ولنعد الآن إلى حديث المركب السوداء التي أثار مجيئها كامن الداء؛ فتنبهت اليابان إلى أمرها من فرط دهشها، وعلمت أن وراء بلادها أمما كبرى، ومتاجر واسعة، ومصانع عظيمة، ومن عجائب تلك الأمم هذه السفائن المهولة المخيفة، وكذلك كان بلوغ مدرعة القومندور بيري نذيرا مبينا بسقوط دولة توكوجاوا. وتفصيل الخبر أن حكومة يدو التي يرأسها وكيل الإمبراطور استعظمت الخطب، ورأت أن الفصل فيه أصعب من أن تستطيعه؛ فاستدعت سائر الملتزمين.
وعقدت مؤتمرا للبحث فيما يجب القيام به نحو الأعداء المهاجمين، ثم رفعت إلى الحكومة الإمبراطورية التي كان مقرها كيوتو - على ما ذكرنا - تقريرا فيه تفصيل خبر بلوغ الأسطول الأمريكي شواطئ اليابان، وكانت هذه أول مرة استشارت فيها حكومة الوكيل سائر الملتزمين، ورفعت تقريرا رسميا إلى الميكادو، فكأنها في الواقع أقرت بعجزها، واعترفت بضعفها، وتنازلت تنازلا حقيقيا عن سائر حقوقها الاستبدادية التي تفردت بها في الحكم. هذا ما كان من أمر الحكومة.
أما ما كان من أمر الشعب، فقد أبى أغلب أهل البلاد أن يفتحوا بلادهم للأجانب؛ محتجين بأن الوحدة أمر يقضي به الدين عليهم، وأنهم إذا كفروا نعمة العزلة التي نشئوا هم وآباؤهم عليها كان ذلك مجلبة الدمار على الديار، ولكن البلاد كانت في الواقع منقسمة إلى ثلاثة أحزاب: الحزب الأول حزب الأحرار، وهو الذي أشار بفتح أبواب اليابان في وجه الأجانب ومعاملتهم، والاختلاط بهم، وكان أنصار هذا الحزب يرون ما يراه أنصار حزب التجارة الحرة في البلاد المتمدنة الآن، ولكن قلة عدد هذا الحزب كانت سببا في عدم العناية بآرائه.
أما الحزب الثاني فكان من المحافظين الذين يرون ضرورة العزلة في كل وقت، ما عدا الوقت الحاضر، وهؤلاء كانوا يلحون على الحكومة في التصريح للأجانب بالدخول ريثما تتخذ اليابان أهبتها، وتعد عدتها لمكافحة الأعداء المهاجمين في مستقبل الأيام. وكان هذا الرأي منتشرا بين فئة كبيرة جدا من المنورين والمهذبين، وقد انتحلته حكومة يدو - حكومة وكيل الميكادو - نفسها. وقد استغرقت هذه المسألة السياسية عاما بالبحث فيها، وكان القومندور بيري لما طلب الدخول في 1853 وعاقته الحكومة أمهلها، بعد أن وعدته بالفصل في المسألة، عاما آخر، ثم عاد إليها في 1854، وطلب منها الوفاء بوعدها؛ بأن تجيبه جوابا صريحا، وبعد التي واللتيا قر قرار حكومة يدو «طوكيو» على افتتاح أبعد المواني الصغيرة التي لا شأن لها منذ عام 1858 للتجارة الأجنبية.
فأحفظ
1
هذا القرار سائر الطبقات العالية اليابانية، وظنوا تصريح الوكيل للأجانب بدخول بلادهم انتهاكا لحرمتها، واحتقارا لشأنها، ومعولا لهدم عزلتها. وفي أثناء تلك الثورة الفكرية قام بعض العلماء والمفكرين ونشروا بين الشبيبة اليابانية مذهبا سياسيا جديدا ، وهو الالتفاف حول عرش الميكادو وتعزيز شأنه، وكانت هذه الفكرة قد أذيعت منذ نصف قرن وكمنت، ولم تظهر وتزهر وتثمر إلا في تلك الظروف.
فنهضت الأمة اليابانية عن بكرة أبيها، وألفت حزبا واحدا لا غرض له إلا مقاومة حكومة الملتزمين، واتقاء ما يصيب الوطن والأمة على أيدي تلك الحكومة التي صرحت للأجانب بأن يطئوا أرض الشمس المشرقة، واتخذت الأمة بأسرها شعارا تنادي به على رءوس الأشهاد، وهو «سو-نو-جوي»، ومعناه «أكرموا الإمبراطور واطردوا الأجانب»، وكان هذا النداء مبدأ الثورة اليابانية.
والمشاهد في مثل هذه الأحوال أن المسائل الصغيرة تكون منشأ للمسائل الكبيرة؛ فقد حدث أن اليابانيين حولوا أنظارهم عن مسألة إدخال الأجانب، وانتبهوا إلى مسألة عظمى، وهي انتخاب حكومة قوية الجانب تتناول أعمال الأمة بحزم وهمة، وتحفظ كرامة البلاد كما كان يحفظها الآباء والأجداد. ولا ريب في أن منشأ هذه الفكرة كان ضعف حكومة «التوكوجاوا شيجون» الذي أظهرته بإذعانها لوعيد قائد الأسطول الأمريكي القومندور بيري.
وقد أسست في ذلك الحين جمعية سياسية سرية كانت غايتها إنقاذ البلاد من أنصار الاستبداد، واسمها «ليتوكلان ساموراي»، وبدأت برئيس الوزارة في حكومة الوكيل الإمبراطوري، وهو تايرو لي، فقتلته أبشع قتلة؛ لأنه كان ينتقم من أعدائه في السياسة بالقتل والذبح والسجن الأليم.
صفحه نامشخص