون الدير، وفرت الطائفة إلى روما. وقد واجه مونتي كاسينو الدمار مرتين خلال تاريخه الطويل؛ كانت الأولى خلال الفتح العربي في القرن التاسع، والثانية في الحرب العالمية الثانية، ولكن من حسن الحظ أن مكتبته قد أنقذت، وقد أعيد بناء الدير الآن من جديد.
وقد سجل جريجوري في كتاب المحاورات الثاني بعض تفاصيل حياة بندكت، كان معظمها روايات عن خوارق ومعجزات، تلقي بعض الضوء على الحالة الذهنية العامة للمتعلمين في ذلك الحين.
ولا بد أن نذكر أن القراءة كانت قد هبطت في ذلك الحين إلى مستوى الصنعة التي تتقنها أقلية ضئيلة جدا، أي إن هذه الكتابات لم تكن موجهة إلى مجموعة من الأميين الجهلاء، كما هي الحال في قصص سوبرمان وتفاهات الخيال العلمي الشائعة في أيامنا هذه. والمهم في الأمر أن هذه المحاورات تؤلف مصدر معلوماتنا الرئيسي عن بندكت. ويعد مؤلفها جريجوري الأكبر رابع علماء الكنيسة الغربية، وقد ولد عام 540م، وكان منتميا إلى أسرة من النبلاء الرومان. ونشأ في بيئة من الترف والبذخ، وتلقى نوع التعليم اللائق بمركزه الاجتماعي، وإن لم يتعلم اليونانية، وهو قصور لم يستطع أبدا أن يعوضه على الرغم من إقامته لمدة ست سنوات في البلاط الإمبراطوري في سنوات لاحقة. وفي عام 573م اشتغل عمدة للمدينة. ولكن يبدو أنه بعد فترة وجيزة شعر بأن هناك رسالة ينبغي أن يكرس لها حياته، فاستقال من منصبه وتخلى عن ثرواته لكي يصبح راهبا بندكتيا. وقد أدت الحياة القاسية المتقشفة التي أعقبت هذا التحول المفاجئ إلى إلحاق ضرر دائم بصحته. ومع ذلك لم يقدر له أن يحيا حياة التأمل التي كان يحن إليها، إذ لم ينس البابا بلاجيوس الثاني مواهبه السياسية، فاختاره سفيرا له لدى البلاط الإمبراطوري في القسطنطينية، التي كان الغرب لا يزال يدين لها بولاء نسبي. ومنذ عام 585م ظل جريجوري في البلاط، ولكنه أخفق في مهمته الرئيسية، وهي حث الإمبراطور على أن يشن حربا ضد اللومبارديين؛ إذ كانت فرصة التدخل العسكري قد ضاعت، وكانت آخر محاولة من هذا القبيل في عهد جستينيان قد أدت إلى نجاح مؤقت، ولكنها لم تسفر عن شيء في النهاية. وعندما عاد جريجوري إلى روما قضى خمس سنوات في الدير الذي كان قد أنشئ في قصره السابق. وعندما توفي البابا عام 590م اختير جريجوري خليفة له، على الرغم من أنه كان يفضل كثيرا أن يظل راهبا.
ولقد احتاج الأمر إلى كل ما يملكه جريجوري من حنكة سياسية لكي يتعامل مع الموقف الخطير الذي تردت فيه البلاد بعد انهيار السلطة الرومانية الغربية؛ ذلك لأن اللومبارديين كانوا يعيثون في إيطاليا فسادا، وكانت أفريقيا مسرحا للصراعات بين حكم بيزنطي ضعيف وقبائل البربر المناوئة، وكانت بلاد الغال ساحة للحرب بين الفيزيقوط والفرنجة، أما بريطانيا فقد أصبحت إنجلترا الوثنية بعد أن أزال عنها الغزاة الأنجلوسكسون طابعها المسيحي. واستمرت الهرطقات تثير المتاعب للكنيسة، وأدى التدهور العام للقيم إلى القضاء على نفس المبادئ المسيحية التي كان ينبغي أن تحكم أسلوب حياة رجال الدين؛ إذ كانت عادة شراء المناصب الكنيسة بالمال منتشرة، ولم يصبح من الممكن مكافحتها بصورة فعالة طوال ما يقرب من خمسمائة عام .
كل هذه الصعوبات المضنية ورثها جريجوري، وبذل كل ما في وسعه من أجل درء خطرها، ومع ذلك فإن نفس الفوضى التي كانت مستشرية في كافة أرجاء الغرب قد أتاحت له أن يقيم السلطة البابوية على أساس أقوى مما كانت تقوم عليه في أي وقت سابق؛ إذ لم يستطع أي أسقف لروما حتى ذلك الحين أن يفرض سلطته بنفس القدر من الاتساع وبنفس الدرجة من النجاح التي فرضها بها جريجوري. وقد أنجز ذلك أساسا عن طريق كتابة رسائل عديدة إلى رجال الدين والحكام الدنيويين الذين كانوا مقصرين في أداء رسالتهم الصحيحة، أو الذين أدينوا بسبب تجاوزهم النطاق المشروع لسلطتهم. وقد أصدر كتابا موحدا هو «قواعد رعاة الكنيسة
» وضع به أسس سيادة روما في تنظيم شئون الكنيسة بوجه عام. وظل هذا الكتاب يلقى احتراما بالغا طوال العصور الوسطى، بل لقد شق طريقه إلى الكنيسة الشرقية، حيث كان يستخدم في صيغته اليونانية، وقد أثرت تعاليمه اللاهوتية في دراسات الكتاب المقدس في اتجاه التفسير الرمزي، وتجاهلت المضمون التاريخي الخالص، الذي لم تصبح له الصدارة إلا في عصر إحياء العلوم.
وعلى الرغم من كل جهود جريجوري الدائبة في دعم مركز الكاثوليكية الرومانية، فقد كان رجلا ذا نظرة انتهازية إلى حد ما.
صفحه نامشخص