مقدمة أولى
مقدمة ثانية
مقدمة ثالثة
1 - الحكايات العربية الشفهية ... والليالي1
2 - منابع الحكايات العربية اللاسامية الأولى
3 - حول قصص الخلق والخطيئة الأولى ودانة الأنثى
4 - العلاقات التاريخية والتراثية بين الساميين العرب والفرس الآريين
5 - الآلهة البركة وتوابعها
6 - حكايات الحيوان الطوطمية العربية
7 - الحزور والألغاز في الحكايات العربية
8 - الأبطال اللصوص والشطار النزقين والمكارين
9 - تحولات أبطال الحكايات الخرافية وسخطهم إلى حيوانات
10 - علاقات قرابية وزواج
11 - خوارق الجان وخرافة الإله الحمار سعد الدين
12 - نوح وزوجته والشيطان
13 - موسى
14 - النصوص
مقدمة أولى
مقدمة ثانية
مقدمة ثالثة
1 - الحكايات العربية الشفهية ... والليالي1
2 - منابع الحكايات العربية اللاسامية الأولى
3 - حول قصص الخلق والخطيئة الأولى ودانة الأنثى
4 - العلاقات التاريخية والتراثية بين الساميين العرب والفرس الآريين
5 - الآلهة البركة وتوابعها
6 - حكايات الحيوان الطوطمية العربية
7 - الحزور والألغاز في الحكايات العربية
8 - الأبطال اللصوص والشطار النزقين والمكارين
9 - تحولات أبطال الحكايات الخرافية وسخطهم إلى حيوانات
10 - علاقات قرابية وزواج
11 - خوارق الجان وخرافة الإله الحمار سعد الدين
12 - نوح وزوجته والشيطان
13 - موسى
14 - النصوص
الحكايات الشعبية العربية
الحكايات الشعبية العربية
تأليف
شوقي عبد الحكيم
مقدمة أولى
مدخل لدراسة الحكايات الشعبية العربية
إذا كان الهدف الأخير لهذه الدراسات في حقل الفولكلور - وأخصه الحكايات والقصص وأشلاء الأساطير من خرافية لطوطمية، لشعائرية، لتعليمية - هو إعادة التعرف على طفولة وتطور وتحولات المخيلة البشرية، بهدف إعادة صياغة الإنسان العربي المتقدم الجديد، الذي لا بد وأن تشكل مثل هذه التركة المتوارثة المتواترة جوهر بنيته الفوقية الثقافية بالمعنى المتفق عليه أنثروبولوجيا - أي بالمعنى الحضاري الشامل لكل ممارسة أخلاقية وسلوكية - بدءا من شعائر الجماع والطعام والتطهر، وانتهاء بالممارسة السياسية على طول الكيانات العربية، والتي فيها وعبرها تتفجر أقصى طاقات الخلق عبر كلا الفكر والفعل المكتمل والمتحقق في الثورة.
فحصيلة مثل هذه التركة الفولكلورية، ولنقل الماضي الحي، ما هي سوى «الحياة الواقعية» بفجاجتها وبهيميتها ومأساويتها في ذات الآن.
ففي إعادة الصحوة لسلبيات مثل هذا التراث قبل الإيجابيات والقوى الدافعة القادرة على تحويل جدلية الممارسة الحاضرة إلى ممارسة اجتماعية واعية، مجالها الأخير هو التنمية والتحولات الاجتماعية والتنوير.
وهو ما حدث بالنسبة للعالم المتحضر شرقا وغربا، منذ أن ارتاد الأخوان جريم هذا الحقل - أي الفولكلور - كنواة علم خاصة في موسوعتهما المعروفة المتصلة بدراستنا هذه عن الحكايات الفولكلورية العربية، وهي حكايات الأطفال والبيت وكتاب «الادا» و«هنريش المسكين»، وهي الكتب الثلاثة المهمة التي شهد صدورها مطلع القرن 19؛ عصر الصناعة الحديثة المصاحبة للتنوير في الغرب عامة.
فالملفت أن هذين الأخوين اعتبرا - منذ مطلع القرن الماضي - الحكايات الشعبية حطام أساطير أو بقاياها وأشلاءها المتأخرة.
وهذا صحيح إلى حد كبير، إذا اعتبرنا أن الأسطورة ما هي سوى مرادف للدين والقوى العلوية السماوية لعالم الأرباب الطوطمية والآلهة.
ونظرا لحلول الأديان التوحيدية - من يهودية ومسيحية وإسلامية - توارت أساطير ما قبل التوحيد لعالم الآلهة وقواها السماوية؛ ومن هنا تستر الآلهة تحت جلد الملوك والحكام ذوي البصيرة الخارقة، كما يتضح في جانب كبير واضح من حكايات وفابيولات هذا الكتاب.
فإذا ما اعتبرنا الفولكلور صدى للماضي، إلا أنه في ذات الوقت صوت الحاضر المدوي.
إنه الماضي الحي، بوظيفته الاجتماعية والاحتجاجية، كانعكاس ومعادل للصراع الطبقي وسلاح له كما يقول يوري سوكولوف.
لكن على أن هذا السلاح سيكون في صف الثورة مرة، ومعاكستها الثورة المضادة في معظم المرات، ولنقل التوالي التاريخي، وتواتر جزئيات هذا التراث المتوارث تحت مختلف المؤثرات والمعوقات والضغوط، سواء أكانت العادة وثقلها، أو اللغة وسحرها كوعاء أو علامات كلامية، هي في أحسن حالاتها وأحوالها تلعب دور الحارس الماثل على الدوام، في حفاظه على البنية الأسطورية، وبالتالي الخرافية، وبالتالي - أكثر - الاجتماعية الطبقية.
وإذا ما جرى سريان هذا القانون العام بالنسبة للغة - اللغات بعامة - فإنه ينطبق بدقة على لغتنا العربية التي - كما نعرف جميعا - مكبلة بالأسطورة وأعرابها قلبا وقالبا، منذ ذلك التاريخ الخرافي المصاحب ليعرب بن قحطان
1 - أول من تكلم العربية - أبي العرب الساميين.
كما أن من بين عوامل ومؤثرات توالي الاستمرار لصدى الماضي ومخلفاته عبر الحاضر الآني الماثل، وما يزخر وينخر فيه من خرافات وخزعبلات للحفاظ على بقية الأبنية من قرابية اتصالية إلى اجتماعية طبقية، إلى عمودية فئوية عنصرية طائفية، إلى نوعية تتصل بعلاقات الرجل بالمرأة ، بدءا بالسيادة للذكر، مرورا إلى الميراث، وتربية الأطفال وتنشئتهم، وهو ما اكتمل في البنية الأسرية.
ولعل أقرب مثال يمكن طرحه بالنسبة لواقع الشارع العربي - ولنقل السامي - وأحداثه الدامية، بل مهاتراته، اليوم والآن، ما يفضي بالضرورة مشيرا في اتهام إلى أزمة حضارية ماثلة ومحققة.
ففي كل الحالات والأزمات يطل هذا التراث جاثما من خرافات وخزعبلات وحكايات وحواديت وأمثال وفابيولات تجري على ألسنة الطيور والحيوانات والزواحف والحشرات انتهاء بالجراثيم، وهو ما سنقدم بعض نماذجه وقصصه النمطية أو المعاشة التي توصلت إلى جمعها، مع إخضاعها للمقارنة والاحتكاك مع بقية النماذج والتنويعات العربية
2
في الإطار الكوني.
وعليه، يحسن بنا أن لا نتأفف ونضجر من بشاعة أو سذاجة النماذج المنشورة، سواء تلك التي توصلت إلى جمعها من أفواه الناس، خاصة فلاحي مصر الوسطى على مدى ربع القرن الأخير، وظلت حبيسة عندي في انتظار تراكم عينات تجيء من مختلف بلدان الوطن العربي، لا من المنطلق القومي فحسب، بقدر ما أن الغاية هنا علمية؛ ذلك أن أي محاولة دراسية لهذا التراث - العربي أولا والسامي في المحل الثاني - لا تجيء على المستوى القومي، تجيء مبتورة محبطة، فالوحدة الثقافية والتراثية تجيء في المقام الأول كنتيجة حتمية للوحدة اللغوية للفصحى ولهجاتها، سوى من بعض السمات والخصائص التي يتطلبها الموقع العربي بين الشرق والغرب، أو بين العواصم الآسيوية والأفريقية والأوروبية، بالإضافة إلى سمات البحر الأبيض المتوسط بعامة.
لذا فإن محاولات الدراسة لهذا التراث تتسم بالوعورة المرهقة من جانب، ومن الجانب المقابل يتطلب الأمر الإحاطة بالحضارات التي أقيمت على ساحات قلب العالم القديم ومؤثراتها، من حضارات سامية لفرعونية، لفارسية-آرية، لهلينية، ورومانية، وبيزنطية، وتركية، وهكذا.
ذلك إذا ما توفرت الرغبة في إعادة المعرفة اليقينية بدور وحجم هذا التراث من فولكلوري وشعائري معط أو منزل متوارث، بلا مخاوف ومحرمات ومغالطات تجيء بها محاولات دراسية أدبية أو حلقية أو عنصرية (غير) علمية، وغير مستوعبة لما أنجز في هذا الحقل الإثنوجرافي منذ قرون، بمعدلات متوافقة طبعا مع منجزات العلم الطبيعي.
ففي توافر المواد لعينات ونماذج الحكايات الفولكلورية بأفرعها المختلفة من شفاهيات البلدان العربية؛ ما يوفر إتاحة الدراسات المقارنة للحكايات الشعبية العربية على المستوى القومي العربي دون عزلة - ولنقل مغالطة - عن مقومات البنية السامية التي نحن جزء جوهري منها، بخصائصها القبلية الحلقية المحددة السمات، والتي لا تبعد كثيرا عن جذور ومكونات المخيلة السامية - المتفق عليها - وحضاراتها منذ السومريين اللاساميين الألف الرابعة ق.م، وورثتهم البابليين والكلدانيين والآشوريين والكنعانيين والفينيقيين والعبريين والعرب - البائدة - الجاهليين وغيرهم.
فمن المتفق عليه أن روافد وقنوات المنطقة العربية - أو السامية القديمة - لن يتكشف ويتبلور ملمحها الفولكلوري والتراثي بعامة إلا تبعا لإيقاع المستقبل وتوالي المزيد من عمليات الكشف الحفري الأركيولوجي للتراث السامي الأم والمنبع، بما يسهم بالتالي في إضاءة جوانب فولكلور وتراث عالمنا المعاش اليوم، كما أنه في مقدور هذا المعاش اليوم إنارة جوانب الماضي التاريخ.
ولعلني مقتنع برأي عالم الفولكلور الفنلندي أنتي آرني
Arnee
في قصر الدراسات الفولكلورية على مجالها وحقلها قبل النظر إليها كعامل - جانبي - مساعد لحقول أخرى مثل الأساطير أو الشعر الملحمي مثلا، وهو ما يؤخذ على الأخوين جريم، خاصة يعقوب الذي اعتبر الحكايات الخرافية الشعبية «ذات أهمية لفهم الشعر والأساطير والتاريخ للتاريخ القديم»، وهو بالطبع رأي سديد في حالة الأخذ في الاعتبار أن لهذه الحكايات الخرافية دورها - لذاتها - القاصر عليها وعلى مشاكلها وقضاياها لذاتها.
من ذلك أن الحكايات الشعبية يمكن أن تكون بلا فائدة تذكر ما لم يكن تاريخها قد تقرر خلال الفحص والاستقصاء المقارن ... وبالطبع لا يمكن عقد هذه المقارنة دون توفر وتراكم الجزئيات
Motifs
أو عناصر وأحداث الحكايات الشفاهية - والمدونة - الفولكلورية بأنواعها وأنماطها وتصنيفاتها المختلفة، خاصة التصنيف المعدل المتفق عليه لعالم الفولكلور الأمريكي سيث تومسون، الذي نشره في قاموسه - الفهرست - طرز الحكاية الشعبية، وقسم فيه الحكاية حسب موضوعاتها إلى خمسة أبواب و32 مدخلا، ذلك مع الأخذ في الاعتبار الجزئيات أو العبارات أو التضمينات المتناثرة لكل حكاية، وتصل إلى أعداد بالغة الضخامة، فيقدرها البعض - مثل «كراب» - بأنها تزيد
3
على العشرة آلاف جزئية، ومنها بالطبع ما هو ثابت وما هو مستحدث مستجد، أمكن للدراسات والمناهج الجديدة رصد التوزيع الجغرافي لمختلف أنشطته الفولكلورية، سواء أكانت حكايات خرافية أو حكايات فشر، من أمثلتها:
يا ليل يا عين ما عرفش أكذب، «والضفدعة راكبة مركب»، «وأبو فصادة حارسها»، «والقط لسود ريسها».
أو كانت حكايات جان وعفاريت وعالم ما تحت الأرض، أو كانت حكايات هزلية أقرب في تعميمها إلى النكات والقفشات والنوادر المرتبطة أكثر بالحياة اليومية وضغوطها، فهي غالبا ما تتندر بغياب العدالة، والقضاة المرتشين، والحكام السفهاء، والوزراء الحمقى، وأفعوانية وتهافت ونفاق المشعوذين وتجار الأديان وخصيان السلطة.
فمثل هذه الحكايات الهزلية قد تخلو من عناصر الخرافة والخارقة، وإذا وجدت فهدفها بلورة الموقف الانتقادي الساخر، وخير مثال لهذه الحكايات: حكايات إيسوب، والديكاميرون لبوكاشيو.
وأقدمها أوديسا هومير الذي سخر من آلهة الأولمب إلى حد المسخرة، وبلاوتوس - الجندي المجيد - والمؤرخ الهليني اليهودي فلافوس يوسيفوس، وبوكاشيو في ليالي الديكاميرون، وسترابا رولا في العصور الوسطى.
وحتى لا نخرج على موضوعنا، نعود إلى تأكيد أن قنوات رصد مختلف أفرع الحكايات الفولكلورية شديدة التخصص ورصد الجزئيات أو العبارات أو المقولات الرئيسية، التي كما ذكرنا تصل إلى آلاف مؤلفة، منها: سكك السلامة والندامة، واللارجعة، وتحولات الإنسان إلى حيوان، والجارية أو الزوجة المضطهدة مثل هاجر وراحيل
4 - أم النبي يوسف - ورجم القردة والحيات والقنافذ - غنم سيدنا شعيب - الزانيات، وكذا تحولات سحر الشبيه - أو الشبشبة - الذي ينتج الشبيه، وتأثير الأشياء المتصلة في بعضها البعض عن طريق الأثر أو الأتر
5
كوسيلة لإخضاع الظواهر الطبيعية، وكذا سحر المشاركة والتمثل أو التوسل بالضحية أو خروف العيد - الكبير - والتضحية بالأبناء فاتحي الرحم، وكذا الأطفال الموعودين الذين تصاحب الخوارق أو الكوارث مولدهم، مثل: إبراهيم ويوسف وموسى وسميراميس وأوديب والمئات غيرهم.
خلاصة القول أنه أصبح اليوم في مقدور أي باحث أن يرسل في طلب منوعات أي فكرة أو جزئية محددة أو عينية من أحد المراكز الدولية للفولكلور لتصله على الفور هذه المنوعات ومترادفاتها على مستوى القارات الخمس، يكفي - مثلا - أن تطلب منوعات جزئية الأطفال الموعودين ... وكذا ما يتصل بطرح الطفل حديث الولادة في الماء؛ للتعرف على شرعية تملك الطفل حين يطفو على وجه الماء، وما يتصل برجم الحيوان - الثور - النطاح أو الزاني، وقدح يوسف، وقراءة الفنجان والمندل، ودق النواقيس والأجراس، وفولكلور المعادن، والأشجار والطيور والحيوانات، وجلد الماعز، ودم الحيض، وتقديس الأرقام (5 / 12 / 72) والطهارة والنجاسة والاستنجاء، وتقديس عتبات البيوت والأحجار، والجهة - مثل القبلي - وأربعة أركان التابوت، أو الجهات الأربع، أو الأقطاب الأربعة، وكذا الصيام، والعدد وإقلاله البركة.
وكذا الختان وأخذ الوش - غشاء البكارة - والثنائية أو صراع النور والظلمة، وخرافات الجان والعفاريت والهواتف والنداهات، وحكايات اللصوص والشطار وذوي العاهات والأبطال الخرافيين، أو المغامرين النزقين الذين يغلب عليهم الذكاء وسعة الأفق والحيلة، وهي خصيصة يتميز بها فولكلورنا المصري والعربي في إطار فولكلور البحر المتوسط بعامة.
ومن هنا تشتد الحاجة إلى محاولة وضع تصنيف للحكايات العربية من منطلقها الأشمل - أي العربي السامي - مع مراعاة الخصائص والسمات القومية المميزة، سواء تلك التي جرى الاتفاق عليها ممن تعاقبوا على دراسة فولكلورنا، وكذا شعائرنا، منذ روبرتسون سميث وموسوعته عن الأديان السامية، ونولدكه، وتيودور بنفي، حتى روبرت جريفز وليفي شتراوس، وتباعا حتى سميث وغيرهم.
كما تجدر مراعاة الخصيصة الاستراتيجية أو الجوهرية لهذا التراث القبلي المحمل ببذوره ومكوناته الأولى الفاشية العنصرية في تشريعها، بل تقديسها للحرب والإبادة وصراعات تملك المياه (من آبار ماء لأنهار لمجتمعات زراعية)، وكذا صراعات الهجرات وتملك الأرض أو الحما، والتوسل من أجل هذا بأساطير أرض الميعاد التي لم يبرأ منها شعب أو قبيلة أو رهط أو جماعة، من كيانات وحضارات الشرق الأدنى القديم، خاصة بالنسبة للمجتمعات البدوية الرعوية في اليمن والجنوب العربي أو الجزيرة العربية بعامة، دون إغفال لأسطورة أرض الميعاد العبرية، وما ترتب عليها من إغفال للحق التاريخي لأرض - شعب - فلسطين.
6
وعلى هذا فرضت علي هذه الخصيصة القبائلية أن أولي اهتماما مفردا لها من حيث التصنيف للحكايات - القبائلية - الأسرية أو القرابية، بدءا من حكايات وفابيولات أنا وابن عمي على الغريب، و«انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، ومرورا بمن فات قديمه تاه وانقطع، وكيف أن الغربة عن الحما - حما القبيلة الذي اتفق على حدوده الآمنة بسماع نباح كلاب القبيلة - تقل الأصول وتزول، مع ملاحظة أن الحما هو بذاته - ما أصبح - الوطن بمفهومه الحلقي المحلي للكيانات والمجتمعات الصغيرة المغلقة بسماتها ... من قرابية عشائرية لعنصرية طائفية.
بل إن هذا الملمح القبلي لفولكلورنا وحكاياتنا هذه، بالإضافة إلى الملاحم والسير بخاصة، فرض وجود بطن أو فخذ من داخل كل قبيلة ورهط وكيان، يحفظ لها أنسابها التي غالبا ما تنتهي عند شيت
7
ابن آدم «الذي عنده تنتهي أنساب جميع البشر».
وهو بالطبع ملمح أو خصيصة لا يقتصر علينا، بقدر ما هو منسحب على العالم القديم برمته، فأهل نيوزيلنده القدماء لديهم - كما يذكر كراب - من تخصصوا في حفظ الأنساب القبائلية، ونفس الشيء بالنسبة للقبائل العبرية، وقبيلة الماجي المجوسية عند القبائل الفارسية، ثم النسابة العرب.
وطبيعي أن يرتبط بالقبلية والعشائرية تقديس مطلق للأرض والدم والثأر، ونظم التوريث وحفظ النسل، والزواج من داخلي لخارجي، وأبوي بطركي لأموي، وما يتبع هذا من الأخذ بنظم تقويمية أو قمرية كما يشير بهذا الفولكلوريون الأنثروبولجيون، وهو ما لا يزال ساريا بالنسبة للتقويمات العربية الإسلامية القمرية أو الهجرية، وكذا العبرية.
كما يرتبط بهذه القبائلية وسماتها المحددة: الإغراق في تقديس الأسلاف الموتى - من الآباء والجدود - إلى حد العبادة، أو ما يعرف بعبادة الأسلاف، وتمثل وصاياهم ورموزهم: رأس آدم، تابوت العهد، عصا شعيب،
8
حمو موسى وموسى، قميص يوسف، قميص عثمان، الصليب شارة الهلال، وهكذا.
ولعلها آفة السلفية المصاحبة لحضارتنا هذه القبلية العربية والتي تطل برأسها مفرطة في هذه الحكايات، وتدفع بنا لا شعوريا اليوم إلى طبع الماضي على الحاضر على طول الكيانات العربية، فهي بذاتها «المياه الجوفية» والتي بمثابة الأوبئة التي كلما تفاقم طفحها تزايدت معها صداماتنا الطائفية العنصرية العرقية، واستغلت كمنتجات روحية ومقدسات ... لمختلف الأغراض الطبقية السلطوية.
فتستخدم - آفاتها هذه - أشد الاستخدام من جانب الطبقات السلطوية على طول عمليات التضليل التاريخية إلى أيامنا وواقعنا الماثل.
وتجدر ملاحظة مدى الحفاظ على هذا التراث الذي يتغلف جانبه الروحي- الأنيزمي متسترا بالتقديس، بل هو بذاته ما تسرب إلى الثقافة الرسمية، وسخرت له أجهزة الإعلام
9
الإلكترونية التي من مهامها الأولى: التخلص من براثنه، والإفلات من أسره وسحره الدفين وجمالياته الخادعة المغيبة لكل حس تطوري بروليتاري.
فمن الثابت أن الفولكلور لعب الدور الرئيسي في أدب القرن الثامن عشر، أما في القرن العشرين فكل مدرسة أدبية جديدة يمكن إرجاعها إلى الفولكلور: الرمزيون، المستقبليون، الخياليون، هذا في الغرب، فما بالنا بما خارج الغرب؛ أي عندنا على المستوى العربي بخاصة؟
فإذا ما كان أحد اهتماماتنا - بالنسبة لفولكلورنا العربي - هو مدى انعكاس الحياة ومفهوم العالم فيه، ومن منطلق أكثر حيادية وتدخلا مما تسمح بإباحته المدرسة الديمقراطية الثورية السوفييتية في مغالاتها بحثا عن التعابير الكاشفة لعوامل الاحتجاج والثورية في الفولكلور.
ذلك أن الحيادية - ولنقل: افتراض الشخص الثالث كما يعرفه جان جاك روسو، وبعده كلود ليفي شتراوس - تتيح للباحث التوصل إلى نتائج أكثر إيجابية في محصلتها النهائية، وإن كان مدخلها هو افتراض السلب بهدف الوصول إلى سمات لموقعنا الحضاري أقرب إلى ما توصل إليه لويس مورجان - المجتمع القديم 1871م - في تمييزه بين الفترات الإثنولوجية: الوحشية البربرية المدنية، وكيف أن الوحشية والبربرية ما تزال ترتع تحت جلد عالمنا المعاصر، وإن المؤسسات المنزلية لأجدادنا من المتوحشين ما زالت أمثلتها موجودة في أجزاء من العائلة الإنسانية بالتمام والكمال إلى أيامنا.
ولعله بذاته ما لا نزال نعايشه على طول الكيانات العربية - خاصة الأوطان والمجتمعات الأكثر جدبا وفقرا - وتعكسه حكاياتها وفابيولاتها، سواء على المستويات الوحشية - ولنقل: الحيوانية - سواء في تقديس الحيوانات من حمير - آلهة - (سنفرد لها فصلا خاصا) لماعز وكلاب وجمال، مرورا بالطيور من أبي قردان للغراب النوحي وهدهد سليمان وحمام الأرض الموعودة وحمامة الأيك، ثم الزواحف والحشرات من سحال وعناكب وضفادع، خاصة الحيات التي ما تزال تحمل لها المأثورات والتعابير الشفهية التسمية الأولى التي عرفها بها جلجاميش حين أطلق عليها - بعد سرقتها لماء الحياة أو نبات يعيد الشيخ إلى صباه - منذ خمسين قرنا: أسد التراب.
الحكايات الطوطمية
فما أكثر تردد جزئية أو فكرة علاقة الإنسان بالحيوان وزواحف الأرض من ثعابين وأبراص وحيات ، خاصة تلك الحية التي يتعرفها بطل الحكاية أو الخرافة، حين يصادفها تخون زوجها الثعبان وتزني فيقتلها أو يرجمها، فيكافئه زوجها أو حبيبها، وقد يدله على كنز، أو ينقذه من أسر أو شر يلحق به.
ولعل الخرافة التي جاءت بها المصادر العربية المدونة - الأغاني: 23، 405، 409 بيروت، وعجائب المخلوقات، ص215، القاهرة 1956م - عن ذلك الشاعر الجاهلي «عبيد» الذي أتاه الهاتف في المنام بكبة من شعر
10 - بفتح الشين - ألقاها في فمه، فقام يرتجز الشعر، مع ملاحظة العلاقة بين الشعر والشعر التي لا تهمنا هنا، سوى أن عبيدا هذا أصبح شاعر بني أسد، وكان يسير في قافلة «وهم بشجاع يتمعل على الرضماء فاتحا فاه من العطش، فنزل وسقى الشجاع حتى روي وانتعش، وانساب في الرمل».
والشجاع هنا هو الحية الفخمة التي زارت عبيدا في المنام وأنشدته شعرا، وأهدته بكرا أو جملا فتيا أنقذه - فيما بعد - من تيه الصحراء.
بل إن هذه الجزئية أو التضمينة - لقتل الحية أو الثور
11
الزاني - التي حدد عمرها وموطنها الأول مهاجرة من المؤلف الهندي الكلاسيكي مونباتيكاريترام الذي عرفه تيودور بنفي وموقعه من تراث الحكايات الهندية، وهو ما سنتعرض له في حينه.
فالأخذ بالثأر والانتقام ونداء الدم وروابطه السحرية لا يقتصر على الإنسان، بل يشمل الحيوان، ويتبدى في الفولكلور العربي بكثرة ملفتة، وهو ما سبق للدارسين تتبع آثاره الهمجية والمعاشة في الخرافات المتبقية، فحتى وقت قريب كانت تعقد المحاكمات لمحاكمة وإدانة «الحيوانات التي تؤذي الزرع كالفئران مثلا، وكانت هذه الحيوانات تستدعى للمثول أمام القضاء، ويعين لها مدافعون عنها، فإذا لم تحضر الفئران حكم عليها بالنفي أو الحرمان من رحمة الكنيسة».
وعلى هذا فالمزيد من الحيادية في جمع ودراسة التراث هو ما سيوقعنا على الجوانب المظلمة البهيمية العاجزة في فولكلورنا، وأخصه الحكايات الخرافية الحيوانية الطوطمية.
كما أن مثل هذه الحيادية ستوقفنا على التركيبات الاجتماعية، وخنق ووأد الأطفال حديثي الولادة، أو فاتحي الرحم، ناهيك عن الموقف من المرأة ووأدها بشكل جماعي في المجتمعات الصحراوية، ليس من منطلق العفة والشرف وتابوات المرأة، بقدر ما هو الجوع والضنك ورعب الفاقة؛ بما يدفع إلى ديانة وأدهن كشكل من أشكال تحديد النسل الجماعي البدائي.
وبالطبع تعكس الحكايات السورية والفينيقية اللبنانية، بشكل عام، مدى قتل الأطفال وإلى جوارهم أواني الطعام والشراب، والتضحية بهم ودفنهم أحياء في مقابر جماعية، وهو ما كشفت عنه الحفائر والمباني والمنشآت العامة، ولها تنويعاتها في خرافات مصر.
بل هي ما لا تزال متداولة إلى حد أنها تسربت إلى قصص يوسف إدريس عن تدشين أساس المباني بدم الأطفال الذبيحة، خاصة في حالات التعامل مع الآليات الحديدية بما يحيل مثل هذه الحكايات - الشعائرية - الخرافية إلى فولكلور الحديد والمعادن والمنشآت.
كذلك يضاف للحكايات الطوطمية - ويشكل جانبا كبيرا منها - حكايات الأشجار أو ما يعرف في الفولكلور الأوروبي بفولكلور الأخشاب، واستطاع الشاعر الإنجليزي روبرت جريفز رصد وحل أبجدية
12
الأشجار وأخشابها.
المناهج التي تعاقبت على دراسة الحكاية
فإذا كنا نتعرض للمناهج الكثيرة المتشعبة التي تعاقبت على دراسة الحكاية الشعبية ذات الميل الخرافي، منذ أن ارتاد يعقوب جريم هذا الحقل في كتابه: «الميثولوجيا الألمانية»، ومن خلفوه: لين مانهاردت وماير وموللر، لحين اكتمال المدرسة الأنثروبولوجية - الإنجليزية - بريادة أرثر تيلور وتلميذه أندرو لانج مع مطلع قرننا الحالي من جانب، ومن الجانب المقابل المدرسة الهندوآرية أو الشرقية التي ارتادها المستشرق الألماني تيودور بنفي، الذي أولى اهتمامه للمعرفة بأصول ومنابع التراث الأوروبي وقنوات هجراته، إلى أن وصل بها إلى الوحدة اللغوية أو الإثنوجرافية الهندوأوروبية، وهي العناصر المعروفة بالآرية في البنجاب وكشمير وراجبوتانا، والتي خلفت تراثها المعروف بالفيدا - أي المعرفة - وأقامت دولة بهاراتيا نسبة إلى ملحمتهم الشهيرة المابهاراتيا،
13
التي امتصت معظم الجسد الفولكلوري والأسطوري الآسيوي، ومنه الريج فيدا أو أشعار الفيدا.
أما الآرية فمعناها العشائر؛ ذلك أنهم عندما نزلوا سهول السند والجانج، نزلوا كعشائر قبلية، وعلى هذا النحو هاجروا إلى إيران ثم أوروبا، ومن هنا تشكلت الرقعة اللغوية الآرية التي وصل حماس تيودور بنفي لها إلى حد طرح الرأي القائل بانتماء معظم أصول الحكايات المتداولة على رقعة العالم أجمع إلى موطن أول أم ، هو الهند.
وهو الرأي الذي كبر الاهتمام به في ألمانيا ومعظم دول أوروبا الشمالية، إلى أن اكتملت معالم منهج معدل للمدرسة الفنلندية - الفولكلورية - التي أصدرت منذ 1840م أول جورنال متخصص للفولكلور في العالم، واتجه العلماء الفنلنديون منذ البداية إلى محاولة إرساء منهج متكامل حمل اسمهم فيما بعد، وعرف بمنهج «فنش للبحث والاستقصاء»، وعن أصول المواد الفولكلورية خاصة الحكاية، ورائدهم هنا «إنتي آرني» الذي نبه الأذهان إلى أن على الفولكلور كعلم أن يرسي حقله المستقبل المحدد، ويعمل على إنجاز مهماته في هذا الحقل، لا أن يصبح مجرد عامل مساعد أو تابع لدراسة أي علم آخر خارج مجاله كالأساطير.
فهو أول من نبه إلى أهمية البحث عن جذور ومنابع الحكايات النمطية، من تاريخية وجغرافية، كما أوضحت دراسة آرني أن لكل حكاية مفردة تصميمها الخاص بها وموضوعها الموحد، بالإضافة إلى الانتقادات القومية التي وجهها لنظرية تيودور بنفي الشرقية عن المنابع الهندية لأنماط الحكايات، فأثبت أن الكثير من الحكايات تنتمي لمختلف المجتمعات بعامة، ومنها بالطبع المجتمعات الأوروبية منذ العصور الوسطى.
وألقى آرني كثيرا من الضوء على تيه وهجرة وتبادلات وتزاوج أجزاء الحكايات الشعبية من الشرق إلى الغرب.
وحدد الأشكال والملامح والخصائص المحلية للكثير من الحكايات النمطية.
كما أنه استطاع أن يحرك زمن ومولد بعض الحكايات الشعبية عن أقدم مصادرها ونصوصها الأثرية الحفرية إلى أزمانها التاريخية المؤكدة أكثر.
من ذلك أن كثيرا من الحكايات النصية التوراتية، التي تحدد عمرها بإمكان العثور على أزمانها، مهاجرة من أصولها الأكثر قدما، سواء أكانت الدولة القديمة في مصر الفرعونية، أو تراث ما بين النهرين بعامة من سومري وبابلي وآشوري وفينيقي وكنعاني، أو تراث الجزيرة العربية خاصة الجنوبي-القحطاني.
ويمكن القول بأنه كان للفنلنديين اليد الطولى في اكتمال النواة أو اللبنة الأولى للمنهج الجغرافي التاريخي للبحث والتنقيب والاستقصاء عن موطن وعمر وهجرة المواد الفولكلورية، وبشكل أدق: هجرة وتغيرات هذه المواد أو العناصر في أدنى جزئياتها التي أمكن التوصل إليها وحصرها، فالحكاية التي نسمعها يمكن تقسيمها أو تشريحها إلى أفكارها وجزئياتها الرئيسية، ثم الجانبية أو المساعدة.
من ذلك أفكار خلق المرأة من ضلع الرجل، وتوحد الخالق بالماء والبحث عن ماء الخلود، والرحلات العبورية، والضربة الواحدة للبطل «ضربة الرجال ما تتناش» - لا تثنى - وهكذا.
فنظرا لغياب وافتقاد مثل هذا المنهج التاريخي، خاصة من جانب الدارسين العرب في حقل فولكلورنا، ونظرا لما يتطلبه هذا من إلمام كاف بالشفاهيات ثم بالمدونات الحفرية لروافد الحضارات السامية المتتابعة التوالي الزمني التاريخي، والتي لا ينقطع لها المجيء بالاكتشافات النصية الجديدة في معظم أرجاء الوطن العربي، الذي شهد مولد الحضارات الأولى، خاصة فيما بين الرافدين.
نظرا لغياب مثل هذا المنهج، تتعثر محاولاتنا الدراسية في مجمل أنشطة وحقول الفولكلور العربي المترامية، وأخصه الحكاية التي تميزه كواحد من أهم ثلاثة خزانات كبرى كونية.
المعوقات والمناهج العربية المغلوطة
يضاف إلى مشاكل ومعوقات دارس التراث العربي، سواء فيما يتصل بضياع وافتقاد المصادر الأم المدونة، أو تعددها، أو الجدب العام بالنسبة للدراسات النظرية والتطبيقية الميدانية كما وكيفا؛ أي من حيث جزئيات ومكونات وديناميات تركتنا الفولكلورية العربية، ولتوقفنا على مدى ما يعلق بها من رواسب وآثار بربرية عبودية ووحشية همجية، ما تزال تمارس متواترة هائمة بتمامها.
ويلي غياب النظرية العلمية الثورية في التعامل مع هذا التراث مشاكل الإهمال الذي تعانيه الجهود الميدانية لجمع أشلاء هذا التراث، باستثناء بعض الجهود المحلية العربية في العراق وسوريا وتونس والمغرب والأردن.
فمشكلة قلة وندرة المواد الخام - التي تسهم حين طرحها للمقارنة في المزيد من إنارة طريق البحث والاستقصاء - تأخرت كثيرا، على المستوى القومي العربي.
ثم تأتي مشكلة المشاكل المتصلة بالمناهج القاصرة المغلوطة، وما تفرضه من منع وتحريم يصل إلى حد الإرهاب في بعض المجتمعات والكيانات العربية، بالإضافة إلى افتقاد معظم الباحثين في هذا المجال للمنطلقات العلمية البديهية إلا بعد إدراكها من العقل الغيبي، والمتجاوزة للمنتجات الروحية، وتكبيلها المعوق للبحث المنهجي العلمي.
يلي هذه مشاكل المصنف، أو الدارس، ذاته بإزاء مواده؛ نظرا للتداخل الشديد بين جزئياتها من رئيسية وجانبية، وهو ما يعرف بالتزاوج والهجرات الداخلية لأعضاء أو جزئيات الحكايات ، فتصل هذه الهجرات الداخلية إلى حد التداخل بين جزئيات السير والملاحم مع الحكايات بأنواعها، فما أكثر حجم الجزئيات والتضمينات
14
المهاجرة من السير والملاحم والقصص الشعرية الاستطرادية إلى الحكايات والخرافات المحلية، والعكس طبعا أكثر دقة.
ومن هنا فأي محاولات للتصنيف والأرشفة قابلة على الدوام للتعديل والإعادة، سواء بالنسبة للحكايات النمطية أو لجزئياتها، كما أن من الأجدى والأكثر تصويبا أن لا نتمادى في الأخذ والنقل الجاهز لما أنجز في مجالات التصنيف والأرشفة والتنميط بالذات، فالمطلوب هو ما يفيد حركتنا العربية الوليدة، وكذا بالنسبة للتمييز بين الحكاية الخرافية وما يشاكلها من أنماط أخرى، من حكاية يطلق عليها شعبية وأخرى للبطولة وثالثة أسطورية تتصل بالعوالم الفوقية للآلهة، ثم الحكايات الطوطمية التي تجري على ألسنة أبطالها وشخوصها من حيوانات وزواحف ونباتات، وهي ما تعرف بالفابيولا، فهي مأثورة حيوان أو نبات لها غرضها الأخلاقي، ومن خصائصها قصرها ودقة بنائها وتصميمها المنسق مع مضمونها التعليمي، وهي هنا أقرب إلى المثل المتداول، وأشهر أنماطها حكايات إيسوب ولقمان الحكيم، خاصة مع أسرة التسعة الشهيرة، وكذا حكايات ومأثورات فراعنة مصر ونماردة العراق وعمالقة فلسطين.
صحيح أن من واجبنا - في محاولة البحث المنهجي لفولكلورنا وتراثنا العربي - عدم إغفال ما أنجز في هذا العلم من مشاكل التصنيفات والمناهج، بدءا بهجوم الأخوان جريم وسميث تومسون، والمنهج الفنلندي، والمدرسة الشرقية، والجهود الأيرلندية، إلا أن كل هذا لا يبعدنا عن نقطة انطلاق عربية في محيطها السامي، لإعادة التعامل مع التراث بما يحقق فائدة أكثر قومية وأكثر تجاوزا لما سبقنا من جهود، وأخيرا بما يحقق فائدة أكثر مباشرة لما نعانيه من قضايا التنمية، وأخصها العقلية.
فلتكن نقطة الانطلاق المتخلصة من شوائب ومعوقات الذهن الغيبي التهويمي، المنتكس في كل حالاته، والمحبط بمخاوف تدفع به إلى كل اختباء ورومانتيكية وهروب. وليكن واضحا أن هذه الثقافات المتبقية أو الموروثات هي بذاتها ما تشكل الجانب الأعظم حجما وكيفا بالنسبة للتراث العربي بعامة، وعيون كلاسيكياته وشعائره، مرورا بأدبه الرسمي؛ الوسيط، والمعاصر، والحديث.
بل هي تشكل مجمل البنية الأنيزمية الطقسية بدينامياتها وأدق خلجاتها، بدءا بتعاويذ وإيماءات الشعائر اليومية، وتابوات الطهارة والنجاسة، والمرأة الطامث، والطفل حديث الولادة، والاتصالات، ومنها مصافحة
15
الرجل الطاهر للأنثى في عمومها ككائن نجس، كما هو معروف ومتفق عليه خرافيا.
باختصار، فكما أوضحت في محاولاتي الدراسية السابقة لهذا التراث من المدخل النظري، أميل إلى استخدام بعض المناهج الأكثر أحقية وفائدة، ومنها المنهج البنائي، في شمولية فهمه للظاهرة وأبعادها وعلاقاتها المتشابكة، وأبرزها بالطبع التركيبات الاجتماعية الطبقية.
البناءات الطبقية
وهي - كما يتضح خاصة في الحكايات السودانية والعربية بالمعنى الجغرافي؛ الجزيرة العربية - تضرب في العبودية والبربرية، وإن كانت تستبدل هذه العبودية في مصر بعلاقات السخرة التي عرفتها مصر على طول تاريخها.
ففي النماذج السودانية، عادة ما يصحب البطل أو الشاطر خلال رحلاته وأفعاله عبده الذي قد يحل محل البطل في التنكر والحيل والمآزق. وفي حكاية «النيتو»، يقوم العبد باقتحام الصعاب؛ تلبية لأوامر سيده في معرفة حبيبته - النيتو - ويعود ليصف له محاسنها.
أما العبد المصاحب للحبيبة - النيتو - فإنه يتطلب من الحبيب «قنطارا من الذهب مهرا لها».
وفي نماذج سودانية أخرى، عادة ما يضطلع العبد بدور الراعي المكلف من سيده بذبح الابنة، أو إطلاقها لوحوش الجبال أو البرية، كما نلمسه في النماذج الهلينية والإيجية والفينيقية.
ففي حكاية «فاطمة البريئة» يصطحب العبد فاطمة - التي كادت لها زوجة أخيها واتهمتها بأنها حملت سفاحا - لكي يذبحها العبد ويملأ القدر من دمها ويسد فوهته بأصبعه كما أمره سيده.
لكن العبد يتركها إلى أن تلد عجلا، بما يشير من جانب إلى أن ثمة علاقة حيوانية أو بهيمية بين فاطمة والعجل، ومن جانب ثان إلى ملامح العلاقات العبيدية التي عادة ما تستبدل بالخدم - السخرة - في النماذج السورية والمصرية.
أما في حالة تبدي العبد في النماذج المصرية، فهو عادة شرير منازع للبطل كما في «دبايح المحرقة»؛ حيث يسرق العبد ابن سيده الموعود الذي تنبأت له جنيات البحر بأنه سيكون «كامل العقل وكل ما يطلب ينول»، ويمضي العبد يأخذ مكان سيده إلى أن يتزوج بعروسته ابنة الملك التي تنقذ حبيبها في النهاية، حيث ينقلب العبد إلى بغل.
فملامح العبيد في الحكايات المصرية تتبدى شريرة، بما يشير إلى أنهم أسرى أكثر منهم عبيدا، «فلم يثبت وجود العبودية في السجل الأركيولوجي لمصر فيما قبل التاريخ، وحتى في العصور التاريخية المبكرة، رغم استخدام الأسرى كعبيد» كما يشير جوردون تشايلد.
أما الاستثناء الوحيد للبطل العبد الصالح، فيتبدى في الصراع بين الفراعين، وليس الملوك، كما في حالة موسى والعبد الذي كان يقهره سيده الفرعون، بعد أن حبسه في طاحون أو هودية إلى أن حقق العبد انتصاره الأخير بأن أخذ مكان الملك الفرعون الظالم.
وهي خرافة كما يتضح من شخصياتها وجزئياتها وما داخلها من مؤثرات عبرية سامية، من ذلك شخصية موسى كبطل شعبي، وتوحد العبد بشمشون، والأسر داخل الطاحونة، وهو ما سنتعرض له في الفابيولات الموسوية.
مع الأخذ في الاعتبار أن غياب العبيدية من البنية الطبقية الجوهرية للمجتمع المصري منذ عصوره المبكرة، لا يعني استبعاد العلاقات والتركيبات العبودية؛ ذلك أن فلولها موجودة منذ أقدم العصور ممثلة في الأسرى والنوبيين، حتى أسرة محمد علي، سوى أنها غير مؤثرة في البنية الاقتصادية المصرية بالقدر الذي تشكله مثلا في بقية الأجزاء والكيانات والحضارات العربية، خاصة الجزيرة العربية وما بين الرافدين والسودان، وهو ما تعكسه حكاياتها.
يضاف إلى هذا أن بنية المجتمع المصري تشير بوضوح - فيما يعكسه فولكلوره وحكاياته هذه المنشورة - إلى ما هو أفدح من العبودية، وهو نظام السخرة الذي عبرت عنه قوة العمل المعجزة التي أقامت «حضارة السخرة» الحجرية الإنشائية، من أهرامات ومعابد ومقابر على طول وادي النيل؛ فهي قوة عمل جماعي تقودها أسواط المشرفين، وتستخدم في قطع الأحجار الجلمودية الجرانيتية ونقلها من أقصى مصر العليا إلى الوسطى؛ الجيزة وأهناسيا والفيوم، بل وحتى فاروس أو الإسكندرية القديمة، أي بدءا من أسوان حتى الإسكندرية.
بل لعلها هي ذات قوة العمل الجماعي التي حفرت قناة السويس وبقية أعمال السخرة التي ما زالت ماثلة في الوجدان الشعبي الجماعي لمعدمي فلاحي مصر، بل هي ما تزال ماثلة في عمال التراحيل حتى أيامنا.
فمن المفجع أن البنية الطبقية للمجتمع المصري، بدءا منذ حضارات ما قبل التاريخ - الأسرات - في الفترات البربرية التي عثر على ملامحها ومخلفاتها في حضارات
16
أرمنت والبداري، والعمرية أو الإمارات،
17
وجزوه - ببني سويف - والسمانية، وهي ما تزال مخلفة مؤثراتها إلى اليوم بالنسبة للتركيبات الاجتماعية، وأحوال هؤلاء العمال السخرة الذين لم يكونوا - كما يذكر جوردون تشايلد - «اختصاصيين متفرغين يعملون بالأجر، أي يتعيشون كلية من فائض الإنتاج الاجتماعي المتمركز في يد الفرعون، فكانوا - في الأغلب - يأكلون ويلبسون على نفقة المستخدم مقاول الأنفار طيلة وجودهم الذي قد يمتد لسنوات.
أما الفرعون أو الملك فهو في كل الأحوال تجسيد للطوطم والآلهة، وبذا تحول العمل الاختياري في العشيرة البربرية إلى سخرة إجبارية من أجل الدولة المشخصة في فرد، أو الكل في واحد؛ مما دفع بالفرعون لأن يأخذ مكان الطوطم السلف المقدس أو الإله.
فلقد كان الفرعون بالطبع إلها منذ ما قبل التاريخ، ومنذ أول فراعين مصر «زير» و«زيت» في مقابر البداري منذ الأسرة صقر التي اكتشفها ديزير في أبيدوس، ومكانها اليوم العرابة المدفونة.
فلعل المكانة المتميزة إلى أقصى حد لفرعون ما قبل التاريخ، ووضعه المحاط بهالات التقديس والتابو فوق المجتمع المصري، لعب أخطر الأدوار على طول تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي إلى اليوم.
إنها بمثابة شعيرة واصلت سريانها تحت الجلد أو السطح لذلك السلف العشائري سليل الطوطم إلى أيامنا للدولة المشخصة في فرد، كما أنها تبدت - بوضوح كاف - في الفولكلور المصري بعامة، والحكايات الخرافية المصرية التي نحن بصددها في إطارها العربي القومي.
فاستنادا إلى ميكانيزم الوراثة الاجتماعية للتراث، وكيف أنه أكثر سرعة بالنسبة لنظيره البيولوجي، يمكن القول بأن التراث الدعائي والإعلامي للوضع الطبقي داخل مجتمع ما - خاصة مصر - واصل توارثه في تقديس ذلك السلف وريث الطوطم أو الإله - وهو الفرعون أو الزعيم - إلى حد إضفاء صفة القدسية على ملوك مصر القريبين،
18
وكيف أنهم منسبون وهكذا.
كما أن هذا التوارث التراثي واصل سريانه وتوالده الذاتي في اتجاه إضفاء صفة القداسة والطهر على ملوك وأمراء الحكايات المصرية، فهم في كل حالاتهم ملوك وأمراء بسطاء طيبون منزهون «مكشوف عنهم الحجاب»، يجوسون الأسواق متنكرين في ثياب مهلهلة حفاة، يتسمعون شكاة المحتاجين، ويحققون رغبات الفقراء، ويطرحون ألغازهم السحرية.
كما قد يكونون أمراء وأبناء ملوك طيبين اختطفوا منذ المهد من جانب قوى الجن، أو لعنات القدر الباطش، أو خدمهم ووزرائهم الشريرين الخونة، تعلوهم في كل الأحوال هالات الاضطهاد والقهر، إلى أن ينتصر الخير لهم، فيعودون ملوكا وأمراء كما كانوا.
وهناك ملمح آخر يتكرر بكثرة في الحكايات المصرية، فعادة ما تزور الهواتف الملوك والأمراء في المنام ليخبروهم بسنوات الفقر والذل وزوال الملك عنهم، كما في خرافة «نعناعة»، حين زار الهاتف الملك في المنام وهمس له: قوم اسعى يا ملك، انت حاتتفقر سبع سنين.
وفي خرافة «قطع ذراع الكاتب» نجد الملك الأسد في نماذج الحكايات المصرية والسورية والسودانية والعراقية باسمه وشخصه، فهو حاكم طوباوي، ألغى البيع والشراء في مملكته أو مدينته الفاضلة، مثله مثل الملك معروف في سيرته المصرية حين زاره الهاتف في المنام، وأخبره بزوال ملكه، فبينما عمل ملك الأسد في النصوص المصرية والسودانية والسورية «حمارا وفطاطريا تأكيدا لمقولة»: إذا أقبلت
19
بأرض الحمام على الوتد، وإذا أدبرت شخ الحمار على الملك «الأسد».
لجأ الملك معروف إلى صبغ نفسه بالنيلة الزرقاء «بلون جلد الخدامين» والعبيد.
وكلاهما بالطبع خاض رحلة عبورية ومخاطرات إلى أن تعاوده الدنيا وتزول عنه اللعنة، فيعاود استرداد ملكه وصولجانه. •••
لذا راعيت في هذه المحاولة الدراسية ما يلائم خصائصنا بالنسبة للتصنيف، من ذلك العلاقات من طبقية وقبائلية تفضي إلى الأنساق القرابية ونظم الزواج والميراث.
كما راعيت الأنيزمية الطقسية وما تقتضيه من ذهن غيبي أو جبري يفضي بدوره إلى آفات القدرية والسلفية، والاعتماد على البركة وتوابعها في مواجهة العلم.
بالإضافة إلى مراعاة شعار الانتقالات، خاصة بين أطوار العمر من ولادة وزواج وموت بما لا يغفل وضع المرأة، وكافة الاضطهادات من عبودية فئوية طائفية، وأفقية تتصل بالانقسامات النوعية، وطرق التربية، واضطهادات أطوار العمر بما يفضي في مثل مجتمعاتنا السلفية هذه إلى تقديس الشيخوخة والتبرك بالشيوخ، والتجبر في إطاعتهم، وإطاعة الوالدين بعامة.
أما الذين يقللون من أهمية ولا جدوى جمع ودراسة فابيولات وخرافات الجان والسحالي والحيات الزانية، والخصائص الصوتية لجلود القمل البري السوداني حين تشد إلى طبل النحاس، وخوارق الأطفال القدريين المحجبين منذ بطون أمهاتهم، ثم ذلك الفيض من التفنن في ذكر الطعام وأصنافه، ومشهياته وعوالم قصور ومدن ما تحت الأرض المسحورة، وتلك المجتمعات الاشتراكية الفاضلة الخيالية عن مدن دول ألغيت منها النقود ومقاولات البيع والشراء، ولكل ما يحتاجه، والنفي والطرد مصير الجشعين والخطافين.
فالذين يقللون من أهمية ولا جدوى هذه الحواديت بدعوى أنها تنتمي إلى عوالم آفلة منقضية، فيكفي انتشار الترانزستور، وإضاءة القرى وإحلال العامل البروليتاري المكوكي لكي ينقشع كل هذا ويذوى ويموت من تلقائه؛ هؤلاء واهمون لا يضعون المبضع على أصل الداء.
صحيح أن «عبد الله الطوخي» في إحدى قصصه القصيرة لاحظ اختفاء حكايات عفاريت قريتهم ونداهاتها وجنياتها، التي كانت منتشرة على طول القرية وأزقتها وسواقيها الخربة وحقولها الممتدة على مشارف المنصورة حين دخلت الكهرباء، ونفس الشيء تلمسه قصاصنا «فهمي حسين» مع دخول الكهرباء قريتهم، وتبدد فلول وخزعبلات الليل، كذلك فقد أبدى «أحمد بسام ساعي»
20
ملاحظة قيمة في حكاياته التي جمعها من اللاذقية حول علاقة هذه الحكايات بالليل والإظلام، وكيف أن كثيرا من الرواة والحكواتية كانوا يرفضون القص إلا في الليل، وكأن الليل هو مستودع الحكايات فلا تظهر إلا فيه، «وما يزال يتردد إلى اليوم المثل الشائع لدى سكان الفرات: اللي يخورف بالنهار يصير حمار».
والملفت هنا أن هذا المثل المأثوري يعرف هذا التراث بأنه تخاريف أو خرافة، لكن ما يمكن قوله: أن ذلك الإظلام المصاحب للخرافة واصل تعايشه قبل دخول الكهرباء على شكل هجرة جماعية إلى كافة معتقداتنا قبل المعرفة أصلا بالكهرباء منذ أكثر من ألف سنة.
وتكفي إطلالة على مدى تقديسنا للجن وعوالمهم وشياطينهم واقتسامهم لحياة الأحياء بدليل انقسام العالم الخرافي إلى إنس وجن.
والسؤال التقليدي المتكرر في هذه الحكايات المنشورة حين يلتقي كائن بآخر، فيبادره على الفور: إنس ولا جن؟
كما يكفي أن في الخروج على تابوات هذا العالم العفاريتي الجني، وعدم الإيمان به، خروجا وكفرا يستوجب القصاص.
كما يكفي في هذه الحالة مهزلة حروب الجان وعبور الملائكة بجند مصر، كما صورته أجهزة الإعلام المسمومة المأجورة خلال كل حروبنا التحررية، وبشكل مزر مع حرب أكتوبر في مصر؛ خدمة إعلامية للمصالح الإمبريالية، وتفويتا على الأسلحة السوفياتية العامل المنتصر الحاسم في ذلك العبور في أيدي شباب مصر وفلاحيها.
صحيح أنه عالم مقزز، يطفح بالفقر المدقع وقطعان العبيد والخصيان والمرضى وذوي العلل، إلا أن هذا هو واقعنا على طول بلداننا العربية.
هذا العالم الخرافي الذي يحكم ناصيته مجموعة عوالم أو خصائص مغلوطة سالبة حجر زاويتها في تراثنا العربي - هنا والذي هو موضوعنا - عبر قنوات حكاياته ومأثوراته وفابيولاته المتوارثة.
حجر زاوية هذا التراث العربي الإسلامي السامي هو القدرية الإقليمية، والأسواق وتبادل السلع والتجارة، ففيما يتصل بالحفريات الأدبية الخالصة، فإن الانتقالات (تحولاتها) من الشرق إلى الغرب واضحة تماما، ويمكن تتبع أي عمل خلال تنوعاتها وتأريخاتها المحددة (في الزمان والمكان) عندما تأخذ طريقها إلى الفرس والعرب والسريانيين والعبريين واليونان وأوروبا، ثم تراث الآداب اللاتينية في العصور الوسطى، وينطبق هذا على «الحكم السبع» ومحيط القصة وكل الكلاسيكيات الهندية، خاصة إذا ما كانت الوسيلة أو الوسيط هنا هم العرب واليهود المثقفين.
فهذه القنوات الأدبية التي أينعت عبر الشرق الأدنى وحددت مسار التراث، أضافت وحذفت الكثير منه؛ بما يدفعنا من جديد إلى إعادة التعرف على الشرق الأدنى وفولكلوره.
ثم ماذا عن الحكايات وتقاليد حياة الجماهير اليومية في إيران وفي مسبوتاميا - آسيا الصغرى - وتركيا وسوريا وفلسطين وحتى جيلنا هذا، فإن مجموعات فولكلور هذه الأراضي ما تزال ضنينة غير مستكشفة كما ينبغي.
ولقد تحركت أخيرا بعض الدول وأنجزت بعض الواجبات المصاحبة لحركة الإحياء والنهضة العامة، خاصة تركيا التي يقف وراءها الأساتذة المتخصصون: «إبيرهارد وبورتاث»، فدرست بعض أنماط الحكايات الشعبية وبعض الفارسيات الجديدة والمجموعات العربية والعراقية ذات القيمة العالية، لكن هذا ليس كافيا لتغطية احتياجات فولكلور هذه البلاد، وحيث تروى الحكايات بشكل متواصل كجزء من النشاط الدائم في الأسواق (البازارات). ويضيف د . تومسون قائلا، مشيرا إلى أهمية الفولكلور الفلسطيني: وعلى رأس كل فولكلور الشرق الأدنى تقف شفاهيات فلسطين، هذا على الرغم من عدم معرفتنا بها، وتوجد بعض المدونات المجموعات القديمة لتراث القرن التاسع عشر الشعبي، خاصة في سوريا وبلاد المغرب، إنه شيء مدهش الحصول على بقايا أساطير وحوادث الأولياء والملوك المقدسين، مثل سليمان وداود ويوسف، وبعد مرور ثلاثة آلاف سنة.
وكما يضيف الأستاذ تومسون، فإن الحيرة التي تصادف دارسي فولكلور الشرق الأدنى تتمثل في دراسة التراث الفلسطيني.
21
وللمنطقة بوجه عام تاريخها المعقد، واليوم ومع التقدم المقتحم والتغير المتلاحق، ومرة أخرى وعلى طول ألف عام من التوغل القومي، لدرجة أن القراءة الواضحة للتراث المدون كانت معضلة مثلها مثل حل ألغاز المخطوطات.
ولذلك فإن دراسة علم مثل الفولكلور لا تجدي مع الهياب، ولكنها تجدي فقط مع أولئك الراغبين في أن يهبوا ويكرسوا كل جهودهم لنداء الواجب؛ مما يتطلب الاطلاع الواسع والطاقة التي لا حد لها، إلى جانب التحايل الذوقي والعدالة، وأرجو أن يلعب جيلي دوره في إيجاد الحلول الميسرة لما يعترض من مشاكل وغموض.
ولعلني أتوقف هنا مختتما هذه المقدمة حول قضايا وأصول ومنابع تراثنا العربي الفولكلوري بعامة، وجانب الحكايات فيه بخاصة، والذي هو موضوع هذا المؤلف.
وترجع هذه الأصول والمصادر الأولى لتراثنا إلى عصور موغلة في القدم؛ أي منذ الحضارة المبكرة فيما بين وادي الرافدين، أي منذ السومريين اللاساميين الذين توارثهم الساميون.
مقدمة ثانية
نقطة بدء لحركة إحياء لفولكلورنا العربي
وإذا كنا في بعض الأحيان يجنح بنا الطموح إلى حد طرح منطلق يحقق بمقتضاه حركة إحياء للفولكلور العربي على طول بلداننا العربية، قد تجيء - فرضا - تحت مظلة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية، ومن مهامها بالدرجة الأولى إنجاز مشاريع قومية للتراث العربي، قد يتبلور في نهاية الأمر في تنشيط واستنبات حركة جمع للتراث الشفهي، تسمح في الإسهام كنقطة بدء لأطلس للفولكلور العربي بمجالاته المختلفة الأدبية: من شعر وحكايات ومأثورات وبالاد وأساطير وسير وملاحم ، بالإضافة إلى بقية الأنشطة الأخرى؛ من تشكيلية وتعبيرية قوامها الفنون الزمنية من رقص وموسيقى ومسرح مرتجل.
كما قد ينهى المطاف بنا إلى مجرد التوصل إلى قاموس للفولكلور العربي وتاريخه، أقرب إلى ذلك الذي أنجزه د. ريتشارد دورسون الذي كان حتى وقت رئيسا لجمعية الفولكلور الأمريكية، وأستاذ هذا العلم بجامعة إنديانا، وسبق له - بمعاونة الجمعية - وضع قاموس في أربعة مجلدات عن الجزئيات
Motifs
أو العبارات الفولكلورية وعادات الفلاحين وأساطير البدائيين في ثلاثة أجزاء، وأخيرا مؤلف عن تاريخ حركة الفولكلور الإنجليزي، 500 صفحة؛ أكثر من مليون كلمة.
وقد تنتهي آمالنا في متحف للإنسان العربي وحضارته، على غرار المتاحف الإثنوجرافية للإنسان وثقافته، وأهمها هنا متحف الإنسان بباريس، أو متحف وليم كامدين في لندن؛ أحد الكتاب الكلاسيكيين الإنجليز في القرون الوسطى، 1551-1623، والذي كان أول من أشار بأن تسمية بريطانيا المتواترة من تعابير خرافية أمكن له تعقبها والعثور عليها في الأنتيكات التاريخية الأركيولوجية المندثرة، أيدتها الحكايات الخرافية الإنجليزية فيما بعد.
كذلك قد ينتهي بنا البحث عن طريق الجمع الميداني والتصنيف داخل المجتمعات والبيئات والحضارات العربية لجمع الحكاية الخرافية، وبما لا يمنع من مواصلة جهود النقل بالإقدام على ترجمة بعض المجموعات القومية الموسوعية المتفق عليها في حقلي الفولكلور والإنسانيات بعامة، مثل موسوعة «الحكايات الخرافية في الأدب العالمي» التي وصلت في الآونة الأخيرة إلى أكثر من خمسين مجلدا.
على أن لا يفوتنا الاستفادة من الأعمال الموسوعية في هذا الحقل، سواء التي أنجزتها هيئات أو أفراد مثل وليام جراهام سمينر 1840-1910، ومؤلفه الرائد «الأساليب الشعبية» الذي استغرقه أكثر من نصف قرن، رغم أنه لم يبدأ كتابته إلا في عام 1899، وصدرت الطبعة الأولى 1906؛ أي قبل وفاته في السبعين من عمره بأربعة أعوام لا غير.
على أن لا يغيب عن أنظارنا في كل الظروف أن منطلقنا - وليكن منهجنا - للتعامل مع تراثنا الفولكلوري العربي في إطاره أو منبته السامي، وحتى لا ننجرف إلى هوة الدوران في الحلقة المفرغة للمناهج السلفية الغيبية المغلوطة، التي لا ترى في التعامل مع التراث بعامة سوى مجرد إحيائه وبعثه من مدخل سلفي أكثر منه علميا، يضعنا في كل الأحيان عند محاولات طبع الماضي على الحاضر الماثل، بمتطلباته ومتناقضاته وما يفرضه من حتميات.
لذا يفضل في مثل هذه الحالة الأخذ بشعار: إعادة الإحياء للتراث بعامة، وأخصه الموروث الشعبي؛ بما يسمح بالتدخل الإيجابي المستقيم مع احتياجات التنمية؛ أي مع عدم فقدان توجيه الفكرة في التعامل مع هذا التراث الفولكلوري بهدف تحقيق غايات التنمية لمجتمعاتنا العربية من مادية وعقلية.
على أن هذا كان على الدوام المنطلق الذي اتخذته الدراسات الفولكلورية.
ولعلنا نذكر هنا أن كلمة «فولكلور» ترددت للمرة الأولى في أغسطس عام 1846، حين نطق بها اسكتلندي متخصص في اللغتين الفرنسية والإسبانية، هو وليم جون توماس، وأعقب ذلك بفترة إنشاء الجمعية الفولكلورية الإنجليزية بلندن عام 1878، وكان على رأس أغراضها القومية: «إرساء دعائم علمية هدفها إعادة بناء وجهة نظر لعالم ما قبل التاريخ الثقافي البدائي، من خلال فولكلور ومعتقدات الفلاحين المعاصرين.»
ذلك على الرغم من أن جامعي الفولكلور الإنجليز الأوائل لم يولوا أدنى اهتمام يذكر في تعقب جذور وأصول موادهم الميدانية التي توصلوا إلى جمعها من أفواه الفلاحين الإنجليز؛ للتعرف على منابعها وما طرأ عليها من تغيرات وهجرات ومزاوجات خلال الحضارات والأجناس والقبائل القديمة التي تعاقبت على إنجلترا، مثل ما قبل الكلت، ثم الكلت والرومان والساكسون والنورديين وغيرهم.
كما يجدر الاهتمام بجهود المدرسة الشرقية ورائدها المستشرق تيودور بنفي، ومن تعاقبوا بعده من الدارسين الفنلنديين الذين أرسوا ملامح المدرسة الفنلندية لمنهج الدراسات الفولكلورية، الذي أسسه يوليوس كرون ومن خلفوه من الدارسين، خاصة ابنه كارل كرون 1926.
واكتمال هذا المنهج واستقامته على يد إنتي أرني هلسنكي 1910، في الدليل الذي وضعه عن «أنماط الحكايات الخرافية وأنواع الحكايات الشعبية»، وهو التصنيف القيم الذي اكتمل في عدة مجلدات عن عبارات أو جزئيات الحكاية الشعبية في فولكلور العالم، المعروف بفهرست الموتيفات الأساسية للحكايات الشعبية والأساطير والبالاد وخرافات وقصص ومأثورات القرون الوسطى، بالإضافة إلى الحكايات الطوطمية والهزلية والمحلية، وبالإضافة إلى أن هذا الجهد التصنيفي يهمنا هنا جيدا؛ ذلك أن الجانب الأعظم الذي تضمنه هذا الدليل الفنلندي المرموق يخص تراثنا العربي باحتوائه على الآلاف المؤلفة من جزئيات الحكايات الفينيقية - ولنقل السامية العربية - لتراث الشرق الأدنى القديم المهاجر الذي حمله الفينيقيون من البحارة الشوام اللبنانيين والفلسطينيين، وطوفوا به منذ أقدم العصور - الألف الثالثة ق.م - في كل بقاع العالم البحري، خاصة البنية التراثية بل والسكانية التي استوطنت أقصى شبه الجزر الاسكندنافية وفنلندا.
ومن هنا يحق لنا رعاية هذا الدليل الفنلندي باهتمام خاص.
وبالطبع فهذه مجرد إلمامة لما حدث في العالم من حولنا من جهود في هذا الحقل، أو عجالة هدفها التوصل إلى تحديد نقطة بدء أو منطلق لخطة طويلة المدى، أو استراتيجية قومية وبداية لجهد عربي آن أوان مجيئه، إن لم يكن قد انقضى جدا.
وأتصور أن نبدأ في تنشيط حركة جمع الفولكلور للبلدان العربية على النحو التالي: (1)
القيام بعمل حصر ميداني لمراكز وهيئات جمع التراث والفولكلور بعامة، الموجودة بالفعل في بعض العواصم العربية، والتي وصل بعضها إلى درجة ملحوظة من التمرس الميداني، نذكر منها: المركز العراقي (بغداد)، والكويتي، والمغربي، والتونسي، والمصري، والسوري الإثنوجرافي؛ للوقوف على ما توصلت إليه هذه المراكز من جمع ورصد على كلا المستويين الكمي والنوعي للمواد الفولكلورية.
مع التعرف على أساليب الجمع والتصنيف المتبعة لدى كل قطر على حدة، بما يوقفنا على بعض الظواهر أو السمات المحددة، كأن تولي بعض المراكز اهتماما أكبر لبعض المجالات والحقول الفولكلورية والإثنوجرافية على حساب مجالات أخرى، كاهتمام المركز السوري مثلا - كما لاحظت وتحادثت مع مديره د. الحمامي - بالأزياء والفنون والصناعات الشعبية، ومركز تجميع التكية ومدرسة العظم، على حساب النصوص الشفهية، والعكس بالنسبة للمركز العراقي، بينما تتفوق الأبحاث المتصلة باللغة والصوتيات وصناعتها في المغرب.
أما في تونس فتستحوذ الإلياذة العربية أو سيرة الهلالية على الاهتمام الأكبر من حيث الجمع والبحث الأدبي، وليس الإثنوجرافي الذي قد يصل بالسيرة إلى أبعاد تاريخية سابقة على القرن العاشر الميلادي بعشرات القرون السابقة على التاريخ المتفق عليه، كما قد يصل بها إلى الصمود لكبريات سير الشعر الملحمي: الإلياذة، والمابهاراتا، وبيوولف ، والكاليفالا الاسكندنافية.
بينما يغيب عن المركز المصري الاهتمام بالتراث الموسيقي والفنون التعبيرية عامة، وافتقاده لقواه الدافعة التي صاحبت مولده إلى حد. (2)
يصبح مفيدا إقامة اتصالات بهذه المراكز؛ لتقييم حجمها من جانب، وتعرف ظواهرها، مع الأخذ في الاعتبار المعرفة أيضا بالوسائل التقنية المستخدمة من صوتية وبصرية، بالإضافة إلى المشاكل ومحاولة تذليلها بالقدر الممكن طبعا. (3)
عمل رصد للمجلات والدوريات والنشرات والجهود الفردية المختصة بالتراث، ومدى حجم جمع أشلائه في الأوطان العربية، مع الانتباه للمعوقات.
وستوقفنا المحصلة على جهد لا بأس به، سواء في العراق أو السودان أو مصر أو الأردن أو المغرب، يضاف إلى هذا عمل إلمامة للكتاب الكلاسيكيين العرب الذين حظيت كتاباتهم باهتمام الرواد من الباحثين؛ بدءا بفريزر، وروبرتسون سميث، وشتراوس، والشاعر الإنجليزي روبرت جريفز، وروفائيل بطي، والعشرات غيرهم.
مثل كتابات ابن إسحق، وابن الكلبي، وابن ديصان، وابن النديم، والميداني، واليعقوبي، والهمداني، والجاحظ، وغيرهم.
يضاف إليهم الكتاب العرب المتبحرون في كلا التراثين العربي والفارسي الآري؛ نظرا لما بين التراثين المتتاخمين من علاقات، نذكر منهم: عبد الله بن المقفع، والدينوري مؤلف عيون الأخبار والأخبار الطوال، والبلعمي، والمسعودي مؤلف مروج الذهب وغرر أخبار ملوك الفرس، وابن الأثير، وابن قتيبة، والمقدسي، والأصفهاني، والبيروني، والثعالبي بخاصة.
وهو ما سنتناوله في الفصل الخاص ب «العلاقة التاريخية بين العرب الساميين والفرس الآريين» من هذا الكتاب. (4)
محاولة الاهتمام بفكرة د. محيي الدين صابر في تنشيط حركة جمع بين طلبة المدارس للمرحلة المتوسطة والجامعية للمواد الفولكلورية والعادات والممارسات والمأثورات وكافة الإبداعات الشعبية الجمعية، بما يسمح للمنظمة بحق أن تصل بأذرعها المتعددة إلى آخر بقاع ونجوع البلدان العربية، مستنهضة ومهيمنة على حركة إحياء لهذا التراث المهمل المتجه بالضرورة إلى الطمس والاندثار، بإزاء اتساع رقعة الإعلام الإلكتروني من راديو وتليفزيون وصحف تغلب عليها الأمية، بل هي تستهدفها بما يخدم مصالحها.
ولعلها أقصر الطرق وأنجعها فائدة وأقلها تكلفة في تحقيق درجة قصوى من درجات الجمع الميداني، لن تستلزم من جانب المنظمة بأكثر من تحقيق اتصالات وتوعية، وبعض الدورات التدريبية والسمنارات القومية، إلى جانب اللجوء في حالة التنفيذ إلى الجهاز الإعلامي بالمنظمة، والاستعانة بالراديو لتوصيل مثل هذه التوصيات المصحوبة بإرشادات مبسطة للمشرفين التربويين - خاصة مدرسي المواد الاجتماعية والإنسانية بعامة - تتصل بإعطاء الاهتمام لأدق الممارسات والمأثورات، بدءا بالحكاية الخرافية، وانتهاء بالتعاويذ، وأغاني التخمير، وكيفية الوصول إلى الندابات والقابلات والنائحات المحترفات ومنشدي دلائل الخيرات، وشعائر الانتقال عبر شهور الحمل، والأزياء وأغطية الرأس، والرسوم الحائطية للحج والطهور، ووحدات الوشم، وكيفية التعامل مع شعر العانة أو الشعر السري، وأنماط الطهور؛ مرورا بالطب الشعبي وما أضيف
1
حول السير والبالاد والملاحم ذات الملمح العربي العام.
وما أسهل، في مثل هذه الحالة، اضطلاع المنظمة بإعداد المحاضرات والدراسات والأبحاث، وترويجها بالنشر - خاصة الراديو - في كل ربوع البلدان العربية!
وقد يصل بنا اكتمال مثل هذا التصور إلى حد عقد حلقات وسيمنارات محلية وقطرية قد ترصد لها تقديرات معنوية وجوائز منها الكاميرات والمسجلات الصوتية، قد تصل مستقبلا إلى حد المهرجانات وإحياء سوق عكاظ القديمة.
ويصل بنا مثل هذا الاستطراد إلى إعطاء اهتمام خاص للاحتفالات الشعبية والموالد، التي فيها يطل الاحتفاء بمثل هذه الفنون والثقافات المتبقية إلى أقصى النشاطات، مع البحث في ظاهرة الموالد ذاتها التي قد تصل بنا إلى بقايا طوطمية وتقويمية وتقديس للمحاصيل والأشجار المحلية كما هو معروف. (5)
فمن منطلق البحث في أطر أكثر تميزا لفولكلورنا العربي، ومن مدخل أنه أصبح في مقدور علم الفولكلور إعادة إنارة وتوضيح المدونات التاريخية، وإعادة ضبطها وتحريكها من أقدم مواقعها.
الخرافة المحلية
لذا من المفيد إعطاء اهتمام خاص للخرافة المحلية وظواهرها على طول البلدان العربية؛ نظرا لعلاقتها الشديدة بالأصول والمنابع الأولى للميثولوجيا العربية السامية، وجانبها الشعائري الأنيزمي إلى اليوم.
فما من شك في أن التوصل إلى إضافات ملفتة وهامة في حالة الاهتمام بالفولكلور العربي الأفريقي، في الحبشة والسودان والصومال والنوبة ومصر العليا، وبقية الكيانات الأفريقية التي سيشملها الاهتمام، وبالطبع يجيء هذا من المنطلق القومي اللغوي العربي.
ذلك أن الميثولوجيين الساميين سموا كل ذوي البشرة السوداء كوشيين،
2
وذلك نسبة إلى حام - ابن اللعنة - الذي تحمل أبناؤه فيما حجهم للبيت، فلعنه نوح: «اللهم سود وجهه ووجه من عصى ووطئ بعد وزر أو خطايا أبيهم حام، حين عصى حام أباه نوح، وجامع امرأته خلال امرأته»، وعندما ولدت امرأة حام غلاما جاء أسود اللون وسموه كوشا، وولد لكوش الحبشة بن كوش، أما شقيقه الثاني الذي لحقته لعنة أبيه أيضا - وهو «ماريع بن حام» - فقد ولد ثلاثة أولاد أو أجناس، هم: كنعان بن ماريع، وبربر بن ماريع، والنوبة بن ماريع.
وكذلك فقد يصل بنا دأب الجمع للخرافات المحلية التي خلفتها الأقوام السامية العربية على أعلى قمم
3
جبال لبنان وفلسطين، مثل جبال السامرية والعربية وجلعاد واليهودية، إلى جانب جبال شعيب صاحب مدين في الشام وسيناء، وشعيب بن حضور بن آلوت نبي القحطانيين في اليمن، وأيضا جبل ضهر في اليمن الذي وحدوه بالنبي هود: «لن نطيع الدهر هودا»، وجبل حرمون أو الجبل الشرقي في لبنان أي جبل الحرمان، سمي كذلك بحسب تفسير القديس «هيرونيم» الذي فسر حرمون بالموت حدادا على هابيل؛ ذلك لأن جنوبي هذا الجبل يطلق عليه اسم هابيل.
ولقد أورد زكريا القزويني حكاية غريبة بسهل عكا في أطراف لبنان، فقال: إن «بها عين البقر»، وهي بالقرب من عكا، يزورها المسلمون واليهود والنصارى، ويعتقدون أن البقر الذي ظهر لآدم فحرث عليه - لأول مرة - أخرج من هذه العين.» وهي نفس العين التي سماها الفرنسيون بعد ذلك في القرن السابع عشر ب «عين العذراء مريم».
ونهر القاسمية كان يسمى نهر الليطاني أو الممنوع أو الملعون أو الحرام، وكذلك نهر قديشا أو المقدس الذي سموه «ليطا» وفسروه بالشرير، أما نهر الأولى أي نهر المدينة الأولى، فقد سماه العرب قديما بنهر الفراديس، وكذلك فقد استبدل العرب اسم نهر أدونيس باسم إبراهيم، ويشير «رينان» إلى وجود علاقة بين إبراهيم وإيل إله جبيل، بل إن العرب خلطوا بين إبراهيم وبين الإله بل إله الكنعانيين.
واستنادا إلى ما يقوله أحد قدامى
4
الرحالة الفرس، فإن أحد سهول بيت المقدس - وهو سهل «الساهرة» - اعتقد العامة في أنه سيكون ساحة القيامة والحشر ، «ولهذا يحضر إليه خلق كثيرون من أطراف العالم حتى يموتوا، فإذا جاء وعد الله كانوا بأرض الميعاد». كما أنهم اعتقدوا في أن هذا السهل هو «بيت فرعون» وسموه «وادي جهنم».
ومن أماكن اليمن المشئومة: جبال ختا أو خياف، والجبل الأشيب سيد جبال النار وقطب اليمن، فيقال إن ذلك الجبل يظهر عليه أهل النار والخراب، وتعوي فيه الذئاب، كما أن من بين الأماكن الملعونة: نجران وصعدة وبكلي، ويروى عنها الكثير من الخرافات، وأما جبالها المقدسة فهي جبال: حضور وحنين ورأس جبل علي ورأس صبر وتعكر ... إلخ، وباليمن واد يعرف بوادي عشار «كثير الإخصاب» نسبة إلى الإلهة إيشار أو عشتروت، كما أن اليمنيين نسبوا أقدم قصور اليمن - وهو قصر «غمدان» - إلى سام بن نوح الذي «ابتدأ بناءه واحتفر بئره»، وتنسب حوله الخرافات: أن طائرا اختطف المقرانة وطار بها، وتبعه سام لينظر أين أوقعها الطائر، ثم أقام البناء.
كما اعتبرت مدن الشام وقراها مسرحا لما لحق الخطيئة الأولى ... فيقال:
5 «إن آدم لما أخرجه الله من الجنة (نعيم عدن) سكن جبل حرمون، جبل الشيخ، وإن ولديه قابيل وهابيل أقاما طويلا شرقي الفردوس في سهل البقاع، ويستدل على صحة هذا التقليد اليوم من قبور هابيل وقابيل وشيت المقامة في المحل المشار إليه»، ويقال إن تسمية دمشق، نسبة إلى إراقة دم قابيل لأخيه هابيل، ويقول القديس «هيرونيم»: «إن معنى دمشق شراب الدم.» كما يقال إنه من أرض دمشق هذه، قيل لهابيل: «والآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دماء أخيك من يدك.» «ويقال إن هذا التقليد كان منتشرا بكثرة في أيام الحروب الصليبية»، كما يقال إن باني دمشق هو «إليعازر» خادم النبي إبراهيم في نفس الحقل الذي قتل فيه قابيل أخاه هابيل.
أما دمشق فهي أرض «آدم»، منها جاءت تسمية آدم بمعنى أديم الأرض أو القدم، ويبدو أن تسمية «أدوم» كانت تشمل جزءا من الأردن، وهي الأرض التي نزلها عيسو أو العيص بن سحاق.
6
فيبدو أن أدوم كانت تشمل أيضا جزءا من الأردن، ويؤكد هذا الكشوف الحفرية التي توصلت إليها البعثة النمساوية التي أعلنت بعض نتائج اكتشافها في يوليو 1974.
وينتشر بين سكان جبل قاسيون شمال دمشق اعتقاد بأن جريمة «القتل الأولى وقعت في أعلى قمم الجبل»، وينسب القزويني لإحدى صخور دمشق الكبيرة أنها كانت المكان الذي قدما عليه قربانهما «حين تقبل من صاحب الزرع، ولم يتقبل من صاحب الرعي»، وهناك حجر عليه مثل آثار الدم، اعتقد الدمشقيون القدماء في أنه الحجر الذي هشم عليه الأخ أخاه؛ لذا سميت المغارة المجاورة لهذا الحجر «مغارة الدم».
وبينما يرى المسلمون أن الجريمة وقعت داخل أغوار
7
صحراء شديدة الجدب، «ومنذ ذلك اليوم لم يقرب الندى جدب هذه الصحراء».
يرى اليهود أن الجريمة وقعت في إحدى قرى جبل قاسيون، وهي قرية بسيمة.
ولقد وحد الأقدمون بين قابيل والشيطان «أشمودي»، الذي ينسب له تشييد مدينة بعلبك التي اعتبروها أول مدينة في العالم؛ إذ إن قابيل ابن آدم عندما اعتراه الارتعاش أمر ببنائها، ولقبها باسم ابنه أخنوخ - النبي إدريس - وأسكن فيها الجبابرة والمهترجية، ولكثرة فواحشهم أرسل الله عليهم طوفان الماء «أو طوفان نوح».
ويسمى وادي البقاع بلبنان بسهل نوح، وبه قبر نوح بالقرب من زحلة، وإن ملكا، هو الملك الظاهر - عام 1258م - أعاد بناء القبر فجعله «واحدا وثلاثين مترا».
كما أن في الجولان بقايا قبائل الفضل والنعيم، وما عرف عنهم من أخصاب ملحمي شعري قد يقودنا إلى أصل ملحمة «سعد اليتيم» المعروفة.
وبالنسبة لإبراهيم، فإن في مدينة القدس صخرة يقال إن «عليها آثار سبع أقدام»،
8
وسمعت أن إبراهيم كان هناك، وكان إسماعيل طفلا فمشى عليها، وهذه هي آثار أقدامه: «ويرى البعض أن قبر نمرود الجبار - الذي حاربه إبراهيم - موجود بجبل لبنان»، إلا أن هناك من يقول إن في قرية «أرواد» أربعة قبور لأربعة من أبناء كنعان.
ويعتقد سكان قرية كفر ناحور بلبنان أن قبر كنعان موجود على إحدى الصخور الموجودة هناك، كما يقال إن النمرود بن كنعان هو باني قلعة بعلبك، وفي بعلبك بقايا آثار قصر سليمان ودير إلياس، وجبل سعيد الذي على قمته أقدم إبراهيم على ذبح ابنه وبكره إسماعيل.
وفي مدينة عكا توجد قبور «عك» - باني المدينة - وعيش، وشمعون، وذي الكفل، وهود، وعزير، وشعيب وابنته زوجة النبي موسى، وفي قرية أربل أربعة قبور لأربعة من أبناء يعقوب، وكذلك غار وجد به قبر أم موسى، ويوشع بن نون، بالإضافة إلى سبعين نبيا.
أما في جنوب بحيرة طبرية فيوجد بحر لوط،
9
ويقال إن مدينة لوط كانت تقع على شاطئه. •••
موجز القول أن الأقوام السامية قد خلفت أساطيرها ومعتقداتها الخرافية في عصور الظلمات أو عصور ما قبل العالم على آثارها ومنشآتها ومعالمها الطبيعية بشكل غاية في الإفراط.
فاستنادا إلى القدرات اللامتناهية التي يمكن للذاكرة الشعبية الجمعية تأديتها في استكشاف وإيضاح ما هو مغلق ومندثر لكلا الوجهين: التاريخي والتراثي لبلداننا العربية، يمكن القول بأن في الإمكان إعادة التعرف واستجلاء ذلك التاريخ الثقافي اليومي لبلداننا، منذ بدء تواجد الإنسان العاقل على الأرض العربية.
فلعلني لا أمل الإلحاح بالقول الدافع إلى الثقة في قدرة الذاكرة الجمعية - التي تجيء من المنطلق القومي لا التجزئي الانعزالي - على إعادة إيصال واستقامة ما انقطع، وما يعتري أحقاب تاريخنا، خاصة الثقافي، من اندثار وغموض.
من ذلك ظاهرة تسمية أكثر من مدينة سورية - خاصة الشمالية بانياس - باسم ذلك الشاعر الأسطوري المتعاصر مع منشد الإلياذة هوميروس، وربما كان أسبق منه القرن السادس ق.م.
فبانياس كان أول من جمع أسطورة الإله الزراعي الممزق أدونيس، الذي هو أحد أوجه أو تنويعات أوزوريس في مصر، وتوفي في وادي الرافدين، وديونسيوس عند الهلينيين، وديونسيوس زاجريوس في كريت، ومسبوتاميا أو آسيا الصغرى بعامة.
فلقد كان الشاعر السوري بانياس هذا أول من جمع أسطورة أدونيس وأعاد نظمها شعرا، الذي قد يصل بنا جمع مأثوراته المحلية اليوم، وأستطيع أن أجزم بأنها ما تزال تعيش على الشفاه في مدينته السورية التي زرتها متسرعا بدعوة رقيقة من صديقي المفكر القصاص أحمد إسكندر - وزير الإعلام السوري - عام 1976، بصحبة زوجتي الباحثة الاجتماعية فريدة إلهامي، بالقرب من اللاذقية ومكتشفاتها الحفرية في رأس الشمرا أو أوغاريت التي ترجع إلى القرن الرابع عشر ق.م، وأدت عشرات الألوف من نصوصها الأسطورية والفولكلورية - المكتشفة عام 1929 - إلى إلقاء ضوء قوي على جذور التراث السامي العربي والعبري ومنابعه المبكرة، خاصة الجانب الأعظم من التراث العبري، وبخاصة أكثر التلمود الأورشليمي الفلسطيني.
وخلاصة القول أن في تركيزنا على تنشيط استكمال جمع الخرافات المحلية لا لأقطارنا العربية فحسب، بل لمدنها ومعالمها البيئية والمحلية.
من ذلك ما تزدحم به الأقاليم والبيئات السودانية والنوبية والمصرية والفلسطينية والليبية واللبنانية، سواء في تراث المدن الفينيقية الدول: صور وصيدا وجبيل وبعلبك، أو بيبلوس الإغريقية وتراثها العريق.
وبالنسبة للعراق فما تزال آثار وتجمعات وموروثات بقايا أهم وأعرق ملاحم العالم القديم: جلجاميش، أو قلقاميش كما يسميها العرب، في مديريته التي ما تزال تحمل اسمه جلجاميش إلى اليوم، وكذا بقايا موروثات الكلدانيين والبابليين والآشوريين والفينيقيين والقرطاجنيين والحورانيين.
فالمفجع والملفت أنه حتى أيامنا هذه ما تزال تعيش بقايا الحضارات والكيانات السامية بروافدها المختلفة، مثل الكلدانيين - الألف الثاني ق.م - المعروفين اليوم بالحرانيين - بحران بالعراق - وقصصهم عن كيف التقى بهم الخليفة العباسي المستنير المأمون، وكان في طريقه إلى الحرب وسألهم: هل أنتم أهل كتاب؟ ثم خيرهم بين الدخول في دين أو قتلهم وسافر ومات.
ومن معتقداتهم أنهم يجلسون في الزيت (يقال: فلان في الزيت)، ويزعمون أن طبيعة الإنسان أليق وأشبه بطبيعة عطارد عن سائر الحيوان،
10
وأقرب إليه بالنطق والتمييز.
وكانوا عقب الموت ينزعون الرأس بعد ذلك عن الجسد.
ولهم كتاب يسمى بالكتاب الحاتفي، وكانوا أول من سمى أيام الأسبوع باسم الكواكب السبعة السيارة، وهي التسمية السارية إلى أيامنا.
ويقولون بأن يوم الأحد للشمس واسمها إيليوس، يوم الإثنين للقمر واسمه سين، يوم الثلاثاء للمريخ واسمه آريس، يوم الأربعاء لعطارد واسمه نابق، يوم الخميس للمشتري واسمه بال، يوم الجمعة للات واسمها بلثى، يوم السبت لزحل واسمه قرنس (كرونس).
ويصلون ثلاث مرات في اليوم «ولا صلاة عندهم إلا على طهور»، ويصومون 30 يوما يعقبه عيد الفطر، ويذبحون للكواكب، ومن مس المرأة الطامث يتنجس، وحرموا لحم الخنزير والكلب والحمار، ومن الطير غير الحمام، ويفرطون في كراهية الجمل، ولا طلاق إلا بحجة بينة عن فاحشة ظاهرة، ولا يرجع المطلقة، ولا يجمع بين امرأتين، ولا يطأهن إلا لطلب الولد.
وعندهم أن الثواب والعقاب إنما يلحق الأرواح.
والنبي عندهم هو البريء من الذمومات، وينزل الغيث ويدفع الآفات عن النبات والحيوان.
وقولهم في الهيولى والعنصر والصورة والعدم والزمان والمكان والحركة كما قال أرسطاطاليس، وقولهم في السماء: أنها طبيعة خامسة ليست مركبة من العناصر الأربعة لا تضمحل، وقولهم في النفس: أنها دراكة لا تبيد وأنها جوهر وليست بجسم (كما في كتاب النفس).
وبالعراق أيضا بمدينة الموصل الحافلة بأماكن الخرافة المحلية مثل قبر الست ملكة والنبي جرجيس بجوار سوق الشعارين، ومزارات السبعة الحدادين قريبا من باب سنحار خارج السور في محل يسمى السبعة الحدادين، يقول الناس إن فيه قبورهم، وكانوا إخوة يشتغلون بالحدادة.
وخرافات الشيخ الوسواس: «من ابتلي بالوساوس الشيطانية والعلل السودائية وزاره يبرأ.»
ومقام الخضر بجوار منبر الجامع النوري، ويقال: إن من صلى الصبح أربعين صباحا يجتمع به.
والنبي شيت جنوب الموصل، وفي عام 1231 أعاد بناءه الوزير أحمد باشا عبد الجليل زاده.
والنبي
11
يونس بن متى مدفون في قرية نينوى، وجدد بناءه تيمورلنك 796، ويصدر من قبره أزيز كأزيز النحل، وكما يقول سعيد بن جبير ووهب بن منبه: فإن يونس أرسل إلى أهل نينوى.
عن ابن عباس قال: نودي الحوت: «إنا لم نجعل يونس لك قوتا، إنما جعلنا بطنك له حرزا ومسجدا.»
قيل للنبي: إنك تحب القرع. قال: هي شجرة أخي يونس ... فجعل يستظل تحتها.
كذلك يقال إن نبيا اسمه جرجيس قبره في الموصل، وإن تيمورلنك استخرجه وبنى عليه مسجدا، ويقال إنه كان من أهل فلسطين. وعن ابن إسحق يقال: إنه كان ملكا على الموصل. وعن الهمداني: ملك الشام كلها. وكانوا يعبدون صنما يقال له «أفلون».
موجز القول أن في إعطاء اهتمام ملحوظ أكبر للخرافة المحلية على طول بلداننا العربية، ودون مخاوف أو مخاطر الإغراق المفضي إلى النعرات من شوفينية وعنصرية، وانقسامات رأسية بعامة، بل من مدخل الإلمام وجمع الأشلاء الهادف إلى المعرفة بحقيقة واقعنا، وفي اتجاه المزيد من تجميع الروافد والقنوات الداعية إلى التجدد القومي العربي. (بإزاء إعادة تمحيص مخلفات الماضي المندثر وموروثاته الموغلة من تكاملها البنائي الطوطمي القرابي القبلي.
وفي اتساق محكم متسلط إلى أيامنا الماثلة، يقف مشهرا كل أسلحة دفاعاته عن البنية الاجتماعية الطبقية اليوم والآن، بنفس ما كانه هذا التراث بالأمس المنقضي الذي قد يصل إلى عشرات من قرون الهوان أو الوهم.)
مقدمة ثالثة
الجمع الميداني البارد للخرافات وممارساتها
ويبدو الأمر أكثر صعوبة إذا ما تصورنا أن الأغراض والنشاطات والمواد والأعضاء التي يمكن للتصنيف أن يشملها قد تستغرق كل ما هو عضوي ومعنوي ولا عضوي من شئون الحياة وما بعد الحياة.
وعلى هذا فإضافة إلى ما ذكر، ويمكن للجامع اليقظ ملاحظته وعدم إهماله، مما لا يزال متواترا حول فولكلور ومأثورات النبات والأشجار وألف بائها، ثم المعادن خاصة الحديد والذهب؛ يجيء الدور على الأحجار من كريمة ونصف كريمة،
1
وعلاقتها بالنسبة للمعتقد الشعبي وكلا جانبيه الروحي الإنيزمي والطبي، من منع للحسد وشرور العين، وطرد للأوجاع، وجلب للرزق، فما إن يضع حامل الحجر العقيق في الخاتم يده في الماء حتى تتسارع إليه فلول السمك أو الرزق، كما أن هناك أحجارا من خصائصها اتقاء بعض الأمراض ومنها ضربة الدم، ومنها ما يتصل بالحمل وشعائره وأشهره التسعة والولادة وحماية الطفل الوليد، وشعائر انتقالات أطوار عمره من فطام ومشي وطهور.
وحكى لي تاجر أحجار وأنتيكات قديمة أنه احترف تجارته هذه بعد أن شهد بعينيه تأثير الأحجار الكريمة؛ فقد كان يعمل حلاقا يمارس عمله بموساه ذات مرة في ذقن زبون، إلى أن توقف الموسى في يده لا يتقدم مهما سنه وجلخه، إلى أن شد بصره حجر مشع في يد الزبون، فطلب منه خلع خاتمه، وما إن أبعده حتى مشى الموسى حادا على وجه الزبون. وقس على هذا آلاف الحكايات والمأثورات التي قد تسهم في إقامة آجرومية عربية للأحجار، سواء ما يتصل بأغراض تزين نسائية ورجالية ، أو حول الشعائر الدينية، ومنها المسبحة والتبرك بالأحجار وأغراضها وقواها الدفينة.
كما لا يجب هنا إغفال «عقد شمه» الإلهة الأم السالفة للقبائل القمرية- الهلالية، ودوره المحوري في السيرة، خاصة الريادة.
ولا يغفل هنا أيضا تقديس الأحجار الأصنام - كملمح سامي جاهلي - حتى الحجر الأسود المعروف بحجر إسماعيل «أبو العرب».
كذلك لا يغفل جزئيات الأمراض والأوبئة والعلل وهبوب الرياح، خاصة ريح السموم، في حكايات الجزيرة العربية، وما يتبعها من خرافات طوفانات الرياح والعواصف، وما يتبعها من طواعين وحمى شيطانية وخرافات جان.
ففي حالة الجمع البارد لمختلف الحكايات والفابيولات والمأثورات، يمكن التوصل إلى ألف باءات بكاملها عما يختص بالمواد والعناصر الطبيعية من أحجار وأعضاء بشرية وماء ونار، حتى الأشجار - أخشابها - والجسد البشري من عيون
2
ورءوس؛ مكمن للخطايا، ومنها تحريم تابو أكل رءوس الحيوانات والأسماك في معظم المجتمعات العربية، والأصابع الخمس بأسمائها، وكفة اليد التي تستخدم في قراءة الكف، وتفسير خطوطها المتقاطعة التي ترجعها المعتقدات الشعبية إلى لحظة انبهار الأرستقراطية المصرية الذين جمعتهم زليخة؛ ليشهدوا جمال يوسف ويعذرونها، فمضوا يقطعون كفوفهم انبهارا بدلا من التفاح، وهو ما لا يزال محفوظا في الشعر الشعبي، وبقايا بالاد يوسف وزليخة المندثرة:
بكيت زليخة وقالت: عشت في الذل لمتوني.
في حب يوسف بن يعقوب لمتوني.
إلا وجالها البيض في أوان عصر،
ومالوا وقالوا لها: فين يا زليخة اللي عليه البيبان سكين.
ما فتحت لهم زليخة الباب.
ما خرطت يدهم سكين.
قالت لهم: آهو يا مساكين اللي عليه لمتوني.
وتولي جزئيات الحكاية الشعبية المصرية والسودانية اهتماما ملحوظا للأعضاء التناسلية للذكر، خاصة الخرافية وحكاية الفرفشة، فما تزال الملامح الأسطورية الفرعونية الأولى تعيش على الشفاه، تأكيدا لما سبق أن لاحظه ديودورس الصقلي من أن إيزيس جمعت كل أجزاء أوزيريس فيما عدا أعضاءه التناسلية، فصنعت له أيرا من الشمع، وفيما جمعته من جزئيات يأخذ السمن الذي يسيح بالنهار مكان الشمع.
كما لا يبرأ من مشاكل التصنيفات معمارية البيوت والمنشآت العامة، مثل التضحية بالأطفال بذبحهم وإراقة دمائهم في أساسها، ومثل ما يتواتر حول عتبات البيوت ومداخلها وشعائر تلفظ الداخل: يا ساتر ،
3
يا أهل البيت، ما شاء الله ... إلخ.
وارتباط العتبات بشعائر الذبح، خاصة المرتبطة بالزار، في حالة ذبح الديوك أو الذكور، وتخطية العتبة سبع مرات.
وطبيعي أن يقودنا هذا إلى عدم إهمال عوالم ما تحت الأرض وطبقاتها السبع المتوارثة منذ السومريين - 4 آلاف عام ق.م.
وكذا أبواب جهنم أو طبقاتها السبع كما يذكر الميثولوجيون العرب؛ عكرمة، ابن جريج، ابن كثير: أولها جهنم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، ثم الهاوية. وهو ما لا يبعد كثيرا عن الميثولوجي السومري اللاسامي الذي يمتد تأثيره المتواتر إلى أيامنا بما يستلزم إيراد فصل خاص.
ويوصلنا الرقم سبعة إلى فولكلور أيام الأسبوع السبعة، وتسمياتها بحسب الكواكب السبعة السيارة.
وكذلك المنابع الخرافية للتقويمات من شمسية وقمرية أو هجرية، وعلاقة هذا بتابوات الأكل والمنع وتحريمه، والاحتفالات الشعائرية التقويمية للقمر عند الساميين بعامة، والعالم الإسلامي بخاصة، وشارتهم أو شعارهم الهلال المعروف منذ عرب الجاهلية الأولى، والذي ما يزال ينظر إليه بالعين المجردة مع أول رمضان في السعودية ومصر ومعظم الكيانات العربية.
كما لا تستثنى من هذا الرصد: شعائر النجاسة والطهارة، وطرق ذبح الحيوان، والتعامل مع الدم بأنواعه، خاصة دم الحيض.
والمباحات والمحرمات التي انتهت في مطبخ اليوم، ثم أنواع الطعام، وهو ما توسع فيه العالم البنائي الفرنسي ليفي شتراوس من «النيئ إلى المطبوخ».
ويستقطع الماء وجزئياته سواء في الأساطير - كمهبط لعرش الله - أو في الفولكلور؛ حيزا أشك كثيرا في حصر جزئياته وما يثار حوله، سواء من حيث اعتباره مهبطا لعرش الله، أو من حيث ما ذكر عن سدرة المنتهى التي يخرج من أصلها نهران هما: سيحان وجيحان،
4
وفي أقوال أخرى: النيل والفرات.
كذلك اعتبروا موارد الماء مصدرا للبركة كما أوضحنا، وفي ذات الآن مهبطا للشياطين، خاصة ليلى أو الليلث كما سنرى.
5
وتفرط جزئيات الحكاية الخرافية العربية في الربط بين الماء والشياطين أو بينه وبين حافر الحصان.
6
كما لا ننسى موتيفات «الماء النائم» و«الماء المحجب» الذي يرد العافية للأبطال المحجبين، وماء الخلود ، وماء الحياة الذي يتبدى في عديد من الحكايات ، وأقدم نصوصه مصاحب للأسطورة البابلية حين نزلت عشتار إلى العالم السفلي لتحضره لحبيبها تموز؛ لتعيد إليه الحياة بعد أن فارقها.
7
ويجيء الدور في الفولكلور العالمي على التعميد بالماء ودور اللعاب أو الريق الإنساني في المعتقدات الخرافية.
8
ولم يندهش الفولكلوريون الأكاديميون فيما بعد كثيرا لاكتشافهم أن المسيح شخصية فولكلورية.
ونبهت الدراسات الفولكلورية الإنجليزية إلى كيف أن الحدادة التي هي أصل ومنبت الصناعات الحديثة كانت مرتبطة بالسحر منذ القدم، وأن السحر بدوره كان دائم الارتباط بكل أدوات الإنتاج التي تحتاج إلى جهود عضلية، فظلت بقايا السحر عالقة وتابعة لتطور الحدادة، وتسايرها حتى الثورة الصناعية وما بعدها.
ويسخر دارسو الفولكلور المحدثون من ذلك الخصام الطفولي، الذي كان يحدث بين المشتغلين بالفولكلور في العصر الفيكتوري أمثال: الفريد نط، وأدوين هارتلاند، وإدارد كلود.
وخلال القرن 18 حقق قسيس بروتستنتي - هو «جون براند» - نجاحا محققا حين نشر مؤلفه القيم «الأنتيكات الشعبية» عقب موته، وفيه أشار إلى أن الحكايات والمقولات المتواترة اليوم تنحدر من أصول وثنية، أو أنها كانت عادات وشعائر وثنية تكثلكت فيما بعد، مثل المليم الذي يوضع في فم الجثة للقديس بطرس بدلا من دفع أجرة معدية أوزيريس في أساطير مصر الفرعونية وعادة أكل الخطية، وكذا الرقص في الكنائس خلال احتفالات الكريسماس، ومنها أغلب الأسرار المسيحية المقدسة المعاشة والمتواترة إلى أيامنا.
الفصل الأول
الحكايات العربية الشفهية ... والليالي1
إذا ما تعرضنا لتراث الحكايات العربية، فمن المرجح أن تكون ألف ليلة وليلة نقطة بدء طبيعية.
ذلك أن الليالي تعد مخزنا لا ينضب معينه لأي دارس في حقل الحكايات الخرافية والفولكلور بعامة، ومدى تأثيرها على أوروبا والعالم الجديد بخاصة، منذ أن اضطلع المستشرق الفرنسي أنطوان جالان منذ عام 1704 بنقل النص العربي - الذي سبق أن اكتشفه ليتمان - إلى الفرنسية، فاستحوذت وأخذت اهتماما كبيرا في حقل الحكايات الخرافية، وحكايات الأصيل والخسيس، أو الأخيار والأشرار الثنائية، وتلك الرحلات العبورية والبطولية للأسفار والمخاطر، وحكايات المساخر والمرح والنوادر والفوازير والألغاز، بالإضافة إلى خرافات الجان والعفاريت وذلك العالم السحري العربي الذي لا يختلف كثيرا عن ملامح وخصائص نظيره الشفاهي لبلداننا العربية.
وإن كان التراث الشفهي للبلدان العربية يحتفظ أكثر فأكثر بالملامح المحلية - ولنقل: التاريخية والبيئية - لما وصلنا من تراث روافد الحضارات السابقة والمكونة في ذات الآن للتراث العربي السامي.
وبتبسيط أكثر فإن تراث الشفاهيات المصرية اليوم أقرب إلى خصائص وملامح الحكايات الخرافية والسحرية لمصر الفرعونية منه إلى ألف ليلة، وإن تبدى للجامع مدى تأثير الليالي وما أشيع وتسرب منها من ملامح وخصائص إلى الشفاهيات المتواترة على طول البلدان العربية.
كما أن ألف ليلة وليلة ذاتها ما هي سوى محصلة نهائية للحكايات العربية في الجزيرة العربية ودلتا مصر والشام والرافدين، بالإضافة إلى أن معظم المستشرقين الذين تعرضوا بالنقل والترجمة لألف ليلة وغيرها، قد استعانوا برواة الحكايات العربية ذاتهم وحفظة نصوصها، حتى جالان نفسه الذي كان يجمع حكاياته من راو سوري ماروني يدعى حنا الماروني، وضمنها المخطوط الرابع المفتقد من نص الليالي، الذي اعتمد عليه ويرجع تدوينه إلى القرن الرابع عشر.
ويمكن القول بأن ألف ليلة وليلة لا يعتبر عملا أو مؤلفا عربيا خالصا، بقدر ما هو مزيج بين التراثين الآري والسامي، فهو محصلة نهائية للتزاوج بين هذين التراثين، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن التراث الآري يشتمل لغويا على كلتا المنطقتين: الهندية والفارسية، ناهيك عن مدى التداخل بين التراثين العربي الإسلامي والفارسي.
ومن هنا أجدني أقرب إلى ترجيح أن النص العربي لألف ليلة وليلة - ويقع في أربعة أجزاء فقد جزؤه الرابع - ما هو سوى كتاب «هزار أفسان» الفارسي الذي ترجم إلى العربية في القرن الثامن في بغداد، وهو ما انتقل إلى مصر وعرف بألف ليلة وليلة في القرن الثامن عشر الميلادي.
والأمر لا يبعد كثيرا عما ذكره ابن النديم - الفهرست - حول هذه الواقعة.
ولعل من الطريف هنا أن معظم الكتاب الكلاسيكيين العرب أصبحت كتاباتهم منهلا خصبا للدراسات الفولكلورية يستشهد بها في مختلف حقوله، سواء الأسطورية أو تقسيمات الحكاية من خرافية لطوطمية، بدءا بوهب بن منبه، وابن الكلبي ، وابن حجر، وابن ماجه، والطبري، والمقريزي، وابن إسحق، والثعالبي ، والقزويني، ناهيك عن حكايات الحيوان والطير عند الجاحظ والدميري وابن المقفع والعشرات غيرهم.
وعما ورد بالقرآن
2
وما يزال متواترا حول الخضر أو سيدنا الخضر (الرجل الأخضر)، ولقمان بن عاديا الكبير أو الحكيم لقمان، وسطيح الذي يقال إنه عاش ثلاثين قرنا وكان يسكن البحرين، وكذا ما تبقى من حكايات وخرافات العرب البائدة: «عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم والعماليق»، وأشهرهم خرافات وخوارق عوج بن عناق، والشاعر الجاهلي الخرافي أمية بن أبي الصلت، والملك الكاهن الجاهلي عبيد بن شريه الجرهمي، وكذا خرافات وضاح اليمن، وأمراض العشق في قيس وليلى، وقيس ولبنى، وجميل وبثينة، وجزاء ذلك البناء سنمار الذي يمتلك موهبة إشادة قصر شاهق يدور مع الشمس، وكان جزاؤه القتل بأن ألقي من فوق أسواره.
وقد يكون مفيدا الاستطراد فيما ذكره ابن النديم في أول وأهم قاموس عربي: الفهرست، استنادا إلى الموسوعي العربي محمد بن إسحق، مع ملاحظة ذكره لبداية رصد الأصول الأولى لألف ليلة وليلة، والتداخلات بين التراثين العربي والفارسي الآري.
وليس هذا بالتحديد غرضنا من استعارة هذا الجزء عن فهرست ابن النديم، بقدر ما أن غرضنا هو مدى خصوبة المدونات العربية التي ضاع معظمها وافتقد من المواد الفولكلورية، بينما يمكن في ذات الآن افتراض أن معظم هذه المواد انتقل مخزونه إلى الذاكرة الجمعية الفولكلورية لبلداننا العربية الآنية، وسيوقفنا دأب البحث على الكثير.
وسأورد فيما يلي شذرة بسيطة اقتطفتها من فهرست ابن النديم حول أسماء المؤلفات من شعبية وفولكلورية، ما ضاع واندثر منها، وما لا يزال في عداد نصف المليون مخطوطة عربية التي لم ترها المطبعة إلى أيامنا منذ المعرفة بها في القرن 16.
قال ابن إسحق: أول من صنف الخرافات وجعل لها كتبا وأودعها الخزائن، وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوان: الفرس الأول، ثم أغرق في ذلك ملوك الأشغانية، وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس، ثم زاد بعد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية، ونقله العرب إلى اللغة العربية، وتناوله الفصحاء والبلغاء فهذبوه ونمقوه وصنفوا في معناه ما يشبهه.
وأول كتاب عمل في هذا المعنى هو كتاب هزار أفسان، ومعناه ألف خرافة، وكان السبب في ذلك أن ملكا من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة قتلها من الغد، وتزوج بجارية من أولاد الملوك ممن لها عقل ودراية يقال عنها: شهر زاد، ابتدأت تخرفه وتصل الحديث بما يحمله على استبقائها إلى أن أتى عليها ألف ليلة وهو مع ذلك يطؤها إلى أن رزقت منه ولدا. وقد قيل إن هذا الكتاب ألف لحماني ابنة بهمن، ويرى ابن إسحق أن أول من سمر الليل الإسكندر، واستعمل الملوك من بعده كتاب «هزان أفسان» ويحتوي على ألف ليلة. يقول ابن النديم: «وقد رأيته بتمامة دفعات، وهو في الحقيقة كتاب غث بارد الحديث.» قال ابن إسحق: ابتدأ أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري - صاحب كتاب الوزراء - بتأليف كتاب اختار فيه ألف سمر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم، كل جزء قائم بذاته لا يعلق بغيره، وأحضر السامريون فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واجتمع له 480 ليلة، كل ليلة سمر تام يحتوي على 50 ورقة، ثم عاجلته المنية قبل أن يتم تتمة ألف سمر، ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب أخي الشافعي.
وكان قبل ذلك ممن يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم جماعة منهم: عبد الله بن المقفع، وسهل بن هارون، وعلي بن داود كاتب زبيدة وغيرهم، وقد استقصينا أخبار هؤلاء وما صنفوه في مواضعه من الكتاب.
فأما كتاب كليلة ودمنة فقد اختلف في أمره، فقيل: عملته الهند، وخبر ذلك في صدر الكتاب. وقيل: عملته ملوك الأشكانية ونحلته الهند. وقيل: عملته الفرس ونحلته الفرس. وقال قوم: إن الذي عمله بزرجمهر الحكيم.
ولا بأس بالطبع من مجرد رصد عينات لا غير مما أورد ابن النديم في موسوعته الفهرست من مواد فولكلورية مدونة.
أما كتاب سندباد الحكيم وهو نسختان: كبيرة وصغيرة، والاختلاف فيه أيضا مثل كليلة ودمنة، والأصوب أن تكون الهند صنفته.
3
ومن كتب الفرس: خرافة ونزهة ، الدب والثعلب، روزيه اليتيم، مسك زنانة وشاه زنان، نمرود ملك بابل، خليل ودعد. وفي السير كتاب: رستم وأسفنديار ترجمة جبلا بن سالم، بهرام شوس (جبلة) شهريزاد مع أبرويز، الكارنامج في سيرة أنوشروان، كتاب التاج، دارا والصنم الذهب، كتاب اثنين نامة، خداي نامة، بهرام ونرسي، أنوشروان.
ويستطرد ابن النديم:
أما كتب هؤلاء الذين نذكرهم ألف أخبارهم جماعة مثل: عيسى بن دأب، والشرق بن القطامي، وهشام الكلبي، والهيثم بن عدي وغيرهم، وكتاب مرقس وأسماء، وكتاب عمرو بن عجلان وهند، وكتاب عروة وعفراء، وكتاب جميل وبثينة، كتاب كثير عزة، كتاب قيس ولبنى، كتاب مجنون ليلى، كتاب توبة وليلى، وكتاب الضمة بن عبد الله وريا، كتاب ابن الطثرية وحوشية، كتاب ملهى وتعلق، كتاب يزيد وحبابة، كتاب قابوس ومنية، كتاب أسعد وليلى، كتاب وضاح اليمن وأم البنين، كتاب أميم بن عمران وهند، وكتاب محمد بن الصلت وجنة الخلد، كتاب العمر بن ضرار وجمل، كتاب باكر ولحظة، كتاب مليكة ونعم وابن الوزير، كتاب أحمد وداحة، كتاب الفتى الكوفي مولى مسلمة وصاحبته، كتاب عمار وجمل وصواب، كتاب المعمر بن ملك وقبول، كتاب عمرو بن يزيد الطائي وليلى، كتاب علي ابن إسحق وسمنة، كتاب الأحوص وعبده، كتاب بشر وهند، كتاب عاشق الكف، كتاب عاشق الصورة، كتاب عبقر وسحام، كتاب إياس وصفوة، كتاب ابن مطعون ورتيلة وسعادة، كتاب المخزومي والهذلية، كتاب عمرو بن العنقير ونهد بن زيد مناة، كتاب مسرة وليلى، كتاب ذي الرمة ومي، كتاب طرب وعجب، كتاب المعذب والغواء والطيرة، كتاب سحر اللهو وسكر، كتاب أحمد ومسنا، كتاب عباد الفاتك وفنك، كتاب أحمد وزين العصور، كتاب ذوب ورحيم، كتاب سهل وسليمة، كتاب الكاتب ومنى، كتاب عسى وسراب، كتاب عاشق البقرة، ريحانة وقرنفل، رقيقة وخديجة، مؤيس وذكيا، سكينة والرباب، العطريفة والدلفاء، هند وابنة النعمان، عبدة العاقلة وعبدة الغدارة، لؤلؤ وشاطرة، نجدة وزعوم، سلمى وسعاد، صواب وسرورا، الدهمة ونعمة، المصري والمكية، عبد الله بن جعفر والشجرة المكتوب عليها، الوجيهة والأعرابي، الفتى والمرأة التي رمت بالحصاة، سليمان وشيبان، المرأة وإخوتها والرجل الذي هواها، كتاب الكردوجية وابنة الكاهن، الأخوين العراقة والمدني، المتجرد في النساء، حسن واللص الإسرائيلي، حافية ابنة هاشم الكندي، كتاب المخنث والفتاة التي عشقته.
كذلك
4
يورد ابن النديم أسماء عشاق الإنس للجن والجن للإنس: دعد والرباب، سعسع وقمع، كتاب الضرغام، عمرو ودقيانوس، الشماخ ودمع، الخزرجي المحتال وأسماء ... الدلفاء وإخوتها والجني.
قال محمد بن إسحق: كانت الأسمار والخرافات مرغوبا فيها مشتهاة في أيام خلفاء بني العباس، لا سيما في أيام المقتدر، فصنف الوراقون وكذبوا،
5
فكان ممن يفتعل ذلك رجل يعرف بابن دلان واسمه أحمد بن دلان، وآخر يعرف بابن العطار وجماعة، وقد ذكرنا - فيما تقدم - من كان يعمل الخرافات والأسمار على ألسنة الحيوان وغيره، وهم سهل بن هارون وعلي بن داود والعتابي وأحمد بن أبي طاهر، كما لم يغفلوا الكتب المؤلفة عن عجائب البحر والأسفار وغيره، ويعرف بكتاب صخر المغربي، ويحتوي على ثلاثين حديثا: عشرة في عجائب البر وعشرة في عجائب الشجرة،
6
وعشرة في عجائب البحر.
فأما السحرة فزعمت أنها تستعبد الشياطين بالسحر والقرابين والمعاصي وارتكاب المحظورات، واستمالتها بترك الصلاة والصوم، وإباحة الدماء ونكاح ذوات المحرم،
7
وغير ذلك من الأفعال الشريرة، وهذا الشأن ببلاد مصر وبابل.
وقال لي من رأى السحرة بأرض مصر وبها بقايا ساحرين وساحرات: وزعم الجميع من المغرمين والسحرة أن لهم خواتيم وعزائم ورقى وصنادل وحزابا ودخنا وغير ذلك مما يستعملونه في علومهم.
ويقال: إن سليمان بن داود أول من استعبد الجن.
وكان يكتب لسليمان بن داود آصف بن برخيا وهو ابن خالة سليمان عبراني، ويوسف ابن عيصو عبراني، والهرمزان بن الكردول فارسي وعبراني.
وممن ألفوا وكتبوا في الجن: (1)
لوهق بن عرفج، قديم وله من الكتب كتاب طبائع الجن ومواليدهم. (2)
آريوس بن أصطفانوس بن بطلينس الرومي، ويلقب برشيد قومه، وكان من علماء الروم بالعزائم، وله من الكتب كتاب يذكر فيه أولاد إبليس وتفرقهم في البلاد، وما يختص به كل جنس منهم في العلل والأرواح. (3)
ابن هلال، وهو الذي فتح هذا الأمر في الإسلام، وله من الكتب: كتاب الروح المتلاشية وكتاب المفاخر في الأعمال.
وابن الإمام، وأبو خالد الخراساني، وابن أبي رصاصة، وابن وحشية الكلداني وهو من ولد سنحاريب، وله من الكتب: كتاب السحر الكبير، وكتاب دورا على مذهب النبط وكتاب مذاهب الكلدانيين.
ويلاحظ مدى الاتصال بين أشلاء الحضارات العريقة السابقة على الإسلام بعشرات القرون، من كلدانيين وآشوريين وعرب نبطيين، وهذه الشرائح الشعبية الجمعية الإسلامية، ومنها عيون تراثه ومخزونه في حقل الحكايات، بدءا بألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة، وانتهاء بالآلاف المؤلفة من المدونات التي آثرنا عدم الاستطراد في إيرادها والاكتفاء بما ذكرناه، وإلا لاحتجنا إلى أضعاف هذا الكتاب؛ نظرا لضخامة هذه التركة الخرافية الفولكلورية للأقوام والحضارات والكيانات المنصهرة على رقعة بلداننا العربية بتراثها المتوارث المتواتر منذ عصور ما قبل العلم.
الفصل الثاني
منابع الحكايات العربية اللاسامية الأولى
وطبيعي أن تجيء نقطة بدئنا ومنطلقنا في محاولة إرساء نظرة إجمالية لموقع فولكلورنا العربي مشتملا على حكاياته ومأثوراته القصصية والروائية - ولنقل: جزئياتها وعناصرها ومأثوراتها - من الرقعة الكونية من جانب، ثم ما يتصل بأصول ومنابع هذا التراث والمتوارث جيلا إثر جيل، وحضارة تعلو سابقتها، في محاولة لتحديد مكان الواقع الموضوعي للتاريخ الثقافي العربي بأفعاله المتبادلة، ومجموع صراعاته وأزماته وحلولها، عبر عمليات
التدمير والخلق والتجاوز والاجتثاث والثورة وارتداداتها؛ أي من منطلق الأخذ بأن التاريخ بعامة ما هو في أحسن حالاته سوى التاريخ الطبيعي للإنسان، وما بقية العلوم الثقافية من أنثروبولوجيا وإثنوجرافيا وفولكلور سوى أفرع وروافد للعلم الطبيعي الذي - وكما يعرفه رادكليف براون - ما هو سوى البحث المنهجي في بناء الكون كما تظهره لنا الحواس.
فإذا ما بدأنا بالتتابع التاريخي لمنابع هذا التراث منذ أقدم حضارة سابقة أو موازية للدولة القديمة في مصر، وهي المعروفة بالسومرية، والتي يتعاظم في السنوات القريبة الاهتمام بمحصلة مكتشفاتها الحفرية الأركيولوجية، والتي لا تبعد عناصرها ومأثوراتها عما سادنا من معتقدات ومنتجات روحية تبدت بالتالي على فولكلورنا بعامة، وتراث الحكايات الخرافية - ومنه الليالي - بخاصة.
ويمكن طرح التساؤلات المتتابعة بالنسبة لتعريف الفولكلور السامي - الذي يشكل الفولكلور العربي جانبه الأعظم - ومدى حجمه وأصالته أو تفرده بالنسبة للتقسيمات القارية من جانب، ثم متاخمة أو مزاوجة التراث الآري الهندي الفارسي من جانب أقرب.
وكما أوضحنا فطالما أن السامية والساميين تعبير لغوي يشتمل فيما يشتمل على لغات روافد الحضارات المبكرة للبابليين والكلدانيين والآشوريين والفينيقيين والعبريين والعرب وغيرهم، وطالما أن اللغة هي حاملة التراث والحضارة، فمن هنا يمكن القول بأن التراث السامي هو المصدر الأم الذي ارتقت روافده في المحصلة العربية والعبرية ثم الإسلامية الأخيرة.
ولا بأس هنا من إعادة ذكر ما سبق
1
ذكره في إطار المعاناة، بحثا في إطار المفهومات حول سمات وانتماءات تراثنا العربي على الرقعة الكونية؛ ومن ثم انتماء الكم الأعظم من تراثنا هذا السامي - العربي والعبري - إلى سابق له لا سامي للسومريين الذين استولوا على معظم أراضي الرافدين منذ الألف الرابع قبل الميلاد، وأقاموا حضارة توارثتها بكاملها الطلائع السامية للبابليين العراقيين.
فيلاحظ أنه في حالة الإحجام عن الاستطراد والغوص في الأصول المبكرة لتراث حكاياتنا العربية وبقية أفرع وأنشطة مأثوراتها المختلفة، والتي تعيش على شفاه شعوبنا العربية إلى أيامنا، تعلق بالأفرع والأثمار دون جذور ومنابت، بل ومنابع هذه الحكايات التي لا بد وأنها ولدت يوما مثلها مثل الكائن الحي؛ لذا يصبح مفيدا تعرف تلك الجذور الضاربة، التي منها تساقت وأينعت تركتنا من الحكايات العربية التي ينظر إليها على المستوى الكوني كخزان معدود مرموق بالنسبة لتراث العالم أجمع؛ ومن هنا يفضل التتابع الزمني التاريخي المصاحب للمكان الجغرافي، للبحث في مخزون حكاياتنا العربية السامية المتوارثة بدورها من أصول آسيوية لا سامية.
ولقد جاءت الكشوف الحفرية الأركيولوجية السومرية اللاسامية في العراق، فأوضحت الكثير من الغموض بالنسبة للتراث السامي بشكل عام، والتراث العربي والعبري بشكل أخص، فلقد أوضحت هذه الكشوف السومرية - الألف الرابعة قبل الميلاد - عن حقيقة «أصل التوراة ذاتها ومنشئها، وأن هذه المجموعة من المآثر العظيمة لم تجئ إلى الوجود كالأزهار الصناعية وهي كاملة النمو»، بمعنى أنها تنتشر انتشارا واسع المدى في تراث الأقوام المجاورة والمتاخمة لها من كنعانيين وأصحاب الأرض الفلسطينيين، وسوريين وبابليين، بالإضافة إلى مصر الفرعونية.
وليس بغريب أن تراث العبريين هو - على وجه التقريب - تراث وحضارة أولئك السومريين اللاساميين، وصل اليهود عن طريق الوساطة الكنعانية مثلهم في هذا مثل بقية الأقوام والجماعات السامية، وذلك عقب انتقال ذلك التراث السومري إلى الورثة المباشرين، وهم: الكلدانيون والبابليون والآشوريون والحيثيون والكنعانيون والفلسطينيون، وحتى الحيثيين الأناضوليين.
وعن الكنعانيين الشوام الذين سبقوا العبريين في استيطان فلسطين خاصة بعض مدن الساحل الفينيقي،
2
سرى إلى الوجود تراث تلك الحضارة اللاسامية المندثرة مثلما توارث العرب - خاصة القحطانيين سكان اليمن والجنوب العربي - حضارة لاحقيهم من القبائل العربية البائدة المندثرة التي ترجع إلى ما قبل الألف الثالثة قبل الميلاد، وهم قبائل: عاد وثمود وطسم وجديس والعماليق وجرهم وعرفات وغيرهم.
وقد لعبت الحضارة الكنعانية وطليعتها البحرية فينيقيا - نظرا لاقتحامهما المبكر للبحرين الأبيض والأحمر - دور الوسيط في حمل تراثي مصر وبابل، والإبحار به ونشره على طول سواحل البحر المتوسط، وكذا تواتر دورهم البحري خلال الفتوحات الإسلامية.
3
لذا يرى البعض أن كلا التراثين العقائديين: العبري اليهودي والفارسي المجوسي، بالإضافة إلى التراثين الهليني والمسيحي، جاء جميعه تحت التأثير المباشر الكنعاني السوري أو الآشوري فيما بعد، المستمد بدوره من سابقه السومري.
ويرى توينبي - بالنسبة لليهود - أن شعب مملكتي «إسرائيل ويهوذا قد رفع نفسه مكانا ساميا إبان فترة من تاريخه الذي بدأ في طفولة الحضارة السورية وبلغ الأوج في عصر الأنبياء».
ويرجع السبب في تركيزي على الحضارات أو المنابع الأم أو حضارات الجيل الأول - في دلتا العراق حيث الحضارة السومرية الأكادية، وفي دلتا وادي النيل حيث الحضارة المصرية الفرعونية - إلى محاولة تعرف النبتة الأولى لكل جزئية أو موتيف أسطوري أو فولكلوري، وإمكانية تتبعه؛ وذلك نظرا لتعدد المصادر وتنوعها بالنسبة للفكرة أو الموتيف الواحد؛ مما قد يوقع الباحث في الخطأ وفقدان الطريق، وإعادة هدم ما أوشك في بدئه، وهو ما أصبح تقليدا ساريا بالنسبة لدارس تراث قلب العالم القديم.
فما من إضافة كشفية أثرية أركيولوجية أو نصية أو شفاهية، لم تسهم في إعادة تكامل جزئيات هذا التراث الهائل؛ مما يترتب عليه دوام الهدم المستهدف أصلا لتوالي البناء واستقامته، واستجلاء أقصى طاقات الغموض.
فيمكن اعتبار الدراسات الفولكلورية - محتوية أو متضمنة الأساطير - أحد المركبات المهمة اليوم في إعادة بناء تاريخ الجسد الحضاري لأي شعب أو مجموعة من الشعوب، وأخصها شعوبنا العربية، من المنظور القومي.
مع الأخذ في الاعتبار مدى الجدوى التي حققتها المناهج البنائية في مثل هذه العلوم الحضارية الإثنوجرافية التي تستلزم «القيام بدراسة شاملة لحالة واحدة»، فيشير ليفي شتراوس ب «إلغاء الحواجز التقليدية والمفتعلة بين مختلف النظم، وتكوين منهج يعتمد على كل العلوم والدراسات».
فالإثنوجرافيا - متضمنة للفولكلور - من مهامها جمع المعلومات والمأثورات المتوارثة، بما يمكن تزامنه مع الدراسات التاريخية في جدلية تواجد العلاقة الحميمة بين البناء الاجتماعي وعلم ما قبل التاريخ والآثار، بالإضافة إلى بقية الميادين والأبنية، ومنها أبنية الاتصال من قرابة وتنظيم عشائري، وأنماط الزواج والتربية واللغة والمعتقدات والمنتجات الطقسية والروحية الدينية.
وكما سبق أن أوضحنا، فإن مثل هذه الدراسات قطعت شوطا كبيرا خاصة فيما يتصل بالتصنيف؛ أي تجميع وتراكم عينات الفكرة أو المقولة الواحدة، ثم بعد ذلك إعادة تعرف تاريخ حياة كل فكرة على حدة، والأخذ بمبدأ أن أي فكرة أو مقولة أو شعيرة تصبح بلا قيمة ما لم يتحدد أصلها وفصلها، وما طرأ عليها من تغيرات وإضافات من عصر لعصر، ومن موطن أم لآخر.
وبمعنى آخر: فإن فكرة خلق حواء من ضلع الرجل مثلا ترد منحدرة من التراث السومري اللاسامي، متبدية في التراث السامي عند الورثة البابليين والحيثيين، منتقلة إلى الكنعانيين الفينيقيين، متبدية في أسطورة الإله «موت» السورية الكنعانية.
فكان أن نقلها العبريون إلى أسطورة الخلق أو سفر التكوين، وكذلك طوف بها الكنعانيون وطليعتهم البحارة الفينيقيون إلى الحضارة الإيجية، ومنها دخلت هذه الجزئية إلى التراث الهيليني اليوناني، ثم الروماني - فيما بعد - ثم اللاتيني في العهد المتأخر.
وبشكل مجمل يمكن القول بأن أسفار التكوين الأحد عشر الأولى تنتمي بكاملها إلى الميثولوجيا الكنعانية المتوارثة مباشرة من الحيثيين والبابليين.
ومن هذه الأفكار: خلق العالم، وتوحد الخالق بالماء، وإقدامه على خلق العالم عن طريق رسله الثلاثة، ثم فكرة خلق الإنسان الأول «يوم خلق الله الإنسان، على شبه الله عمله»، وهو ما تتميز به أساطير الخلق السامية على تراث العالم أجمع، ومنها خلق المرأة من ضلع الرجل وتوحدها بالحية التي توحدت بدورها بالشيطان، ثم الخطيئة الأولى، وكذلك تمشي الإله في الجنة عند هبوب الريح كقرين للريح، وعري آدم عقب الخطيئة، وعقاب الإله للخطاة الثلاثة: آدم وحواء والحية الذين حسدهم إبليس أو الشر وأضلهم، فكان أن طردوا من الجنة إلى الجحيم - الأرض - وكان أن دخل الموت إلى العالم «فإن الله خلق الإنسان خالدا، وصنعه على صورة ذاته، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم»، وما توالى بعد هذا من عقاب للمرأة، مثل إدماء حواء الشهري (الحيض) وتسود الرجل عليها، «تكثيرا أكثر أتعاب حملك وبالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك».
وكان أن قهرت المرأة وسلب سلطانها خلال توالي هذا التراث الأبوي البطرقي، الذي سود أول ما سود الرجل الذكر على المرأة الأنثى، وألحق بها وزر الخطيئة الأولى، «فمن المرأة ابتدأت الخطيئة وبسببها نموت جميعا»، ثم يعقب هذا سلسلة الأنساب المفقودة أو المفتقدة لحين مولد الجبابرة أو العماليق أو النماردة ملوك بابل والشام، فمن المعتقد أن أولئك الجبابرة البائدين أو المندثرين هم بذاتهم الذين حاربهم العرب والعبريون على السواء.
ومن المفيد التعرض بتفصيل قليل لهذا التراث.
فلقد أصبحت أفكار القسمة والنصيب - وما يستتبعهما من قدرية ودهرية ووعيدية - بمثابة الملمح الأول لتراثنا العربي، ويعني هذا أنه أصبح في مقدور أي باحث أو جامع في أي منطقة من العالم الرجوع بأي فكرة أو عبارة تعترضه عن النصيب والقدرية إلى موطنها الأصلي الأم، وهذا الموطن الأم هو التراث العربي، الذي أصبحت مثل هذه الأفكار حقيقته الأولى، والملمح الجوهري لتراثه.
بل إن أغلب تصوراتنا عن الحية والعفاريت وأم الشعور والنداهات والهواتف والرؤى؛ منحدرة عن أصول سومرية، منها سكنى العفاريت الخرائب التي كشف عنها النص السومري المعروف ب «جلجاميش وأنكيدو وشجرة الصفصافة»، ومنها أغلب الطلاسم والرقى والتعاويذ والمنفرات التي تستعمل لطرد الأوبئة، مثل: الحمى ولدغ العقارب والحيات، كما أن من هذه المنفرات ما كان الغرض منه اتقاء الحسد وشرور العين والنفس؛ أي النفس الخالق، ذلك المحيي المميت الذي وهب الإله به الإنسان فأحسن تكوينه، حين نفخ من حلقه فخرج من دبره، وهو ذاته النفس القاتل المميت، ويوصف المريض والمعلول بأنه «منفوس». كما قد يقولون: عائن وعيون، وهو ما تبدى عن السومريين في أحد النصوص التي تدور حول عشتروت وابنها الإله الممزق تموزي، الذي أردته قتيلا حين «أسلطت عليه نظرة الموت»، وهو ما تبدى في التلمود الأورشليمي في عين الإلهة الحاسدة العقيم سارة، حين سلطتها على إسماعيل «أبو العرب» العدنانيين، فكادت أن ترديه قتيلا.
بل إن أغلب مفاهيمنا الجماعية عن أبواب جهنم السبعة، وكذا السموات السبع، ومنه تعبير السماء السابعة المتواترة إلى اليوم، ثم فكرة خلق الإنسان من طين أو صلصال لازب، وارتباط المصير الإنساني بالولادة كما جاءت به أسطورة خلق الإنسان الأول.
ولعلني في هذه الإلمامة حول المنابع والأصول الأولى لتراثنا العربي السامي، سأحاول التوقف عند السمات المميزة التي تسهم في تحديد أكبر قدر من التميز لهذا التراث السامي، مثل: أسطورة الخلق، وخلق حواء من الضلع السادس للرجل؛ نظرا لصداها داخل رقعة الفولكلور العربي، وأخصه الحكايات الخرافية المنقصة في كل حالاتها للمرأة.
4
فالإرث السومري هو بذاته الذي توارثه الساميون خاصة، ويتضمن أول آراء للإنسان في أصل الكون وفلسفة الكائنات ومعظم ما سيصادفنا في دراستنا هذه عن الحكايات العربية المنشورة.
لذا فلا بأس من تقديم إلمامة موجزة عن ذلك التراث، بما ييسر ما قد يعترضنا عبر هذه الدراسة عن الحكايات العربية.
فأهم العناصر والأجزاء التي كانت تؤلف الكون في رأي المعلمين والحكماء السومريين هي «السماء والأرض»، ومصطلحه هو «آن-كي»، وهي كلمة مركبة تعني «السماء والأرض»، فكانت الأرض على هيئة «قوس» منبسط، والسماء فراغ مغطى من أعلى ومن أسفل بسطح صلب، وميزوا عنصرا ثالثا بين السماء والأرض دعوه «ليل» أي الهواء (الهواء كالنفس، الروح)، ويحيط بالكون السماء والأرض ، البحر اللامتناهي، ثم استنتجوا ما يمكن تسميته ب «البحر الأول»؛ أي إنه لم يكن هناك وجود قبل البحر.
5
ويتخلل «الجو» السماء والأرض، وتولد من الجو الأجرام النيرة: القمر، الشمس، الكواكب والنجوم، وأعقب انفصال السماء عن الأرض وخلق الأجرام النيرة أن جاءت إلى الوجود الحياة النباتية والحيوانية والبشرية.
وافترض اللاهوت السومري - منذ أقدم ما وصلت إليه السجلات المدونة - مجموعة آلهة قوامها كائنات حية شبيهة في هيئاتها بالإنسان، لا ترى بالعين المجردة، تسير الوجود وتسيطر عليه بموجب خطط مضبوطة، فكل إله مسئول عن جزء من مسار الكون: السماء، والبحر، والهواء، والنجوم، وقوى «الجو» وعناصره: الرياح والزوابع والعواصف، ثم السدود، والزرع، والمحراث.
ومجمع الآلهة يقوم على رأسه ملك، وأهم أفراده سبعة يقدرون المصائر، ثم مجموعة مؤلفة من 150 يسمون الآلهة العظام، ثم هناك آلهة خالقة وغير خالقة.
وأساليب الخلق للآلهة الخالقة أصبح عقيدة في كل الشرق الأدنى، وهو مبدأ القوة الخالقة ل «الكلمة» الإلهية، فالإله الخالق يصمم ويخطط ويقول «الكلمة» وينطق بالاسم «اسم الشيء المراد خلقه». وهو ما لا يزال إلى أيامنا يعيش لغويا على الشفاه: «كن ... يكون.»
وفي مقدمة ملحمة «جلجاميش وأنكيدو والعالم الآخر»
6 - التي كثيرا ما تستقل عن جسد الملحمة الأم ككل وتتصل بالخلق - يبدو الآتي:
بعد أن أبعدت السماء عن الأرض،
وبعد أن فصلت الأرض عن السماء،
بعد أن عين اسم الإنسان خلق الإنسان،
وبعد أن أخذ السماء آن «الله السماء»،
وبعد أن أخذ الأرض «إنليل إله الهواء».
وعن ولادة إله القمر «سين»، فيطلب الإله «إنليل» من الإلهة العذراء «ننليل» الراعي الذي يقدر المصائر الاتصال بها، لكنها صدت عنه:
إن مهبلي صغير لا يعرف الجماع،
وشفتي صغيرتان لا تعرفان التقبيل.
ويغتصبها في مركب في النهر، فتحمل هذه الإلهة بإله القمر «سين»، وعندما فزع الآلهة وغضبوا لتلك الفعلة الشنيعة، أمسكوا به ونفوه من المدينة إلى العالم السفلي، على الرغم من أنه كان كبير الآلهة. «عمد» الآلهة العظام بمجموعتهم الخمسين،
والآلهة الذين بيدهم تقدير المصائر؛ سبعتهم،
قبضوا على إنليل «وقالوا له»: أيها الفاسق ، اخرج من المدينة.
ويرضخ إنليل ويرحل إلى جحيم سومر ، ولكن ننليل وهي حبلى تتبعه إلى منفاه في العالم السفلي، ويحزن قرارها هذا إنليل؛ إذ إن ابنه «سين» الذي ستلده، والذي قدر له أن يكون موكلا بأعظم جرم سماوي وهو القمر، سيسكن العالم السفلي المظلم بدلا من السماء، إلى أن يدبر خطة يضللها بها. وفي الطريق يلتقي بثلاثة أشخاص، يرجح أن يكونوا من الآلهة الصغار، وهم: البواب الموكل بمداخل الجحيم، والموكل بنهر العالم السفلي، والموكل بالمعبر (مثيل كارون؛ ملاح المعدية عند اليونان الذي ينقل مدنا بقاربه إلى الجحيم)، ويتخذ إنليل هيئة كل من الآلهة الثلاثة بالتوالي (أي يتقمص أشكالهم)، وهذا أول مثال معروف عن التحول، كما سنشير بوضوح في باب «تحولات الأبطال الخرافيين»، أو التحولات التي تعد ملمحا مميزا للحكايات الخرافية العربية، بما لا ينفي أنه ملمح عالمي بالطبع.
فحين يتصل بالإلهة «ننليل» فتحمل منه،
قال إنليل للحارس الموكل بالباب: أيها الحارس، يا صاحب القفل،
يا صاحب «المزلاج»، يا صاحب «قفل الفضة»،
لقد جاءت مليكتك،
فإذا سألتك فلا تدلها أين أنا.
قالت ننليل لحارس الباب: يا حارس الباب، يا صاحب القفل،
يا صاحب المزلاج، يا صاحب قفل الفضة،
أين سيدك إنليل؟
أجاب إنليل متقمصا هيئة حارس الباب: إنه في استي، إنه في فمي،
إنه قلبي الصادق البعيد.
واضطجع معها إنليل في الفراش متقمصا شخصية حارس الباب، «فجامعها وقبلها»،
زرع في رحمها بذرة
7 «ميلا متايا».
كما يلاحظ أن هذه الموشحات الشعرية السومرية المنبت التي توارثها العرب الساميون، هي بذاتها ما واصلت تواترها إلى الشعر الملحمي العربي، خاصة سيرة بني هلال، حين احتالت الجازية - الإلهة القمرية لتلك القبائل العربية المتحالفة - على حراس بوابات تونس السبع
8
متنكرة، بل إن في الإجابات الساتيرية الساخرة لإنليل وتقمصاته ما يذكر بشخصية «أبو زيد الهلالي» وقدرته الفائقة على التقمص عبر السيرة؛ ففي مرة بهلول ومداح وكاهن وشاعر، بل وفي الكثير امرأة.
فلعل أول أفكار عن خلق الإنسان من طين العمق، وبقية الأفكار اليوتوبية الإسلامية لها جذورها السومرية.
وفي عام 1951 وجدت ترتيلة قوامها «250 سطرا» من بين 19 لوحا وكسرة من لوح، عثر عليها في تنقيبات مدينة «نو»، تصف الإلهة «نانشة»:
الإلهة نانشة
9
التي تعنى بالأرملة،
التي تنشر العدالة لا فقر الفقراء.
إن الملكة تأوي اللائذين بحضنها وحماها،
وهي التي تهيئ المأوى للضعفاء.
لقد وجد النص الذي يروي قصة خلق الإنسان منقوشا على لوحين مكررين لنص واحد، جاء أحدهما من مدينة نفر، وهو محفوظ بمتحف جامعة بنسلفانيا، والآخر بمتحف اللوفر، ونشر «ستيفن لنجدون» قطعتين منهما عام 1919، ونشر «إدوارد القطعة الثالثة عام 1934، ثم نشر كريمر الأسطورة كاملة في كتابه «الميثولوجيا السومرية» ص68-72.
وتبدأ الأسطورة بتذمر الآلهة في الحصول على قوتهم بعد أن جاءوا إلى الوجود، لكن «إنكي» - إله الماء الذي كان من المتوقع أن يخف لنجدتهم بصفته إله الحكماء - ظل مضطجعا في مياه «العمق» غير مكترث لشكاتهم، ثم نجد أن أمه الإلهة التي تمثل «البحر الأول» (وهي الأم الأولى التي ولدت جميع الآلهة) تأتي بدموع الإلهة إلى «إنكي» وتخاطبه قائلة:
يا بني قم من فراشك واعمل ما هو حكيم لائق،
اصنع عبيدا للآلهة عساهم يضاعفون عددهم.
فتدبر الإله «إنكي» الأمر، وقال لأمه: يا أماه، إن المخلوق الذي نطقت باسمه موجود،
فاربطي عليه صورة الآلهة.
أعجبني رب الطين الموجود فوق «مياه العمق».
كما يرد في هذا النص أول ذكر لقدر
10
الإنسان ومصيره الملازم لولادته، وهو الملمح أو الخصيصة الأولى للتراث العربي إلى أيامنا حين يذكر الإله إنكي: يا أماه قدري مصيري، إنه الإنسان.
وعلى هذا النحو الأسطوري السومري - الذي توارثه العرب الساميون - ولد قدر الإنسان المصاحب لمولده، المتبدي بكثرة مفرطة على طول تراثه، بدءا بمنتجاته الروحية، وانتهاء بحكاياته المعاشة هذه؛ ومن هنا جاء الاعتقاد العربي في الأصل المتعال أو المتسامي: السامي الذي لا بد وأن يجيء عليه تمثله الاجتماعي الطبقي السلطوي ... وهكذا يصبح الانسلاب النظري انسلابا عمليا بتأثيره في الممارسة ويستغل سياسيا.»
11
ومن هنا تجيء أهمية التبصر بالمنبع المبكر للتراث السومري الآسيوي الذي تواتر عبر تراثنا العربي، متمثلا في حكاياته.
فبعد الانتهاء من خلق الإنسان الكامل، تنتقل القصيدة إلى ذكر خلق أنواع ناقصة التكوين من البشر؛ لتفسر وجود مثل هذه المخلوقات الشاذة في الحياة، فتقص علينا كيف أن الإله إنكي أولم وليمة، وجمع الآلهة للاحتفاظ بخلق الإنسان (على ما يرجح)، وسكر إنكي وننماخ، ثم أخذت ننماخ شيئا من الطين الموجود في مياه العمق، وصنعت منه ستة أنواع من البشر الشاذين، عرف منهما نوعان: المرأة العقيم، والإنسان الذي لا يعرف إن كان ذكرا أو أنثى:
لقد صنعت ننماخ ال ... على هيئة امرأة لا تلد.
ووضعت ننماخ ال ... على هيئة مخلوق ليس له عضو الذكر ولا عضو الأنثى.
وهي جزئيات ما تزال تعيش بدورها في فولكلورنا العربي، وخاصة الحكايات التي ستعترضنا نصوصها في هذا المؤلف.
وفي أسطورة «الماشية والغلة» التي تشير إلى نزول آلهة «الأنوناكي» أبناء إله السماء «آن»، إلى الأرض بعد أن خلقوا في «حجرة الخلق»:
لم يعرف «الأنوناكي» أكل الخبز،
ولم يعرفوا لباس الحلل،
كانوا يأكلون النبات بأفواههم كالأغنام،
ويشربون الماء من الجداول،
في تلك الأيام و«حجرة الخلق» الخاصة بالآلهة.
وأوجه الشبه والتوحد بين التراث العبري والأسطورة السومرية المعنونة: «إنكي وننخرساج» مثل واضح على ذلك. وقد نشرت هذه الأسطورة عام 1951، ولكن محتوياتها بقيت غير واضحة إلى عام 1954، حين نشرت نشرة مفصلة عن النص. والقصيدة مؤلفة من 278 سطرا، منقوشة في لوح مؤلف من ستة أجزاء، وهو محفوظ الآن بمتحف جامعة بنسلفانيا، ويوجد نص صغير باللوفر، تعرف عليه «كييرا»، وبه يرد كيف كانت بلاد «دلمون»
12
أرضا طاهرة مشرقة نظيفة معدة للحياة، لا تعرف المرض ولا الموت، لكن لم يكن ينقصها غير الماء العذب الملائم لحياة الحيوان والنبات، فيأمر إله الماء العظيم «إنكي»، يأمر «أوتو» إله الشمس أن يملأها بالمياه العذبة النابعة من الأرض، وهكذا تحولت دلمون إلى حديقة إلهية خضراء بالحقول المزهرة بالأثمار والرياض، وفي هذا الفردوس الإلهي خلقت الإلهة «ننخرساج»
13 (الإلهة الأم) العظمى عند السومريين، ولعلها «الأرض الأم» في أصلها ثمانية أنواع من النبات تنمو وتزدهر، لكن لم تفلح هذه الإلهة في أن تظهر النباتات إلى الوجود إلا بعد عملية معقدة شملت ثلاثة أجيال من الإلهات، ولدن كلهن من إله الماء إنكي، وقد أكدت القصيدة أن ولادتهن تمت بدون أدنى ألم عند المخاض.
ولما أراد إنكي أن يذوق طعم هذه النباتات أمر رسوله المسمى «إيسمد»
14 - وهو إله يمثل بوجهين - أن يقطف له من هذه النباتات العجيبة، فأتى بها الرسول وقدمها للإله الأعظم، فأتى عليها كلها بالترتيب. لكن لما علمت «ننخرساج» بالأمر غضبت ونطقت
15
بلعنة الموت على الإله «إنكي»، ولكيلا تتراجع في قرارها اختفت من بين الآلهة.
وكما يتضح فالأمر لا يبعد كثيرا عن إقدام آدم - أبو البشر - بتحريض من حواء الأولى على الأكل من الشجرة أو الفاكهة المحرمة، وما أعقب هذا من طرده من الفردوس إلى جحيم الأرض، وإدماء حواء والإنقاص من قدرها، وتوحدها بالحية والشيطان.
وبدأت صحة «إنكي» تتردى، ومرضت ثمانية من جوارحه (أعضائه)، واغتم الآلهة العظام لمرضه وحزنوا عليه وجلسوا في الرغام، حتى إنليل نفسه إله الهواء - كبير الآلهة السومرية - لم يتمكن من إنقاذه، فانبرى الثعلب وقال للإله «إنليل» إنه إذا أحسن مكافأته فسيأتي بالإلهة «ننخرساج» من مخبئها، ونجح الثعلب بحيلة ما في إرجاع الإلهة الأم، وشفي إنكي المشرف على الموت - المقارنة مع التوراة.
فالفردوس الإلهي فكرة سومرية المنشأ والأصل في أرض دلمون، وهو نفس الموضع الذي عينته الأساطير البابلية للساميين الذين غزوا السومريين وأخضعوهم، وسموا هذا المكان «أرض الأحياء» التي يعيش فيها الخالدون، ثم فردوس التوراة، وهو «بستان» غرس شرق «عدن»، المكان الذي تنبع من مياهه أنهار العالم الأربعة ومنها: دجلة والفرات.
والجزئية الخاصة برواء دلمون من جانب إله الشمس بالماء العذب الذي ينبع من الأرض، لها نظيرتها في التوراة: «ثم خرج من الأرض ضباب، فسقى وجه اليابسة جميعه» (ت2-6)، وولادة الإلهات التي تمت بلا مخاض وألم، ثم لعنة حواء، وإشراكها أسطوريا في دم الإله الذكر الذبيح.
وكذا أكل الإله إنكي من النباتات الثمانية، ولعنة آدم بعد أكله من شجرة المعرفة.
ثم فكرة خلق حواء «أم جميع المخلوقات» من ضلع آدم، وحواء كما وصفتها التوراة بأنها «تلك التي تحيي؛ أي تسبب الحياة»، ففي الأسطورة السومرية كان أحد أعضاء إنكي الذي أصابه المرض هو «الضلع»، والكلمة السومرية للضلع هي «تي» وسميت الإلهة التي خلقت من أجل أن تشفي ضلع إنكي باسم «نن-تي» أي «سيدة الضلع».
وأول من سبق أن اهتدى إلى تفسير فكرة الضلع التوراتية - في أساسها السومري - الباحث السومري الأب شايل:
في دلمون لا ينعق الغراب الأسود،
ولا يصيح طير ال «أندو» ولا يصرخ،
ولا يفترس الأسد،
والذئب لا يفترس الحمل، ولم يعرفوا الكلب المتوحش الذي
يفترس الجدي، ولم يعرفوا ... الذي يفترس الغلة، ولم توجد الأرملة
والطير في الأعالي، والحمامة لا تحني رأسها،
وعجوز دلمون لا تقول أنا عجوز.
أما العبارات التي تصف ولادة الإلهات بلا ألم، والتي تمت بعد حمل 9 أيام بدلا من 9 أشهر:
لقد عانقها وقبلها «إنكي» وأودع البذرة في رحمها،
فأخذت البذرة في رحمها، أخذت بذرة إنكي.
ومضى يوم واحد فكان شهرها الأول، ومضى يومان كانا بمثابة شهرين من أشهرها،
وتسعة أيام صارت أشهرها التسعة: أشهر الأمومة والحمل.
16
ومثل الزبد «كالزبد» كالزبد النقي الفاخر،
ولدت الإلهة «نن-كوا».
أما أكل النباتات الثمانية فقد وصف في عبارات تظهر لنا الإعادة والتكرار الذي يتميز به الأدب السومري:
تطلع إنكي في الأحراش ونظر حواليه،
وقال لرسوله «أيسمد»: لأقررن مصير نباتاتهم وأعرف قلوبهم.
ما هذا النبات؟ إنه نبات الشجر.
فقطعه له وأكله إنكي.
وهكذا يأكل إنكي من النباتات الثمانية: نبات «الشجر»، نبات «العسل»، نبات «الطريق»، نبات «الماء»، نبات «الشوك»، نبات «الكبر»، نبات ال ... (ولم يعرف اسم هذا النبات السابع)، نبات «القاسية»،
17
فلقد قرر إنكي مصير هذه النباتات وعرف سرها، ولما علمت «ننخرساج» لعنت اسم «إنكي» واختفت، وأفلح الثعلب في إرجاعها وأبرأت أوجاعه الثمانية المعلولة، ومن بينها «الضلع»، وحققت له الشفاء عن طريق الإلهات الثماني: «أجلست» ننخرساج إنكي في حضنها «عند عورتها»:
ما يؤلمك يا أخي؟
إن فكي هو الذي يؤلمني.
يا أخي ما يؤلمك؟ «إن «ضلعي» هي التي تؤلمني.»
لقد ولدت من أجلك الإلهة «نن-تي»؛
18
أي سيدة الضلع أو «السيدة التي تحيي». •••
ولا بأس في الاستطراد حول بعض مدونات ونصوص هذا التراث الأسطوري فيما بين النهرين، الذي تواتر إلى تراثنا العربي منذ حوالي 5 آلاف عام، وما تزال تعيش معظم جزئياته على الشفاه تحت جلد تركتنا - خاصة - من الحكايات الخرافية ومنتجاتنا الروحية.
فالكلمة السومرية المناظرة لكلمة «هادس» الإغريقية و«شيئول» العبرانية هي «كور» التي تعني في أصلها «جيلا»، ثم صارت تعني بعدئذ «البلاد الأجنبية»؛ لأن الأقطار الجبلية المتاخمة لبلاد «سومر» كانت خطرا مستديما على أهلها، خاصة من أخطار وصراعات الميديين الإيرانيين والحيثيين الأتراك.
وفي العقائد السومرية فإن «كور» هو المكان الفارغ بين «سطح الأرض» و«البحر الأول»، وإليه تذهب أشباح الموتى جميعا، وكان الوصول إليه يستلزم عبور «نهر يبتلع الإنسان» بواسطة قارب يسيره ملاح خاص هو «الموكل بالقارب»، مثل نهر «ستايكس» والملاح «كارون» عند الإغريق، ومثل بحر الظلمات في الحكايات العربية.
وفي الأساطير اليونانية نهر «ستايكس» هو نهر «هادس»؛ أي «العالم الأسفل أو الجحيم جهنم»: «ورغم أن العالم السفلي موطن الأموات، إلا أن به نوعا من الحياة» (أشعيا 14: 9-8).
وكان من الممكن لأشباح الموتى في أحوال معينة أن «تقوم» وتصعد إلى الأرض لأجل محدود (صموئيل الأول 28)، كما في القصيدة السومرية عن «جلمجامش وأنكيدو والعالم السفلي».
وفي نص إنليل وولادة الإلهة الثالثة، نتعرف على إلهين ساميين مهمين هما: الإله الراعي «دموزي»
19
أشهر الآلهة الميتة، و«أنانا»
20
أو أناثا؛ أي عشتار عند البابليين، وفينوس عند الرومان، وأفروديت عند الإغريق، وهي أنانا عند السومريين؛ أي «ملكة السماء».
كما عثر على أسطورة عن لعنة الدم أو ضربة الدم، وهي جزئية سامية ترد بكثرة في الحكايات الخرافية العربية، حيث حولت إحدى الإلهات جميع مياه البلاد بأكملها إلى دماء؛ بسبب خطيئة ارتكبها إزاءها أحد البشر الفانين. والمثل الوحيد الماثل لفكرة «ضربة الدم»
21
في جميع الآداب القديمة هي القصة المرتبطة بحوادث سفر الخروج، حيث حول الإله يهوا مياه مصر إلى دماء، وترد بتلقائية بليغة على النحو التالي:
كان يعيش في قديم الزمان بستاني اسمه شو كليتودا، ورغم عمله المتواصل لم يكن يجد سوى إبليس والموت، وكانت الرياح السامة - ريح السموم - تلطم وجهه (بغبار الجبال)، فاتجه إلى السماء ذات النجوم، ولما نال الحكمة غرب شجرة ال «سربتو» (شجرة الغرب المنتشرة في العراق) وازدهر بستانه.
وحدث ذات ليلة أن «أنانا» (الإلهة السومرية المضاهية لأفروديت الأفريقية وفينوس الرومانية) كانت منهكة واضطجعت، فجامعها البستاني ولما طلع النهار وصحت أنانا، وتنبهت للعار الذي حاق بها؛ سلطت على سومر ثلاثة أنواع من الأوبئة: (1)
ملأت جميع آبار البلاد بالدم. (2)
سلطت رياحا وعواصف على البلاد. (3)
وأما البلاء الثالث فطبيعته غير معروفة؛ لأن الأسطر محطمة.
ورغم تسليط هذه الأوبئة والبلايا، فإن أنانا لم تستطع أن تعثر على من انتهكها؛ إذ إن شو كان يذهب إلى بيت أبيه ويبلغ بالخطر المحدق، فكان الرب ينصحه بملازمة المراكز والمواطن الحضرية، وهناك لن تعثر عليه أنانا؛ ولذلك عزمت الآلهة على استشارة الإله «إنكي»، إله الحكمة السومري ... (وهنا يضيع النص أيضا.)
وذات يوم بعد أن عبرت «أنانا» ملكة السماء والأرض،
بعد أن قطعت بلاد عيلام وبلاد شوبر،
اقتربت البغي المقدسة إلى البستان تعبة وغطت في النوم،
فرآها «شو كليتودا» من حافة بستانه،
ضاجعها وقبلها وعاد إلى حافة بستانه.
طلع الفجر وأشرقت الشمس
فنظرت المرأة حولها جزعة
نظرت أنانا حولها وجلة جزعة
فتأمل ما أعظم الضرر الذي أحدثته المرأة من أجل عورتها.
22
أنانا من أجل عورتها
23
ماذا صنعت؟
لقد ملأت جميع آبار البلاد بالدم،
فامتلأت جميع أحراش البساتين في البلاد بالدماء.
لقد صار العبيد حين يذهبون للاحتطاب لا يشربون إلا الدم،
والإماء إذا ما جئن للتزود بالماء لا يملأن إلا الدم.
قالت: لأجدن من ضاجعني في جميع أرجاء البلاد.
لكنها لم تجد الذي جامعها.
24
كذلك تجدر الإشارة إلى أول جزئيات شهدها العالم القديم عن مطاردة الأنثى للذكر، حين عشق دموز الإلهة البغي أنانا فأهلكته، «فلقد فاته أن يأخذ حذره من طموح المرأة الذي ملك عليه مشاعره»، وهذا ما ترويه لنا أسطورة «نزول أنانا إلى العالم السفلي»، وأهمية هذه الأسطورة في تضمنها لفكرة البعث (القيامة ).
فبالرغم من أن أنانا كانت سيدة السماء - أي العالم العلوي كما يدل على هذا اسمها - إلا أنها رغبت في توسيع سلطانها وأن تحكم العالم السفلي - أي جهنم - فصممت على الهبوط إليه، وجمعت كل ما لديها من «نواميس» إلهية وحلي، وأصبحت على أهبة الدخول إلى تلك «الأرض التي لا رجعة منها».
وكانت ملكة العالم السفلي أختها الكبرى وعدوتها اللدودة «إيرشكيجال»،
25
إلهة الموت والظلام عند السومريين. ولما كانت أنانا تخشى أن تميتها أختها، وكانت محقة في مخاوفها؛ فأوصت وزيرها «ننشوبر» أنها إذا لم تفلح في العودة في مدى 3 أيام، فعليه أن يندبها عند خرائب قاعة «مجمع الآلهة»، ثم يرحل إلى «نفر» - مدينة الإله «إنليل» كبير الإلهة السومريين - يستعطفه، وإذا رفض يقصد «أور» - مدينة إله القمر «إنليل» - ثم «أريدو» ومدينة إنكي - وهو إله الحكمة الذي يعرف سر «طعام الآلهة» ويعرف «ماء الحياة» - والأخير لن يتوانى عن نجدتها.
وتهبط أنانا إلى العالم السفلي بأبوابه السبعة، وعند كل باب تفقد ملابسها وحليها، إلى أن تصبح عارية أمام إيرشكيجال «وقضاتها السبعة المخيفون، فصوبوا إليها نظرات الموت وتحولت على الفور إلى جثة هامدة».
ومرت ثلاثة أيام وليالي، وفي اليوم الرابع عندما رأى «ننشوبر» أنها لم تعد ذهب إلى المدن وتوسل، فأبوا، إلا إنكي الذي خلق لها إلهين زوداها بطعام وماء الحياة، فنزلا ونثرا الطعام والماء،
26
وعادت أنانا إلى الحياة، ورغم هذا فلم تنته آلامها ومتاعبها، فهناك قانون لا تعرفه من قوانين «الأرض التي لا رجعة منها»؛ إذ لا بد من إيجاد بديل عنها ليحل محلها؛ لكي تعود إلى العالم العلوي برفقة شياطين غلاظ، وعادت أنانا برفقتهم، وكانت كلما دخلت مدينة حل الخوف والذعر قلوب آلهتها وحماتها، فلبسوا المسوح وتمرغوا في التراب أمام أنانا، فتقبلت - على ما يبدو - خضوعهم وتذللهم، ومنعت شياطينها من أخذهم إلى العالم السفلي، إلى أن وصلت مدينة «كلاب»
27
وكان إلهها الحامي دموزي، ولما كان زوج أنانا، فقد رفض التمرغ في التراب ولبس المسوح ، بل إنه ارتدى حلل العيد والأفراح، وجلس متربعا على عرشه، فغضبت أنانا وصوبت عليه نظرة الموت وأسلمته إلى أيدي الشياطين القساة، وامتقع دموزي وبكى واستجار بإله الشمس «أوتو» للخلاص من قبضة الشياطين.
لكن في منتصف عبارات الضراعة فسد اللوح ولم يعرف ما به، إلا أنه عرف من مصادر أخرى أن دموزي كان من آلهة العالم السفلي؛ لذا لم تفلح ضراعته لإله الشمس «أوتو» ونقل إلى العالم السفلي. •••
فكما هو واضح يتبدى مدى تأثير هذا التراث السومري اللاسامي الذي توارثته الشعوب السامية، فواصل سريانه عند مختلف شعوب وحضارات الشرق الأدنى القديم منذ مطلع الألف الثانية قبل الميلاد، سواء عند البابليين في أعرق ملاحم شعر البطولة التي جاء بها العالم القديم «جلجاميش»، وأساطيرهم وحكايات تموز وعشتروت التي كانت تمسخ عشاقها عقب الجماع، والتي مسخت وأصبحت بدورها شخصية كيركه،
28
في الحكايات الخرافية، خاصة العراقية والسورية واللبنانية والفلسطينية، وكذا مجمل سمات الحكايات العربية بالإضافة إلى عديد من العبارات والتضمينات السارية في فولكلورنا، مثل: البحث عن ماء الخلود، ومقاومة أبطال الحكايات للنوم، والألغاز والحزور، والاتصالات بعالم الموتى، وبادئ ذي بدء ما تنفرد به قصص الخلق السامية؛ أي الخطيئة الأولى والعقاب بالموت، وعن خلق المرأة من الضلع السادس للرجل، أو آدم السومري البابلي الكنعاني العبري العربي، وهو ما سنتوقف عنده بتفصيل موجز، فلعل التركيز على دراسة مأثور أسطوري واحد دراسة مقارنة، والتأني عنده قليلا، ومن المدخل البنائي مثل هذا المأثور عن الخلق والخطيئة الأولى التي تقف كسمة استراتيجية متميزة ومميزة في ذات الآن لتراثنا العربي السامي.
ففي التركيز على دراسة الظاهرة أو المأثور الواحد ما يكفي كبرهان لصياغة حكم أعم لتراثنا.
الفصل الثالث
حول قصص الخلق والخطيئة الأولى ودانة الأنثى
فعندما قرر الله أن يهب آدم أنيسا أو أنثى، حتى لا يصبح وحيدا في نوعه، جعله في نوم عميق، وحرك واحدا من ضلوعه وشكله على هيئة امرأة، ثم سد الجرح، وعندما استيقظ آدم تساءل: «هذه عظم من عظمي، ولحم من لحمي، وسأدعوها امرأة.» ذلك لأنها أخذت من لحم رجل، فالرجل والمرأة سيكونان لحما واحدا، وسماها حواء؛ أي أم كل المخلوقات من إنسان وحيوان.
ويرى البعض أن الله خلق الرجل والمرأة على صورته في اليوم السادس، ووهبهما صيانة كل العالم، إلا أن حواء لم تكن قد وجدت بعد، وطلب الله من آدم أن يسمي كل حيوان وطائر وكل الأشياء الحية، وعندما مروا من أمامه في ازدواج الذكر والأنثى، بدأ آدم على الفور كرجل في العشرين من عمره مختالا من حبه لهم، واختبر نفسه مع كل أنثى على التوالي، لكن دون أن يكتفي؛ ولهذا صرخ شاكيا: لكل مخلوق قرينة إلاي.
وتوسل إلى الله ينقذه من هذا الإجحاف، فشكل له الله «ليليث» أول امرأة على شاكلة آدم، إلا أن الله استعمل القاذورات والأوساخ والرواسب الطفيلية في صنعها بدلا من طين العمق، وباتحاد آدم بهذه الشيطانة، ومع أخرى على شاكلتها تدعى نعمة،
1
أخت قابيل (قايين) التي نثرت ما لا يعد ولا يحصى من الشياطين التي لا زالت آفة ووباء الجنس البشري.
ولم يجد آدم وليليث جنبا إلى جنب سلاما، فعندما أراد أن ينام إلى جانبها استاءت من وضع المضاجعة وغمغمت: «لم يجب علي الاضطجاع إلى جانبك؟»
وأضافت: فمثلك أنا أيضا من تراب؛ لذا فأنا أساويك. وعندما حاول آدم إرغامها على إطاعته بالقوة، انفجرت ليليث متفوهة باسم الله السحري المقدس، وتركته منفلتة طائرة في الهواء.
واشتكى آدم إلى الله: «لقد هجرتني زوجتي لحمي.» فأرسل الله رسله الثلاثة ليرجعوا الليليث، لكنهم وجدوها بجوار البحر الأحمر في إقليم تتكاثر فيه الشهوات الشيطانية، وهناك كانت تنجب المئات من الريمي، فقالوا لها: «عودي إلى آدم بدون إبطاء.» قالت الملائكة: «وإلا فسنجبرك.» فقالت ليليث: «كيف لي أن أعود إلى آدم وأحيا كزوجة بيته الوفية بعد أن عاشرت البحر الأحمر؟!» وعندما هددها الملائكة بالموت قالت: «كيف لي أن أموت إذا ما كان الله قد أوصاني بأن أكون مشرفة على كل طفل ذكر جديد يولد في العالم حتى يومه الثامن، أما البنات فإن علي رعايتهن حتى يومهن العشرين ؟!»
لكن الله عاقب ليليث بأن جعل مائة طفل من أطفالها الشياطين تقتل وتموت يوميا.
ويعتقد البعض أن ليليث متربعة كأميرة سمرقند، كما اعتقدوا في أنها ملكة سبأ، وأنها كانت الشيطانة التي حطمت أولاد يعقوب، وهي التي جاءت بالموت إلى العالم من قبل السقوط.
فليليث وأختها نعمة لا تقومان فقط بخنق الأطفال الحديثي الولادة، لكنهما أيضا تقتلان وتغويان الرجال النائمين، وأي شاب أعزب ينام وحده يصبح فريسة لهما، وهو المعتقد الذي ما يزال ساريا إلى أيامنا، وتكشف عنه الحكايات الخرافية المصرية والعربية بكثرة واضحة.
فهو
2
معتقد أسطوري خرافي راسخ يمكن في حالة التوفر على دراسته بالاستعانة بالنماذج والتنويعات، سواء التي ترد بكثرة يمكن أن تشكل ظاهرة في الحكايات الخرافية العربية من شفاهية ومدونة، وسواء داخل الممارسات والشعائر الدينية للنحل والملل والطرق الصوفية على طول بلداننا العربية، مرتبطة أيضا بطقوس الزار والذكر والتوسل بالانتشاء الصوفي وأغاني التخمير ودلائل الخيرات حول عشق الإنسي للجنية أو الإلهة أو النداهة ليلى.
3
وسأتعرض لهذه السمة أو الظاهرة وما يشاع حولها من آلاف المأثورات الخرافية الشعائرية، أو المغلفة بالمنتج - بضم الميم - الروحي، ومئات القطع الشعرية التي انتهت أيضا في مواويل ولوازم بدء الغناء المعروفة: «يا ليل يا عين.»
بما لا يبعد عن استكمال فابيولتنا الأسطورية هذه: ومرة ثانية قرر الإله أن يهب آدم زوجة ملائمة تجيء (تصنع) من العظام والأوعية الدموية والدم والعضلات، ثم غطى - أو كسا - العظام لحما، ثم حدد أماكن الشعر، ثم جعل منظر حواء الأولى لآدم - وهي واقفة في كامل بهائها - يتسبب له في نفور لا يقهر تجاه حواء الثانية، فعرف الإله أنه أخطأ ثانية، ثم أخذ حواء الأولى هذه بعيدا إلى حيث ذهبت واختفت دون أن يعرف أحد لها مكانا.
ثم أراد الإله مرة ثالثة - الثالثة ثابتة - بشكل أكثر إحكاما «خلق المرأة» بأن أخذ ضلعا من ضلوع آدم خلال نومه، وشكله إلى امرأة، ثم ضفر شعرها وزينها مثل عروس في الرابعة والعشرين من عمرها، قبل أن يوقظه، وعندما صحا آدم أصابه الذهول.
والبعض يقول بأن الإله لم يخلق حواء من ضلع آدم، لكن من نهاية الذيل الذي كان قبلا جزءا من جسده، اقتطعه الله؛ وهو ما يعرف ب «العصعوصة» أو الذنب التي ورثها أبناء آدم.
وتضيف بعض المصادر بأن المنبع الأصلي لتفكير الإله كان متجها إلى خلق إنسانين ذكر وأنثى، وبدلا من هذا فقد قرر أن يخلق واحدا بوجه رجل من الأمام، ووجه امرأة من الخلف، ومرة أخرى غير رأيه محركا ظهر آدم، وبنى جسده كامرأة لهذا الغرض.
وما يزال البعض يتمسك بأن خلق آدم الأصلي كسلسال كوزموجولوجي لأجساد الرجل والمرأة مرتبطين ظهرا لظهر، وعندما اتضحت مصاعب هذا الوضع؛ فصل الإله هذه الثنائية، وأعطى كل نصف مؤخرته الجديدة، وهذه المخلوقات (الثنائية) المنفصلة أسكنها جنة عدن محرما عليهما الاقتران.
أما عن جزئية أن أول استيقاظات جنسية لآدم كانت مع الحيوانات وليس مع النساء، وربما كانت منحدرة من الانتشار الواسع للبهيمية في الشرق الأوسط التي ما تزال بقاياها سارية بفعل العادة، والتي تمثلت ثلاث مرات في الأسفار الخمسة - البنشاتوك - كجرم رئيسي، كما في الملحمة الأكادية جليجاميش.
فقد قال أنكيدو إنه عاش مع الغزلان والظباء، وإنه قد اندفع مع بقية الحيوانات المتوحشة عند موارد الماء، إلى حين إحضاره وتحضره بواسطة كاهنة، أتيح له التمتع باحتضانها ومضاجعتها لمدة ستة أيام وسبع ليال، وعندما رغب في العودة إلى الحيوانات ولدهشته الشديدة هربت جموع الحيوان من منظره، وعرف أنكيدو حينئذ أنه جنى سوء الفهم، وقالت الكهنة: «إنك حكيم يا أنكيدو مثل إله.»
فالإنسان القديم الفطري كان ممسوكا بالتراث البابلي؛ ولهذا فإن ملحمة جليجاميش أعطت أنكيدو ملامح شعر رأسه مثل شعر امرأة، وله مظهر إلهة المحاصيل الأنثى نيسابا.
فالتراث العبري الذي حمل بوضوح من منابعه البابلية - والمتوارثة بدورها من السومرية - والذي استعمل التعاليم (التنائيم) المدراشية ليصف ازدواج آدم الجنسي.
فهناك اختلاف بين أساطير الخلق التي جاء بها التكوين الأول والثاني، بما يسمح لليليث بأن تكون أول مخلوق أنثوي للذكر آدم.
وأقدم نص سومري يحتوي على واقعة الضلع.
أما ليليث فتكنى بأناثا؛
4
أي المرأة الكنعانية التي صرح لها قبل طقوس العرس المختلط بمخاواة العزاب الفرادى، ولكن بعد زمن الأنبياء فضحوا النساء الساميات باتباعهن الممارسات الكنعانية التي بدأت بموافقة الكهنة، وشيئا فشيئا مضت في التلاشي إلى أن حرمت.
وصراع ليليث مع البحر الأحمر تفتق عنه إيمان الساميين القديم بأن الماء يجذب الشياطين، وأنها تجد مرفأها الذي يتستر عليها.
وهذا هو ما تسبب في خنق أزواج سارة الستة الأول، وهرب الشيطان بعدها «إلى أقصى بقاع مصر».
أما مساومات ليليث مع الملائكة فلها متنوعاتها الشعائرية لحماية الوليد الجديد ضد ليليث، وخصوصا المولود الذكر، حتى يمكن أن يكون له حارسه الدائم بشعائر وتابو الطهور.
وكانت ترسم دائرة بفحم الخشب على حائط حجرة العرس ويكتب داخلها: «آدم وحواء، اغربي يا ليليث.» أما إذا ما تمكنت ليليث من الاقتراب من الطفل الوليد وشغفت به عشقا، فلا بد من أن يضحك في نومه، ولتجنب الخطر ينبه الطفل بأن يوضع إصبعه بين شفتيه، وعلى الفور تختفي ليليث أو الشيطانة.
وليليث كلمة بابلية آشورية ومعناها أنثى العفريت أو العفريتة أو الريح، ويتكون اسمها من الأحرف السحرية الثلاثية التي ذكرت في الهجاء البابلي، لكنها ظهرت مبكرا منذ السومريين قبله؛ أي حوالي 3000 قبل الميلاد في النص السومري المنحدر من الأورية، والمحتوي على حكاية جلجاميش والشجرة الصفراء، ثم حرفت شعبيا فتحولت من ليليث إلى ليل،
5
وكانت تظهر عادة كخارقة ليلية، شعرها طويل في الفولكلور العربي والمصري، ولقد اعتقد سليمان في أن ملكة سبأ ما هي إلا ليليث؛ وذلك لكثافة الشعر الذي يغطي جسدها وساقيها، وليليث تقطن الأماكن الخربة في الصحراء الأدومية بين سوريا والأردن، وتخلف الريمي والبجع والبوم والغربان وأبناء آوي والنعام والحيات والحدآت.
ويدعى أبناء الليليث: ليلم، في التارجوم الأورشليمي.
وفي القرن الرابع عشر وحد هورنيموس بين الليليث واللاميا اليونانية، واللاميا أميرة ليبية هجرت من زيوس بعد أن سرقت من زوجته هيرا أولادها.
فواصلت انتقاماتها بأن راحت تسرق زوجات الآخرين من ذويهم، وهكذا تمثلت في اللاميا التي تغوي
6
الرجال النائمين، وتمتص دماءهم وتلتهم لحمهم، مثلما تفعل الليليث وتابعاتها من العفاريت.
ووجد في الرسوم الحائطية (رليف) الهلينية اللاميا تفترس أحد المسافرين وهو مضطجع على ظهره، وربما كان في هذا تشخيص للحضارات التي فيها تعامل المرأة كأثاث أو كممتلك للرجل «وشروات ماله» كما هو الحال بالنسبة للعرب الساميين؛ حيث يرد المئات من الأمثال والمأثورات التي تحط من قدر المرأة.
فخلق الله لحواء من ضلع الرجل أسطورة مستقرة منتشرة تكشف عن سيادة الرجل الذكر، منكرة قدسية حواء، منقصة من موازاتها للرجل على طول البحر الأبيض أو أساطير الشرق الأوسط (المبكرة)، وربما كانت القصة مأخوذة من رسوم أناثا، متوازنة في الهواء، لامسة عشيقها الإله «موت» وهو يقتل عمدا توءمه «إليان»، بينما الإله موت يحفر كهفا تحت ضلع إليان الخامس دون أن يحرك الضلع السادس.
وترجع هذه الأسطورة المصورة إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ولعلها ما تزال محفوظة في المقولات الشعبية: «اكسر للبنت ضلع ...» •••
أخيرا نجد أنه في حالة العودة إلى نقطة انطلاقنا حول المنابع الأولى لفولكلورنا وأساطيرنا العربية بعامة، وحكاياتها الخرافية بخاصة، نجد الآتي: (1)
أن العلوم الطبيعية لم تحرز تقدمها المحقق إلا بعد جهود محققة في مجال التصنيف المنهجي للأشياء وعناصرها، ونفس الشيء يجري سريانه بالنسبة لتراثنا ومأثوراتنا وحكاياتنا الخرافية هذه، سواء فيما يختص بالتركة الحفرية الأركيولوجية للحضارات المكونة والمتعاقبة على شرقنا الأدنى القديم منذ السومريين وورثتهم العرب البابليين، أو ما يخص الجانب الشفهي والمدون والمتواتر المعاش اليوم والآن، والذي ما يزال إلى أيامنا ضنينا جنينا يواصل تواتره وكذا ممارسته. (2)
في حالة ربط عجلة هذا التراث بالتربية أو أنماط تربية الأطفال وتنشئتهم، يمكن القول بأن تجبر هذا التراث المحاط بكل شعائر التحريم والتابو والأنيمزم، والمسميات السلفية للتراث الخالد بما يستلزمه من حفظ وتجويد، وبما يحفظ ويجبر كل جيل على الخضوع للجيل السابق له، في حين يسيطر على الجيل الذي يليه، كما أشارت مارجريت ميد. (3)
تجميع محاولات التصدي لإقامة علم حقيقي يمكن إشهاره كسلاح عقلي في مواجهة الخرافة وانسلاب العقل العربي، دون يأس وحسرة من وعورة مواصلة التقدم واقتحام المحرمات والتحديات التي تفرضها الطبقات السلطوية صاحبة المصلحة العليا في الإبقاء على الخرافات كمنزلات، بدلا من كونها حفائر حجرية.
أخيرا ... إذا كنا قد بدأنا هذه الدراسة حول المنابع والجذور الأولى لتراثنا من تاريخية زمانية، فمن الأجدى لنا استكمال الجانب المكاني، ولنقل: المؤثر الأقرب، والمكون لسمات هذا التراث المترامي، وفي إطار البحث المضني عن منهج أو عن مفهومات للإلمام الاستراتيجي العام بالقدر المتاح.
والجانب المكاني هنا يكتمل بمعرفة الدور الآري الآسيوي المناوئ والمغلب على الدوام، وأخصه هنا الدور والإشعاع الحضاري الأقرب إلى التجانس للفرس الإيرانيين العجم منذ أقدم العصور، فحتى الحروب القبائلية الطاحنة بين كلا الفرس الآريين والعرب الساميين، يمكن اعتبارها مجرد مداخل لاستجابة قوى التوحد
7
الضاربة الجذور بين العرب الساميين والفرس الآريين.
الفصل الرابع
العلاقات التاريخية والتراثية بين الساميين العرب والفرس الآريين
نظرا للتزاوج الواضح الشديد بين التراثين المتتاخمين: السامي العربي والآري الهندي الفارسي منذ أقدم العصور، أو منذ فجر التاريخ في آسيا الغربية منذ منتصف الألف الثالثة ق.م، خاصة وقد تسبب هذا الامتزاج الحضاري بعامة، والتراثي الأسطوري الفولكلوري بخاصة، في إيقاع عدد من رواد الدراسات الآرية والسامية والفولكلورية بعامة - وأخصهم جريم وبنفي والمدرسة الشرقية في مجملها - في كثير من الأخطاء المنهجية حول أصول ومنابع التراث الأوروبي وقنوات هجراته؛ مما نتج عنه إغفال لدور بلداننا العربية أو الشرق الأدنى القديم كمعبر
1
ومؤثر حضاري للتراث الأوروبي.
ونظرا لاحتياجنا نحن هنا في عالمنا العربي إلى المعرفة بأصول ومنابع وقنوات تراثنا، ما شابه وخالطه من مؤثرات، خاصة وأن الشرق الأدنى القديم كان منذ أقدم عصوره وأطولها مجالا سجالا لتنازع كلا الساميين والآريين، وأخصهم الفرس الإيرانيين.
فظهرت بذور الارتباط منذ ظهور العيلاميين في فترة لاحقة لعصر جمدة نصر في سومر ما بين النهرين 2900ق.م، كذلك بين الهندوإيرانيين الميديين والبارسيين الذين تملكوا إيران منذ مطلع الألف الثانية ق.م، رغم أن مخلفاتهم الأثرية لا تكشف أبعد من القرن التاسع ق.م، فأقاموا الإمبراطورية الآخية الآرية التي كان لها أشد التأثير في بابل بالعراق منذ تملكوها تحت اسم الكاشيين.
ومع بداية الألف الثانية ق.م، ظهرت قوة مؤثرة جدا وهم الحيثيون في مجمل آسيا الصغرى، ومعروف دورهم الأناضولي التركي منذ بدء ظهورهم على مسرح أحداث الشرق العربي، ومؤثراتهم التراثية الحضارية على مدى أربعين قرنا.
كما ظهرت قوة جديدة منذ القرن 16ق.م، تعبد الإله الفارس ميثرا وأنديرا وناساتياس، هم الإيرانيون وكانوا يتبعون النظام العشائري، وكان داريوس الأول أول من سمى نفسه بإيران، وتوثقت العلاقات والتأثيرات المتبادلة بين هؤلاء الفرس الآريين الأوائل وبين العيلاميين منذ الألف الثانية ق.م، في سوسه وسيالك بالقرب من كاشان، ويلاحظ أن سوسه كانت بمثابة المركز المشع حضاريا وتراثيا فيما بين الرافدين منذ الألف الثالثة ق.م، وإلى الغرب منها
Simash .
وكان ظهور أول قوة سامية تمكنت من مناوأة هذه القوى الآرية الآسيوية عامة، وطردهم في القرن الخامس والعشرين ق.م، هم الأكاديون الذين امتصوا حضارة سومر، وهذا ما كشفت عنه آثار بلدة حلوان - لاحظ تسمية حلوان في كل من أكاد العراقية والمصرية - وترجع إلى 2267، بإضافة إلى مكتشفات عاصمتهم «أور»
UR
أو «أورورو»، ولعلهم كانوا أول قوة سامية عرفت التقويم الشمسي، واتخذوا الإله شماس أو شمس - ذا الأصول الإيرانية الآرية - كبيرا للإلهة.
إلى أن تملك الكاشيون - الهندوأوروبيين - بابل منذ 1742، وحكموها وأفرخوا فيها مجمل تراثهم حتى القرن 12ق.م.
كما تملك العيلاميون مرة أخرى على كركوك، وكانوا أيضا يعبدون إله الشمس أو شماس الذي توارثه البابليون فيما بعد.
فالعيلاميون كانوا يكتبون بالعيلامية والأكادية كما وجد نص في قناة السويس مكتوب بثلاث لغات منها الهيروغليفية.
كما استخدموا الألف باء الآرامية، واستخدموا في كتاباتهم البردي وألواح الطين.
والملفت أن هذا ما كشفت عنه آثارهم في جزيرة ألفنتين
2 - ذات الصبغة اليهودية - بأسوان وأكدته آثار مقبرة داريوس الأول في نقش رستم المعروف.
ويذكر أنهم عرفوا الصلب كعقاب وتكشف أساطيرهم التي فيها عبدت القبائل الإيرانية خلال الإمبراطورية الأخمية - الأخمينية
3 - مظاهر الطبيعة (الطوطمية)
zoroaster ، أو ما يعرف بالثنائية أهورامزدا
Ahuramazda
كإله للخير في خراسان وإيران.
وذكر هيرودوت أنهم كانوا يضحون للسماء والقمر والأرض والماء والرياح، وكان إلههم الرئيسي ميثرا.
أما أناهيتا
Anahita
فظهرت كإلهة أنثى للماء، ثم بعد ذلك كإلهة للإخصاب. كما ذكر هيرودوت أنه لم يكن لديهم معابد أو مذابح ولا نار مقدسة، أما عن الكهنة الماجيين
4 - من قبيلة الماجي - فظهروا في ألواح العيلاميين للمرة الأولى.
وعرفوا الشراب المقدس (الهوما) في الأفيستا، والنار المقدسة ظهرت في منطقة شهرزاد
Shahirizor ، كما عرفوا التضحيات البشرية، أما الخيول فظهرت مع المجوس.
وكان ميردوخ كبير الآلهة، وعقب فتح مصر غير داريوس الأول وقمبيز الكثير من الشعائر المصرية، ونقلوها إلى البانثيون الفارسي.
كذلك فإن الفرع الآري الإيراني لملوك سيالك «شيلهاك» سيطروا على آشور، إلى أن استعاد البابليون مرة أخرى قوتهم في عهد الملك نبوخذ نصر، الذي طردهم وقتل حفيد شيلهاك في 1124ق.م، وبهذا أنهى البابليون أسطورة سيطرة عيلام التي امتدت ثلاثة قرون.
ومنذ القرن التاسع تعرف العلماء على آثار الفرس من التسجيلات الآشورية في أورور ومن عيلام حتى كيرمان شاه، وعن ميديا وشلمانصر الثالث من آثار آشور في 835ق.م.
فبالقرب من مانا تقع ميديا محتوية
5
همدان، ومنذ ذلك الوقت أصبح الإيرانيون مطمحا للإمبراطورية الآشورية في سوريا العليا.
فحكمها آشور في القرن التاسع ق.م، واعتبر الآشوريون إيران وعيلام مناطق استراتيجية؛ لتأمين حدودهم وتجارتهم، لكن تيجلات الثالث وسرجون الثاني 705ق.م، أعاد مرة أخرى سلطة الهندوإيرانيين.
وفي 713 عادت سلطة سرجون والآشوريين ممثلة في فرض الجزية على 45 رئيسا ميديا.
ومرة أخرى في 721 عادت سلطة الكلدانيين وتسلموا العرش البابلي في العراق، وهزموا الآشوريين في 725 في موقعة دمر، إلى أن هزمهم مرة أخرى سنحاريب ملك آشور في 703، لكنه خلال حروبه معهم في إيران، دخل ملكهم بابل وأسر ابن سنحاريب في 699.
وحدث حلف قبائلي بين الكلدانيين والآراميين شمال الفرات، إلى أن عاد فهزمهم آشور
6
بانيبال في 663، واستمرت الحروب بينهما متواصلة إلى أن أنهى سوسة في 639 آشور بانيبال، وبسقوط آشور ظهرت قوتهم من جديد على يد قورش
Cyaxares
إلى أن لاحت قوة البارسيين الذين هاجروا إلى إيران في 640، ففي 615 هاجم قورش نيمرود وهاران، وهزمهم في 610، فأنهى الآشوريين في آسيا الصغرى، ودخل أحفاده مصر وإسبرطة في 547، ونصب داريوس الأول خليفة له على حكم مصر. •••
فيبدو أن تملك الآريين لإيران وقع منذ فترات موغلة في القدم، ويعتقد أنهم جاءوا من القوقاز وشمال سيبريا وروسيا وأوروبا والهند، فيؤرخ البعض لهذه الهجرات الآرية بما قبل الألف الرابعة قبل الميلاد، حين تملكت القبائل القادمة من أواسط آسيا هضبة إيران، وتملك الخوارزميون ما حول نهر بلخ، ومن أسماء هذه القبائل الآرية: قبائل الميديين والفارسيين والبارزيين والإيرانيين، والأخيرين تجاوزوا إيران إلى القوقاز، وإن كانوا أول من نزلوا بلاد إيران وأعطوها اسمها، وكانوا أول من أرسى الحضارة الفارسية القديمة التي أثرت بدورها في حضارات العالم القديم، خاصة ما يجاورها من حضارات الشرق الأدنى أو العالم العربي.
فلقد كان الفرس، منذ اتصالهم المبكر بالساميين الشماليين، حلقة اتصال لا تنضب في تسريب التراث اللاهوتي والعقائدي الآري - خاصة الهندي - إلى الأقوام السامية، ومن بينها الثنائية التي ميزت التراث الإيراني المجوسي، ومن بينها اعتقاداتهم الدهرية القدرية التي واصلت ازدهارها بشكل واسع متواصل عند أغلب الفرق والأقوام والنحل العربية السامية، خاصة القبائل العربية في اليمن والجنوب العربي، والتي وصلت إلى أقصى مداها عند العرب الجاهليين، وواصلت توارثها إلى أن أصبحت الملمح الجوهري الأول للتراث العربي.
ولقد تعامل الساميون الأوائل مع الفرس على اعتبار أنهم أهل كتاب، وأن لهم دينا سماويا، مثلهم في هذا مثل اليهود العبريين، نسبة إلى ديانتهم الزرادشتية التي تنسب إلى مؤسسها الحكيم الخرافي زرادشت، وتقول بقدم الأصلين: الخير والشر، أو النور والظلام، فنسبوا للخير «أهورامزدا» أو هرمس كل ما هو خير، واعتبروه إله السماء واهب النور والظلام، على عكس غريمه «أهرمن» الذي وحدوه بالظلام، فهو الشيطان أصل الشرور والآثام.
وجمع زرادشت شعائره وأساطيره في كتاب يعرف بالأفستا، وهي كلمة آرية مرادفة للمعارف، وهي فعلا مجموعة معارف طقوسية وبقايا أساطير آرية، جمعها تلاميذ زرادشت منذ منتصف القرن السابع قبل الميلاد، محتوية على بقايا معبوداتهم البدائية الطوطمية لمظاهر الطبيعة، مثل النور والمطر، فقسموا مظاهر الطبيعة إلى أشياء تحتوي على قوى خيرة، مثل ضوء النهار وبعض فصول السنة المعتدلة مثل الربيع والخصب والحنين إلى الخلود عن طريق التطهر، وأخرى تتصل بالظلام والجفاف والقحط والقبح والنكبات، نسبوها إلى الشر الذي هو الشيطان أهرمن.
ويقال إن ألافستا كانت تحتوي على واحد وعشرين جزءا، ضاع مجملها ولم يتبق إلا ما حفظ في الأدعية والشعائر الدينية والأناشيد الطقوسية.
فالعلاقة بين الفرس والساميين ترجع إلى فترات بعيدة، فينسب التاريخ الأسطوري للملك بيوراسف الذي تعارف عليه العرب ولقبوه بالضحاك بن علوان الحميري،
7
الذي سار إليهم من اليمن وهزم ملكهم «جمشيد ونشره بالمنشار نصفين».
ويقال إن الضحاك الحميري هذا تملك على إيران في 2800ق.م، وكان عامله على بابل نمرود بن كوش، الذي في زمنه حدثت هجرة قبائل إبراهيم الخليل من أور الكلدانيين إلى حران والشام وأرض فلسطين بسكانها الفلسطينيين وطلائعهم البحرية؛ حيث كانوا من أقدم شعوب العالم القديم اقتحاما للبحار والمحيطات.
وما يهمنا تأكيده هو أن اتصالات كبيرة كانت بين الفرس وجيرانهم الساميين من بابليين وآشوريين في العراق وما بين النهرين، وعرب يمنيين جنوبيين في الجزيرة العربية، وما عرف بدويلات الخليج العربي وإماراته الحالية.
8
وتبدت تأثيرات هذه الاتصالات المبكرة في كلا التراثين الآري الهندأوروبي والسامي العربي، للدرجة التي نتج عنها الكثير من الأخطاء والمغالطات التي وقع فيها الرواد الأوائل لهذه الدراسات خلال رحلات البحث المضنية عن منابع التراث الأوروبي وقنوات هجراته لغويا، وبالضرورة تراثيا، بدءا من الأخوين جريم، وبنفي، والمدرسة الفولكلورية الشرقية عامة.
وعلى سبيل المثال، فإن دولة الميديين الآريين 508-550ق.م، الذين يرجح أن هجراتهم تمت من شواطئ بحر قزوين إلى غربي آسيا، إلى أن استقروا في إيران وأقاموا دولتهم في القرن السابع قبل الميلاد، لم يتعرف عليها تاريخيا إلا من النقوش الآشورية والأخبار العبرية، وينسب لهم إقامة دولة همدان في الجنوب العربي.
وكانت ميديا تتبع آشور، وفي الأخبار الإسرائيلية أن ملك الآشوريين حمل بني إسرائيل إلى فتوحاتهم الجديدة الواسعة الممتدة إلى ما وراء نهر زاجريوس في إيران، وهو ما يعرفه توينبي بإعادة زرع أو استنبات الأقوام المغلوبة؛ بهدف شدخها أو تمزيقها حضاريا.
كما أن من أخبار هيرودوت أن الآشوريين استعبدوا الميديين الإيرانيين خمسة قرون كاملة، إلى أن تمكن «ديوسيس» أو ملوكهم من تأسيس الدولة الميدية وطرد الآشوريين، بل إن حفيده «كيخسرو» تمكن من تحطيم «نينوى» عاصمة الآشوريين في العراق وسوريا العليا.
وما يهمنا هو تلك الاتصالات المبكرة بين العرب الساميين والفرس الأوائل الآريين، من مزاوجات ومؤثرات حضارية وتراثية من جانب لآخر، حتى ليقال بأن الآشوريين خلفوا بصمات أصابعهم على اللاهوت الزرادشتي، الذي كان بمثابة بداية لتجمع حضاري «أميني» نقل الإيرانيين
9
البرابرة من طور إلى طور.
فيبدو أن الميثولوجيا البابلية والفينيقية السامية لعبت أهم أدوارها في إيران؛ إذ إنهم خلفوا لغتهم الآرامية، فكتب الفرس وثائقهم وتراثهم بالخط المسماري البابلي، كما أنهم - الساميين - خلفوا أساطيرهم ومظاهر حضارتهم التي كانوا قد توارثوها من أسلافهم السومريين، فخلط الفرس في لغتهم بين الفارسية القديمة والأرامية السامية، ومنهما اشتقت اللغة البهلوية.
وعلى هذا جاءت الإمبراطورية الإخمينية التي حكمت معظم شعوب الشرق الأوسط، مناصفة بين العبقرية الحضارية المتمثلة في الأساطير والتراث العقائدي اللاهوتي السوري أو الآشوري من الوجهة الحضارية، وبين الحكام ونظم الحكم الفارسية من الوجهة السياسية.
كما أن مما يزيد الأمر وضوحا فيما يتصل بقدم الاتصالات الحضارية بين الفرس والساميين - بل والمصريين - أن قمبيز بن كورش
10
مؤسس الدولة الإخمينية، والذي في عهده أعيد تسمية إيران باسم فارس نسبة إلى قبيلة فارس، فعندما غزا قمبيز بن كورش مصر ودخلها، وذلك عن طريق الخدعة التاريخية المعروفة التي تدل دلالة واضحة على سابق معرفة الفرس بدقائق اللاهوت والأساطير المصريين، أو مجمع وكعبة الآلهة المصرية.
ذلك أنه وضع أمام جيشه صفا كبيرا من الحيوانات والنباتات الطوطمية أو الشعائرية لآلهة وإلهات المصريين، فكان أن أخذ المصريون وامتنعوا عن القتال، فدخل قمبيز مصر وقتل العجل المقدس أبيس، وهدم الكثير من الهياكل والمعابد.
كما أن قمبيز فتح السودان ثم الحبشة، إلا أن إناثها هزمته وردته عن فتحها، فيلاحظ أن المؤثرات الآرية الفارسية وصلت حتى أفريقيا الوسطى منذ منتصف الألف الأولى ق.م. •••
ومن المفيد
11
التوقف هنيهة عند جذور التراث الأسطوري الآري الهندي، أو الأصل المبكر الأم للتراث الفارسي الإيراني.
ففي الفيدا - أقدم المصادر المدونة للغة السنسكريتية - عديد من الأساطير التي تنتمي للكيانات والأمم الآرية موجودة في أدنى أشكالها، ومن هنا تأتي القيمة الخاصة للأساطير الهندية بالنظر إلى الدراسات الأسطورية المقارنة.
لكن من الخطأ افتراض أن الأساطير اليونانية واللاتينية والسلافية والأجناس الشمالية بعامة لقدامى الألمان والكلت؛ مأخوذة أو مستمدة من الأساطير الهندية؛ لأن الأساطير مثلها مثل لغات كل هذه الأجناس المختلفة «على اعتبار التوحد بين كل من اللغة وأساطيرها»، فالمحتويات الهندية مأخوذة من مصدر أم، أما أساطير اليونان واللاتين والسلاف وغيرهم فهي مجرد تحويرات للغات الآريين البدائية التي كان يتكلمها الآريون القدامى، وذلك قبل أن تتفرع وتشتق من اللغة الأم الأصلية، وأينما وجدت أصبحت مكونة بدورها أمما جديدة في الهند واليونان وشمال ووسط أوروبا ... إلخ.
فاللغة السنسكريتية ليست هي الأم تماما بقدر ما هي في موقع الأخت الكبرى لليونانية وقريباتها من بقية اللغات الآرية والميثولوجيا، «الفيدية» هي نمط أو أسلوب مشابه فقط، فهي في موقع الأخت الكبرى للأساطير الآرية الأخرى، وبسبب هذا الاكتشاف للأصل الحقيقي لهذه اللغات تمكن الدارسون من التعامل مع الأسطورة تعاملا أكثر علمية.
ففي الهند توجد أسرتان من الآلهة هي الآلهة الفيدية والبراهمية، أما الآلهة الفيدية فتنتمي للعصور المغرقة في القدم، وتبدو كما لو كانت قد عبدت من شعوب زراعية غير مستنيرة، لكن اللاهوت البرهمي هو في معظمه منبثق بشكل رفيع من سابقه، وبالتدريج اتخذ مكانته كأبسط عبادة من الفيدية بقرون قليلة قبل مولد المسيح.
فلم يمض أكثر من خمسة أو ستة قرون حتى اتخذ هذا البناء الأسطوري تحويرا أو انشقاقا جديدا تحت اسم البوذية، وأصبح الدين الرئيسي للهند. لكن في مدى عشرة قرون تمكنت البراهمية من استرداد مكانتها، فانحسرت البوذية في الهند، لكنها اتخذت من جديد مسالك وقنوات أخرى، فأصبحت الديانة الرئيسية في بورما وسيام واليابان والتبت ونيبال والصين ومنغوليا وتابعيها في الوقت الحاضر، إلى أن فاق عددهم كل الأديان الأخرى مجتمعة. •••
ولا بأس هنا من إلمامة بالبنية الأسطورية البوذية.
فإله السماء المضيئة وكبير الآلهة ديوس أو زيوس
Dyaus-zeus ، والذي أصبح
zeus Rain
أو زيوس الممطر، هو الروح العلوي المسيطر، ومن أسمائه: «دياوس» الأب، ويتهجى باللاتينية جوبيتر.
كما أن اسم إله السماء في الأزمنة المتعاقبة كان
Varuna ، ثم أصبح اسم إله الماء، والاسم مشتق من المغطى أو المستور التابو، وبتعدد أسمائه أمكن إيجاد مفتاح يقود إلى الإله الإغريقي
Uranus ، ومعناها المخبأ أو المستور، وفي أسطورة فاريانا يتكشف عن أنه الإله ذو الألف عين؛ أي الإله الذي يرقب ويرعى كل شيء، والهنود الآريون يرون فيه الإله الذي لا تخفى عنه خافية.
كما توجد رابطة شديدة جدا بين أندرا وبين زيوس، فهو في كل أساطيره الإله الذي يجلب المطر، وينزل المياه المحبوسة من السماء، كما أنه يذهب في تعقب القطيع، ومثل هيرمس وهرقل فهو إله خارق القوة، وهو الإله الذي جلب الغلة والنبيذ، وتظهره الإشارات المبكرة في «الريج فيدا» كإله للشمس، «إنه هو أندرا الذي يتحكم في دوران الأرض ورسو الجبال ويرفع السماوات.» «وهو الذي ينطق الحكمة بكل اللغات.»
كما أنه الإله الذي يتطابق مع
Surya
واليوناني
Helios ، فهو ليس بالتحديد إله النور، لكنه الإله الذي يتجسد في الشمس، فهو ينتمي للبحار أكثر من انتمائه للماء، أما «سيريا» فاعتبروه الإله الزوج البعل
Baal ، وكذلك عد ابنا لها.
وهناك
Savitar
الذي ترتبط به أغرب الأساطير الآرية، وكان للشمس فهو ذو العيون الذهبية وكذلك ذو اللسان الذهبي، وفي قطعة شعرية ملحمية قديمة يعد سافيتار إلها قطع ذات مرة يده اليمنى مضحيا بها، فكان أن وهبه الكهنة ذراعا ذهبية بدلها.
أما سوما
Soma
الذي يعد تشخيصا آخر للشمس، وكإله نبات السوما هو النبات المقدس له، الذي يخلط بالعسل ودم الضحايا. وفي الأساطير الشمالية هو الذي يهب طيلة العمر للآلهة، وتصفه «الريج فيدا» كإله يتمتع بكل القوى، فهو الذي وهب أندرا النشاط، وأعانه على هزيمة عدوه «فريترا» أو حية الظلام، وهو إله له نفس مكانة فيشنو وأندرا وفريونا في هذا التراث، وهكذا تصفه الفيدا:
أينما وجد النور الأزلي في عالم تتربع فيه الشمس،
أينما كانت الحياة حرة في سماء السموات الثالثة؛
يوجد الإله سوما.
وهناك أيضا إله النار
Agni
الذي وحد مع ضوء الشمس والقمر، فهو الضوء الذي يعم المخلوقات والحقول، كما ينسب له أنه هو الذي غطى وجه الحقول بالحبوب، وأنضج المحاصيل عن طريق رسله المقدسين، كما كان عندهم آلهة للريح والهواء مثل شو في الأساطير المصرية، وإلهة للحكمة هي
Ushas ، وهي ما أصبحت الربة الإغريقية أثينا، فهي إلهة الحكمة عند الهنود.
وقد ترجم أشعارها وأساطيرها «ماكس موللر» في دراسته اللغوية الآرية «أصل النار وشراب الآلهة»، أما في الدين الهندي التقليدي فإن الآلهة المقدسة هم: براهما وفيشنو وسيفا، وهم يكونون الثالوث الهندي البرهمي الرئيسي إلى اليوم. •••
فنظرا للدور التاريخي والأسطوري الذي لعبه التجاور الآري بالنسبة لتراثنا السامي منذ فجر التاريخ للشرق الأدنى القديم؛ أولى الكثير من الكتاب الكلاسيكيين العرب اهتماما كبير الحجم ملحوظا، شمل رقعة عريضة من التراث العربي بعامة، للتراث الآري بعامة والفارسي بخاصة، اكتمل فيما بعد في العصور الإسلامية.
وكان لعبد الله بن المقفع بالطبع الدور الطليعي في نقل عيون التراث الآري: كليلة ودمنة، كما ترجم إحدى الشهنامات تحت اسم «سير ملوك الفرس»، ونقطة بدئها - كما هو الحال عند الساميين من عرب وعبريين - قصة الخلق وبدء الخليقة منذ عهد جيومرت أو آدم الآري الفارسي «حتى عهد يزدجر بن شهريار».
كما يتبدى هذا التراث الأسطوري الإيراني في عيون الأخبار، والأخبار الطوال للدينوري، وتاريخ البلعمي، ومروج الذهب، والتنبيه والإشراف، وسني أو سير ملوك الأرض، وغرر أخبار ملوك الفرس، وكامل التواريخ الأثير، بالإضافة إلى كتابات ومؤلفات الطبري والمقدسي وابن قتيبة والمسعودي وحمزة الأصفهاني والبيروني، ثم الثعالبي في تاريخه الأسطوري الفولكلوري: سير ملوك الفرس، الذي سنتوقف عنده هنيهة.
وكالعادة يذكر الثعالبي أن جيومرت أول ملك من ولد آدم، كما أن شيث أول نبي من ولده، فذاك للرعاية وهذا للهداية، فلا خلاف عندهم في أن جيومرت هو أبو الفرس من العجم، ويزعمون أنه كان يسكن الجبال، وكان يقال له: كرشاه؛ أي ملك الجبال (كر بالفارسية هي جبل).
وكان ملك أوشهنج بن سيامك بن كيومرث، فهو أول من عمر الأرض.
وبعد أن هلك هوشنك بقيت الأرض بعده 300 سنة، إلى أن ملكها طمهورث أول من عمر، وجعل الكلاب لحراسة الغنم والمواشي، ورسم اتخاذ الجوارح للصيد، وركب إبليس وطار به:
وراكبا فيله
مستشرفا نفيسا
كأنه طمهورث
12
لما امتطى إبليسا
وبعده تملك جمشيد ويقال له: «جم» ترخيما، وهو أول من غزل القز والكتان والقطن، ورتب طبقات الناس، وجعل الخوذة للجند، ورتب الطبقات: طبقة العلماء والأبدان والأديان، ثم أمر كلا منهم بالعمل الذي ألزمهم إياه، فلزم كل حده فلم يتعده، وخطه فلم يتخطه، ثم عمل عجلة وفرشها بالديباج، وطار بها في السماء، وسمى ذلك يوم أورمزد أول يوم الربيع، فاتخذوه عيدهم الأعظم وسموه النيروز.
وكانت مراتب الناس في أيام جم على الأسنان أعلاهم سنا، أعلاهم مجلسا، ثم كانت في أيام الضحاك على الغنى والثروة، ثم كانت في أيام أفريدون على الغناء والسابقة، ثم كانت في أيام منوجهر على الأصول والقدم، ثم كانت في أيام كيقاوس على العقل والحكمة، ثم كانت في أيام كيخسرو على البأس والنجدة، ثم كانت في أيام بهراسف على الدين والعفة، ثم كانت في أيام أنوشروان على اجتماع هذه الخصال، إلا الغنى والثروة فإنه كان لا يعتد بهما.
كانت رأفة جم على رعيته كرأفة الوالد بولده، وكان صنع الضحاك بالرعية صنيع الضرة بالضرة، وكان أفريدون لرعيته كالأخ لأخيه، وكان أفراسياب للرعية كالعدو للعدو، وكان بشتاسف للرعية كالمؤدب للصبيان.
ولما تجبر «جم» وادعى الألوهية قصده الضحاك الحميري - المسمى بالفارسية بيوراسف - من أرض اليمن في جيوش كثيفة وشوكة شديدة، فانقض عليه انقضاض العقاب على الأرانب، فهرب منه جم متنكرا، واستولى الضحاك على ملكه، وطارده حتى ظفر به فصاده كما يصيد الهر الفأر ونشره بالمنشار، ويقال إنه ألقاه إلى السباع.
فالعجم تسميه بيوراسف، والعرب تسميه الضحاك، وسماه أبو نواس بالخابل.
وكان أبوه ملك اليمن، ثم زين له الشيطان قتل أبيه فقتله، وما زال الشيطان يستدرجه ليأكل من كل لحوم الطير حتى لحوم الحملان، ومنها إلى لحوم الضأن والثيران، إلى أن نفخ في منكبيه من خبثه وسحره فخرجت حيتان سوداوان كلما قطعتا عادتا كما كانتا، وكلما قام من النوم أوجعته الحيتان، وأكلا مخ البشر وسكنا وهكذا، فكان ساحرا ماهرا. وعن ابن الكلبي أن الضحاك أول من سن القطع والصلب، وأول من سن العشور وضرب الدراهم والدنانير، وغنى وغني له، لكن إبليس زين له الكفر والفجور.
وذكر الطبري أنه وقع له شيء من كلام آدم فاتخذه سحرا يعمل به.
وكان إذا أعجبته امرأة أو غلام أو دابة، نفخ في قصبة من ذهب فكان يجيبه. وتنسب له حكاية الطباخين: أرماييل وكرماييل، اللذين أمرهما بقتل الشبان، لكنهما رقا للشبان المذبوحين، فكانا يذبحان عنزا بدلا منهم يوميا، ويتفرقون في الجبال حتى أصبحوا أمما «فهم أصول جميع الأكراد في نواحي البلاد».
13
إلى أن خلف الضحاك على عرش فارس ملك هو أفريدون الذي تنسب له أساطيرهم أنه ملأ الدنيا عدلا بعد جوره، إلى أن دخل عليه أفريدون وقتله بالعمود الذي في رأسه صورة ثور، وقطع من جلده وترا قيده به، وحمله إلى جبل دنباوند وحبسه في بئر هناك، وقال له الضحاك: إنما تقتلني بجدك جم.
وذكر أبو تمام قال:
ما نال ما قد نال فرعون ولا
هامان في الدنيا ولا قارون
بل كان كالضحاك في سطوته
بالعالمين وأنت أفريدون
ويدعي المجوس أنه محبوس حي بجبل دنباوند كإبليس إلى يوم القيامة، فاتخذ الناس يوم حبسه عيدا سموه «مهرمن مهرماه» أي المهرجان. ومن أقوال أفريدون: «من لم يعرف مكاسبه فهو متهم بالسرقة»، و«الخائن لا يعتمد أحدا»، «العبيد خمسة: الخباز والطباخ والساقي والفراش والوصيف.» «أما الأعداء الخمسة فهم: السفلة والحاسد والعبد والمرأة والمستعمل على العامل مكانه.»
ووزع ملكه على أولاده الثلاثة: «سلم وتوز وإيرج»، فإيرج ملك إيران إلى جانب أبيه أفريدون، لكنهما تآمرا عليه فقطعا رأسه وأرسلاها إلى أفريدون، وكتبا إليه: «هذا هو الرأس الذي آثرته علينا.» وجزت أربعة آلاف جارية شعورهن حزنا عليه، أما الملك فضعف بصره، وكان يضع رأس إيرج على الرماد في إناء من ذهب وينوح عليه حتى ينام.
ثم تملك منوجهر بن إيرج العرش وعندما تحاربا وقطع رأس توز أرسلها لأبيه أفريدون فقال: «لا مرحبا بدهر أحوجني إلى أن أقتل بعضي ببعضي.»
وتملك منوجهر وخطب في الناس: «لقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، وما بقاء فرع بعد ذهاب أصله.» وهو أول من خندق الخنادق، وأول من اتخذ لكل قرية عمدة، وكان قائده سام بن نريمان، ولقبه عمدة الدنيا، وكان يتمنى مولودا، ولما طعن في السن فرزق بولد أبيض شعر الرأس والحاجب والأشفار، فأنكره وأهمله، وحملته العنقاء وربته في أعلى الجبال الشاهقة، إلى أن جاءه أبوه واسترده وسماه «زال» أي الشيخ، وطلب الملك أن يراه وعشقته ابنة مهراب ملك كابل حين سمع بجمالها.
وأنجب زال رستم بطل الفرس الذي أحضروا له الخيول فتطأطئ تحت ثقل يده عليها، إلى أن جاءوا له بفرسته الموعودة به، وحارب الترك، وبعد أن مات كيقباد تملك ابنه كيكاوس الذي يسميه العرب قابوس، «وكان عجيب الشأن شديد التلون، فطورا ملك رشيد وطورا جبار عنيد، تارة سديد وأخرى شيطان مريد»، فنهض من بلخ في عساكره إلى اليمن لمغالبة ملكها، وكان يقال له بالفارسية: شاه هماوران؛ أي ملك حمير، وبالعربية «ذو الأذعار بن ذي منار بن الرائش»، وفي الحرب اصطلحا وأدى له ذو الأذعار الخراج، وزوجه سعدى التي يقال لها بالفارسية: سوذانة، وبعد أن زوجه إياها أوقع ذو الأذعار به وحبس كيكاوس في بئر، وأطبق عليه صخرة، وظلت سعدى تزوره وترعاه إلى أن جاء رستم لينقذه بعد سبع سنين.
وبعد أن اصطلحا سلمه لرستم، وقال فيه أبو نواس:
وقاظ قابوس في سلاسلنا
سنين سبعا وفت لحاسبها
واصطحب كيكاوس سوذانة في ألف من جواريها، ونزل بابل وبنى لها الصرح الرفيع وادعى الألوهية وصعد بالأعقاب إلى السماء وأنجب سياوش، وكان معلمه رستم وحكايته مع امرأة أبيه سوذانة أو سعدى ابنة ملك حمير.
وتذكرنا جزئياتها المتطابقة إلى أقصى حد مع النصوص والشفاهيات التي تدور حول بلاد وحكايات يوسف وزليخة.
بل إن الفولكلور الفارسي يحفل بالكثير من التنويعات والنصوص الأم ليوسف وزليخة بخاصة.
أخيرا فإن الكثير من موتيفات هذا التاريخ الأسطوري الفارسي ما تزال تعيش على الشفاه سواء في الحكايات الخرافية - التي هي موضوعنا هنا - أو في الشعر الملحمي وأشلاء السير التي سنتعرض لها، خاصة الملك معروف وابنه الشاطر حجازي ووزيره البين في حقل الحكايات الشفاهية والمدونة، سواء في الفولكلور العراقي أو اليمني ودول الإمارات العربية بشكل ملحوظ.
كذلك يمكن العثور على جزئيات وأنماط هذا التاريخ الأسطوري الفارسي في الكثير من السير والملاحم المندثرة والمهشمة التي توصلت إلى تدوين بعض أجزائها، مثل ملحمة أو سيرة «الملك معروف».
خاصة بالنسبة للملمح الجوهري لهذا التراث الآري المتسرب والمؤثر في مجاوره السامي العربي، وهذا الملمح هو الثنائية التي سنوليها اهتماما خاصا؛ نظرا لحجمها وملمحها داخل تراثنا العربي، من شفاهي ومدون.
الفصل الخامس
الآلهة البركة وتوابعها
ودون عزلة عن المدى الذي قطعته دراسة الحكاية الشعبية من خرافية وطوطمية حيوانية نباتية لمحلية، سواء من حيث التصنيف والفهرست بحسب موضوعاتها وأغراضها.
فمن المفيد أن يكون لنا تصنيفنا المعبر عن خصائص وسمات تراثنا الفولكلوري العربي في مجال الحكاية.
وعلى هذا، فنظرا للدور الكبير الواضح لجزئيات الأفكار المجردة مثل: حكايات ومأثورات البركة المنتشرة على طول شفاهيات الكيانات العربية، ولها استخداماتها المختلفة، سواء في الحكايات أو تبادل التحايا والدعاء: «بارك الله فيك» و«حصلت البركة» ... إلخ.
ثم ما يتبع هذه الأفكار اليوتوبية للآلهة المجردة للبركة وتوابعها، من رزق وستر وسعد ووعد وعقل، التي تتمثل مشخصة داخل رقعة الحكايات العربية، كمثل آلهة
1
تسعى في الأسواق، وتزور الناس، وتتبارى في التحكم في مصائرهم؛ مما دفعني إلى أن أفردت لها تصنيفا خاصا هنا.
فجزئية البركة، كمقولة طوباوية، لها بالقطع دورها السالب المبدد والمعاكس للحتميات العلمية والتقنية في ذات الآن.
فالبركة وما يرادفها من سعد ووعد وبخت وقسمة ونصيب بما يفضي بها إلى القدرية، التي هي ملمح جوهري لتراثنا العربي؛ ترد بكثرة ملفتة في تراثنا.
وهذا ما دفعني هنا إلى إعطائها نصيبها من التأني الدراسي؛ نظرا لجانبها الأقرب إلى الخطر، ولنقل الآفة الحضارية التي قد تمتد بدءا من التصور والمخيلة الذاتية إلى الجمعية المعوقة لطاقات الإنتاج ومؤسساته.
ولعله من الملفت والمفجع معا - بالنسبة لتراجيديا العقل الغيبي المتمثل في اللامعرفة - أن أقدم أشكال فكرة البركة هذه ولدت أسطوريا مع مولد إسرائيل.
ذلك أن يعقوب
2
بعد أن غافل خاله لابان بن نحور، وأخذ راحلا عنه ماشيته وزوجتيه ليئة، وراشيل التي كانت قد سرقت آلهة أبيها ومن بينها رأس آدم - أبو البشر - وجلست عليها في هودجها المقام على الجمل الذي حملها، إلى أن غافل يعقوب القافلة مترجلا عند مخاضة
3
نهر اليبوق، متربصا لروح النهر مكمن البركة ومهبط عرش الله، ومصدر كل شيء حي، إلى أن ظهر له ملاك الرب على هيئة رجل أخذ يناضله طيلة الليل في صراع، حتى إنه كسر له ضلعه وهو يقول: «لن أطلقك إن لم تباركني.» فقال له فيئيك أو ملاك الرب: «لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل.» أي ولي الله إيل المبارك.
ولعله أيضا أول ذكر لإسرائيل مرادف للبركة، التي سعى إليها ذلك التاجر السامي يعقوب أو إسرائيل وانتزعها انتزاعا.
أما الواقعة الثانية التي تبرز فكرة البركة، فمكانها بعد أن تحقق وعد الآباء في أرض إسرائيل - الولي المبارك - ووجدت أول مملكة أو دولة، والتي فيها أقدم داود على إحصاء شعبه، فكان أن عوقب - نظرا لاقتحامه الزائد المبكر المتمثل في تعداد الشعب - باللعنات الثلاث التي قد نصل بها على مستوى الاشتقاق التخميني اللغوي للبركة، أي الشعب الفلسطيني صاحب الأرض والحق التاريخي على تلك القصص الإسرائيلية الهابطة المغيرة، تحدوها أساطير أرض الميعاد المرادفة للبركة، التي قد نصل بها على مستوى الاشتقاق التخميني اللغوي للبركة، أي بركة - بكسر الباء - الماء وموارده كمرادف أيضا للخير؛ ومن هنا فما تزال هذه الأفكار الخرافية عن ارتباط البركة ببرك الماء الآسن المنتشرة على طول قرى البلدان العربية، والتي يتبرك بها بالفعل، وهي مصدر تخلف صحي محقق.
وتتبدى شعيرة البركة هذه خلال تبادل التحايا والأدعية : «الله يبارك فيك»، وبخاصة في المعاملات التجارية وإتمام الصفقات: «الله يباركلك، ومبروك». ومع كل جديد أو بدء أو أول، سواء حصاد المحاصيل، أو ارتداء ملابس وأحذية جديدة، كما تتبدى بكثرة في الأسماء: مبروك وبركات وبركة، وبكثرة مفرطة في الحكايات الخرافية العربية عامة والمصرية خاصة، وهي حكايات أقرب إلى المأثورات، قصيرة متماسكة محكمة التصميم والبناء.
من ذلك ما توصلت إلى جمعه من حكايات، ومنه أن فلاحا أجيرا ثقل عليه الجوع، فذهب لزراعة أرض مالك، وافقه وأعطاه أردبين من القمح ليبذرهما، فأكلهما هو وأولاده، وبذر بدلا منهما أردبين من الرمل، وما إن ذهبا هو ومالك الأرض ليريا المحصول حتى وجد الفلاح أن ما بذره رملا طرحت فيه البركة فأنبت قمحا مزهرا.
أما عن أجير آخر، فما إن يحين أوان الكيل للمحصول لأخذ حصته من المالك، حتى يصل كيله للغلة إلى 8 زكائب بدلا من 12، ومرجوع الفرق هنا إلى أن الأجير الزارع مبروك كما تكشف الحكاية.
فترد تنويعات حكايات بسطاء الناس المبروكين بكثرة، وكذا الزوجات والأطفال - الموعودين القدريين - كما قد تختص بها - أي البركة - بعض الحيوانات والطيور، من ماعز ودجاجات تبيض ذهبا وجمال وأبقار. من ذلك أن رجلا اشترى بقرة من السوق، وفي البيت حين أقدموا على حلبها اكتشفوا أن لها ثديا واحدا بدلا من أربعة كما هي العادة في حالة الأبقار السوية، لكن ولأن زوجة الشاري بيدها البركة، حلبت البقرة بأثدائها الأربعة.
كذلك فقد نصل بسلطة البركة داخل عينات هذه الحكايات من خرافية وشعبية، إلى حد أن الأولياء في مقدورهم إحياء الأطفال الذبيحة والمحترقة بالبركة لا غير.
وعادة ما تلازم الثنائية مثل هذه الحكايات، فحيث تلازم البركة الشخص الصالح ممثلة في فتح مغارة، أو كنز، أو إتيان أفعال صغيرة كالأكل والشرب، تصل الشخصية إلى مبتغاها، بينما تخفق نقيضتها الطالحة أو الشريرة.
وفي حكاية مصرية من هذا النوع، تتفتح الكنوز للأخ الذي يندس في ذكر للأولياء، منشدا: «الله حي، اللي راح أحسن من اللي جي» كمقولة سلفية، بينما يخفق الأخ الطالح المستقبلي الذي يقلده مرددا: «الله حي، اللي جي أحسن من اللي راح».
فكما أوضحنا فهناك وثاق جوهري بين أفكار البركة وميكنزمات العقل الجبري الأسطوري القدري العربي بخاصة، والسامي بعامة، واستنادا إلى مقولة دين لاين غير المقننة كما ينبغي، عن خاصية تراث الحكايات الفولكلورية العربية، من خلال ألف ليلة وليلة، مشيرا إلى أن «الحكايات العربية لا تعرف في النهاية سوى إله واحد هو الله»، وهذا الإله ليس له سوى رسول واحد هو محمد، وهذا الرسول لم ينزل عليه سوى كتاب واحد هو القرآن، ولا يعترف هذا الكتاب سوى بفكرة واحدة هي الإيمان بالقضاء والقدر، وفي هذا الإيمان بالقضاء والقدر - الذي يمثل الخضوع المطلق لله - قوة صلبة، كما أنه يؤدي بصفة خاصة في مجموعة سلسلة الحكايات الخرافية النجيبة إلى معرفة عقيدية خالصة بالطبائع الغريبة للأشياء.
ولقد ساق هذا الباحث الألماني رأيه هذا في مواجهة، أو هي مناظرة بين التراثين الآري الهندي الفارسي المنفتح، مع متاخمه - ولنقل: مزاوجه - التراث العربي السامي القبلي المنغلق، المعادي في كل حالاته للحتميات التقنية الحياتية.
ولعلها حالة، بالمعنى الوبائي، تشكل جذبا قويا وميسرا للقوى الرجعية الفاشية الإمبريالية في مداها الأخير.
فكيف يمكن أن تتلاءم وتستقيم مفاهيم البركة الشعائرية أو الطقسية مع الاحتياجات والحتميات العلمية التقنية بجفافها الرياضي المعهود.
ولعله من هذا المسلك تفشت وأفرخت أوبئة الأمية والانفجارات السكانية والأبنية السلوكية والخلقية، خاصة على المستوى السياسي.
ومن هنا يمكن التوصل إلى ما أصبح يطل من شعارات نقطة بدئها تجيء كالآتي: «من التراث إلى الثورة»،
4
دون إدراك لثقل وجسامة هذه الموروثات الموغلة في غيبيتها، وفي بسط الرزق وكذا الحظوظ لمن تشاء دون حساب.
والسؤال هنا: أي تراث وأية ثورة؟
ذلك أن المعضلة الحضارية أكثر وعورة مما يتصور الكثيرون من الثوريين حسني النية والمقصد.
فلقد تسللت مثل هذه الأفكار - التي لا قوام مادي أو عقلي لها - داخلة في مجمل حياتنا، بدءا باللغة وتعاويذها وبنائية اللسان العربي، وكذا بقية المعاملات والممارسات من تجارية لا نهائية.
ولعلنا لا نبعد كثيرا إذا ما ربطنا بين البركة وبين بنية العقل الفاشي في مجمله، المعادي في كل حالاته للالتزام بخطة وبرنامج عمل؛ لذا فهو منتكس في معظم أحواله بإزاء حتميات المستقبل.
فكما نرى فالعقل العربي محبط على الدوام بالآنية وما تقتضيه وتستلزمه من تكنيك موصل في أحسن حالاته إلى باب المصيدة اليومية، دون دراية كافية بالانفتاح الاستراتيجي المستقبلي بالضرورة، ففي لجوء العقل العربي إلى التجريد المطلق تأكيد لمكوناته ومنطلقاته الغيبية الأسطورية.
ومن هنا جعل من البركة إلها يزور أبطال الحكايات الخرافية في منازلهم وحوانيتهم وحقولهم، في تناظر مع بقية توابعه من آلهة للرزق، وأخرى للسعد والبخت، ورابعة للعقل والحكمة، والأمر لا يبعد كثيرا بنا اليوم عن تراث العرب - البائدة والمندثرة - الجاهليين.
الفصل السادس
حكايات الحيوان الطوطمية العربية
وفي حالة تعرضنا لحكايات الحيوان والطيور، التي يرى البعض أنها أكثر قدما من الأساطير، وأنها ترجع إلى مراحل التوحش والبربرية والطوطمية، فهي حكايات أقرب إلى التعليمية أو الشرح والتفسير، كما أنها حكايات ملخصة، غاية في الدقة من حيث التصميم والتلخيص، ولها مغزاها وحكمتها ودقة ملاحظتها بالنسبة للطبيعة وغموضها، وكذلك بالنسبة لحكمة الإنسان البدائي وفلسفته، بإزاء قدرات الحيوانات والطيور والزواحف والهوام والنباتات التي حرم منها الإنسان بعجزه على الطيران، والغوص في الماء، وقوى الحيوانات الوحشية والبهيمية وهكذا.
ويحتفي دارسو الفولكلور بحكايات الحيوانات والطيور والنباتات والزواحف احتفاء خاصا، هذا على الرغم من إيجازها الشديد، بل وواقعيتها الشارحة المحددة، وهناك من يرى أن حكايات الحيوان هي بداية الأساطير، وأنها أكثر قدما وبدائية منها؛ إذ إنها كانت وعاء لشرح وتقديم الأفكار والمعتقدات؛ أي إن أكثر هذه المعتقدات كان يتجسد في شكل حيوانات وطيور، فالإله زيوس كان نسرا، والإلهة أثينا كانت بومة، وهيرا كانت بقرة، والإله النوردي ثور كان طائر جنة صغيرا، والإله تير كان ذئبا، مثله في هذا مثل الإله الروماني مارس، وضريبه السليني ديباتر.
كما أن هناك شبه إجماع من جانب دارسي الفولكلور على أن قصص الحيوان الشارحة هي المصدر الأم أو الأصل التي منها انحدرت الخرافات.
وقصص الحيوان الشارحة هي تلك القصص التي فسر بمقتضاها الأقدمون الفرق بين حيوان وآخر، بين طبيعة ولون وخصائص الذئب عن الحمل، ولون الحمامة الأبيض المخالف للون الغراب الأسود، وكذلك التفسيرات الغيبية التي فسر بها البدائيون السبب أو السر في بريق عيون القطط في الظلام، واستطالة أذني الأرنب والحمار، واختفاء الخفافيش عن العيون نهارا هربا من الدائنين، وغوص الطائر البحري إلى أعماق الماء بحثا عن الأشياء الغارقة من حطام سفن وغيرها.
وفي واحدة من الحكايات السودانية - التي موطنها النيل الأبيض - تكشف لنا الحكاية كيف أن الدنكا لا يضربون الكلاب؛ اعتقادا منهم في أن الكلب هو أول من جاء بالنار لقبيلة الدنكا، فلقد «عاش الدنكا حقبة طويلة لا يعرفون النار، وكان الرجل منهم إذا صاد سمكة قطعها قطعا ووضعها في ماعون وتركه تحت وهج الشمس».
وفي حكاية شارحة أخرى - من الشاوك - عن البقرة والكلب، موجزها أن البقرة خلقت في السماء، ووقعت على الأرض فتكسرت أسنانها، ولما رآها الكلب أغرق في الضحك حتى انفتق شدقاه وبلغا أذنيه، وظل على هذا الحال حتى اليوم.
فما من حيوان أو طائر أو نبات لم تصاحبه مجموعة حكايات تحدد أوصافه وأخص معالمه وتحيطه بتفسير عصور ما قبل العلم، كما هو واضح في هذه المجموعة من الحكايات العربية السامية بخاصة.
ذلك أن للعرب الساميين باعا ملحوظا في أنهم موطن ومصدر هذه الحكايات الحيوانية الطوطمية قبل الهنود الآريين والإغريق الهلينيين.
فالعبد الإغريقي، الذي يعد أهم وأقدم مصدر لهذه الحكايات الحيوانية «إيسوب»، الذي يرى البعض - ومنهم كراب - أنه كان رقيقا ساميا يشتغل بالكتابة، وجمع هذه المأثورات في إيونيا، ومن هنا وصلت هذه الحكايات من الشرق السامي، وأنها ارتحلت أيضا من الشرق السامي إلى الهند مع ما ارتحل إليها من ثقافة العراق وما بين النهرين.
وتحفل قصص الخلق الأولى والطوفان البابلي والعبري بمثل هذه الحكايات، منها حكاية أشجار «يوثام» التي أولاها فريزر اهتماما خاصا.
كما تحفل الآداب الجاهلية والإسلامية بالآلاف المؤلفة من هذه الحكايات عند الجاحظ والدميري وغيرهما.
ثم لماذا نذهب بعيدا والمصدر الأكثر قدما من «إيسوب» ذاته، وهو «الحكيم لقمان»، الذي أوضحت حفائره أصوله البابلية؛ وبالتالي فهو أسبق من إيسوب بأكثر من خمسة عشر قرنا.
وسأورد هنا مجموعة مختصرة من هذه الحكايات النمطية الطوطمية لهذه الشخصية الخرافية السامية للحكيم لقمان، جمعها المستشرق ج. ديرينبورج، ونشرت بالفرنسية والعربية عام 1850:
أسد وإنسان اختلفا حول القوة والبأس، ورأيا على جدار رسما لإنسان يقتل أسدا، فقال الأسد: لو أن السباع مصورون لما قتل الأسد بني آدم، بل لقدر للأسد قتل بني آدم.
أسد وثوران اجتمعا عليه ينطحانه بقرونهما لكي لا يدخلاه بينهما، فانفرد بأحدهما وخدعه ووعده بأن لا يعارضهما إن تخلى عن صاحبه، فلما افترقا افترسهما جميعا. (ومعناه: إذا افترقت مدينتان تمكن العدو منهما وأهلكهما معا.)
أيل - يعني غزالا - عطش فأتى عين ماء ليشرب منها، نظر خياله في الماء من دقة قوائمه، لكنه ابتهج من قرونه وكبرهما، وحين خرج عليه الصيادون في السهل فلم يدركوه، لكنه حين دخل الجبال وعبر بين الشجرة لحقوه وقتلوه، فقال عند موته: «الويل لي أنا المسكين الذي ازدريت به، هو خلصني والذي رجوته أهلكني.»
مرض غزال وجاء أصحابه من الوحوش يزورونه ... يأكلون العشب والحشيش، ولما أفاق من مرضه والتمس شيئا ليأكله لم يجد، فهلك جوعا. (ومعناه: من كثر أهله وإخوانه، كثرت أحزانه.)
أسد اشتد عليه الحر فدخل في بعض المغائر يتظلل، أتاه جرذ ومشي فوق ظهره، فنظر الأسد وضحك منه، قال الأسد: ليس من الجرذ خوفي، وإنما كبر علي احتقاره لي. (ومعناه: الهوان على العاقل أشد من الموت.)
أسد وثور، الأسد احتال عليه وعزمه على وليمة، ذهب الثور فوجد حطبا كثيرا، ففر هاربا، وعندما سأله: لماذا هربت؟ قال: لأني رأيت أن الاستعداد لما هو أكبر. (ومعناه: لا يصدق العاقل عدوه.)
أسد شاخ وضعف وتمارض ورقد في المغاور، وكلما أتاه حيوان افترسه، ولما جاءه الثعلب يسلم عليه فقال له: لم لا تدخل يا أبا الحصين؟ أجاب: لأني رأيت آثار أقدام كثيرة دخلت ولم تخرج.
غزال هرب من الناس، فجاءه الأسد وافترسه داخل المغارة قائلا: وقعت في يد من هو أشد منهم. (ومعناه: من يفر من خوف يسير، يقع في بلاء عظيم.)
قال أرنب للبؤة متباهيا: أنا ألد كل سنة أولادا كثيرين. قالت اللبؤة: صدقت، غير أن واحدا ألده فهو سبع.
امرأة عندها فرخة تبيض لها بيضة فضة كل يوم، أكثرت علفها فانشقت حوصلتها.
وقفت بعوضة على قرن ثور، وحين قالت له: أثقلت عليك؟ أجابها الثور: لا يهم فنزولك مثل رحيلك.
إنسان ثقلت عليه أحماله، فرمى بها وطلب الموت، وحين جاءه وقال له: لماذا دعوتني؟ قال: دعوتك لترفع عني جرزة الحطب
1
عن كتفي.
قال البستاني: البقل البري يهب منظرا جميلا؛ لأنه تربية أمه، أما المخدوم فهو تربية امرأة أبيه.
إنسان يعبد صنما ويذبح له كل يوم ذبيحة، إلى أن أتى على جميع ما يملك، فقال له الصنم: «لا تنفق مالك علي، ثم تلومني آخر الأمر.»
إنسان رأى آخر أسود اللون يستحم في الماء، فقال له: لا تعكر الماء، فإنك لا تستطيع أن تصبح أبيض، ولن تقدر عليه أبد الدهر.
2
راع حمل على بهائمه كبشا وعنزا وخنزيرا، ثم استوقفه اضطراب وخوف الخنزير، فقال له: يا أشر الوحوش لماذا أنت وحدك الخائف؟ فأجاب الخنزير: لأنك سترحم كبشك لصوفه، وعنزك للبنه، أما أنا فلا صوف لي ولا لبن، وسأذبح فورا.
تسابق الأرنب والسلحفاة إلى أن تعب الأرنب فنام، فسبقت السلحفاة البطيئة.
رجل أسود يغتسل بالثلج ليصبح أبيض، فبادره آخر: لا تتعب نفسك.
اصطاد كلب أرنبا ومضى يعضه بقوة ليلحس دمعه، فبادره الأرنب: تعضني كأنك عدوي، وتقبلني كأنك صديقي.
إنسان رأى حيتين تقتتلان وجاءت ثالثة لتصلح بينهما، فقال: لولا أنك أشر منهما ما تدخلت بينهما.
لاحظ حداد أن أصوات المطارق لا توقظ كلبه من نومه، أما صوت المضغ فيوقظه على الفور.
الشمس والريح تخاصمتا حول من منهما يقدر أن يجرد الإنسان من ملابسه، وما إن اشتدت الريح حتى مضى الناس يلفون ملابسهم حول أجسادهم ، ولكن ما إن سطعت الشمس وارتفع الحر، حتى خلع الناس ثيابهم من الحر.
وقع خلاف أفضى إلى الحرب بين النسور والأرانب، وعندما لجأ الأرانب إلى طلب حلف مع الثعالب، رفضت الثعالب معتذرة لقوة عدوهم من النسور.
ولعلني أكتفي بهذه المجموعة من المأثورات والحكايات الحيوانية التي تنسب إلى لقمان الحكيم، الذي يرجعه البعض إلى أنه هو بذاته أحيقار السيرياني أو «هيكار» البابلي - 4 آلاف عام.
ففي مثل هذه الحكايات يبرز ذكاء العاجز بإزاء خصمه القوي، فالفأر عادة ما يحقق انتصاره على الأسد، والعصفور واسع الحيلة - أو الزعرور في الحكايات السورية - ينتصر في النهاية على الضبع، وعنزة العنزوية التي تأتي لأولادها الثلاثة بالحشائش مغنية، وعندما يتنكر الضبع ويقلدها مختطفا أولادها تستردهم في النهاية بمبارزة الضبع بقرونها الذهبية، كما أن العصفور أو الحجل ينجح في الإفلات من الثعلب المكار ليطير محلقا من بين مخالبه.
ولا بأس من التوقف هنيهة عند حكاية من هذا النوع، عن تعاليم ثلاث لعصفور ذكي، صادفتني تنويعاتها في عديد من حكايات البلدان العربية.
وشغلت هذه الحكايات كثيرا من الدارسين، فلها أنموذج مدون في «نماذج وأنماط الحكايات الفولكلورية»
The Types ، ونص آخر في قاموس الموتيفات تحت اسم «نصيحة الثعلب».
فتعاليم الطائر الثلاث حكايات بسيطة لدرجة أنه ليس لها سوى موتيفة روائية واحدة، وبهدف الاستشهاد فإن النموذج الواحد يكفي.
ولقد عثر على هذه الحكاية بالتحديد في عديد من أقدم المصادر المعروفة، وروعي في اختيار أنموذج دقيق لها، كما روعي المحافظة على أدق التفاصيل الأساسية للقصة، دون الأحداث الوصفية، أو المتنوعات الأخلاقية للحكاية والتي كثيرا ما يتوالى تكرارها بشكل يتملك الجسد الأساسي للحكاية ويحرفها، وخصوصا فيما يتصل بالحكايات الدينية بشكل عام.
والحكاية ترد على النحو التالي:
أمسك رجل بعندليب، فوعده العندليب بثلاث نصائح غالية إذا ما أطلق سراحه وتركه يطير في حرية، ولما وافق الرجل، قال العندليب في التو: «لا تجرب المستحيل، لا تتحسر على ما فات، لا تصدق حكاية بعيدة الاحتمال.» وهنا أطلق الرجل سراح الطائر، وبعد أن انطلق الطائر حرا، أراد أن يمتحن الرجل فقال له: «يا غبي، إنك لم تتعرف على الكنز الذي أضعته من يدك؛ لأن معي لؤلؤة كبيرة في حجم عين النسر.» وتملك الطمع الرجل، وحاول أن يمسك بالعندليب مستعينا بالباب، واعدا بأنه سيعيد إطلاق سراحه، فقال العندليب: «لقد عرفت الآن الكيفية التي استعملت بها نصائحي الثلاث، فأنا نصحتك بأن لا تيأس على ما فات، وها أنت الآن تقف متحسرا لإطلاق سراحي، ونصحتك بألا تقتحم المستحيل، وها أنت تحاول الإمساك بي برغم عجزك، ولقد أخبرتك بأن لا تعتقد فيما هو بعيد الاحتمال، لكنك صدقتني عندما قلت لك: إن بحوزتي لؤلؤة أضخم من كل جسدي.»
وتعيش هذه الحكاية الآن في مجموعات الحكايات الشعبية التي تحتوي على ما هو شفاهي منها، وما له مصادر أدبية، فلقد رواها شحاذ هندي، وأطفال إحدى قرى جزيرة سيلان، ودونت في كتاب «حكايات قرية سيلانية»، وقيل إن مؤثرات إيرانية تبدو فيها، ووجد ل «العصفور العاقل والرجل الغبي» سبعة أشكال في الفولكلور الألماني، وفي قاموس موتيفات الحكايات الشعبية وأنماطها لتومبسون، كما وجدت أشكال لها تحت اسم «التعاليم الثلاثة».
وعندما يستشهد بكل هذه المجموعة المتنوعة من هنا وهناك، يصبح الأمر عسيرا في تعقب الحكاية منذ مصدرها القديم الذي هو مولد البوذية، حتى أشكالها الحاضرة في مجموعات حكايات القرن العشرين الشعبية، وأقدم نص معروف دون باليونانية في بداية القرن السابع الميلادي، ويعتقد أن كاتبه هو
3 «جون الدمشقي»، ولقد وجدت هذه الحكاية متخللة جسد حكاية رومانسية هي «برلام ويوسف»، والنص في مصدره اليوناني يقرأ هكذا: «قصة شيقة ترجع إلى زمن المدينة المقدسة، من أقصى أراضي إثيوبيا التي تدعى الهند، وتحكي حياة برلام ويوسف الرجلين الشريفين الصالحين.» وهذه القصة الرومانسية الدينية تحكي عن ملك يحكم الهند، ويضطهد الرجال المخلصين ويعذبهم، وفي الترجمة المسيحية يظهر أن الشعب المضطهد هم المسيحيون، وعند مولد ابن الملك دعا الملك خمسة من حكمائه ليتنبئوا، فأفرح أربعة منهم قلب الملك بتنبؤاتهم عن الطفل، أما الخامس فقد تنبأ بأن الطفل سيكون مسيحيا (في التراجم المسيحية أن الطفل سيكون ناسكا دينيا)، وكانت النتيجة أن سجن الملك ابنه في قصر معزول. وتحكي القصة عن حياة الأمير ونموه داخل هذا القصر بمعزل عن كل العالم، وكانت أهم شخصية في حياته هي معلمه برلام، الذي أنفق من حياته ثلاثين سنة في التعبد في البرية، وبدأ برلام يعلمه أصول الدين والحكمة، وحكى له مرة عن الجهلة من عبدة الأوثان، قاصا عليه فيما مضى حكاية نصائح الطائر الثلاث، دون أن يكون للحكاية علاقة مباشرة بعبادة الأوثان، المهم أنه من خلال حكايات ونصائح وتعاليم الناسك الهندي برلام، وهب الأمير نفسه تماما لحياة التنسك متخليا عن قصره ومنبته الملكي. كما أن حكاية برلام ويوسف وجدت أيضا بكاملها في تعاليم بوذية ويعقوبية ومسيحية.
ولقد اعتقد «جون الدمشقي»
4
المصدر المدون للنصوص البرلامية المبكرة أنها ترجمات مسيحية لروحانيات رومانسية أكثر قدما، ألفها في الهند دعاة البوذية، أما الكاتب المفترض هنا فهو جون الدمشقي، وكان رجلا متعلما ليس فقط لمعرفته الواسعة باللغات وشئون الدين والفلسفة، ولكن أيضا بالنسبة للعلم، وتروي عنه حكايات كنتربري أنه كان دكتورا في الفيزياء.
والحكايات التي مصدرها الهند نقلها البوذيون إلى الصين والتبت وبقية الدول الشرقية، وأيضا إلى الغرب بعد رجوع الإسكندر من الهند، وخلال القرون أصبح لكتاب برلام شعبية واسعة في كلا الشرق والغرب، وترجم إلى الهندية والصينية والفارسية والعربية والعبرية وعديد من اللغات الشرقية، وصلت أكثر من 60 ترجمة، وفي كثير من الدول الأوروبية وخصوصا في القرون الوسطى، بدت ترجمات هذا الكتاب كما لو كانت تجري وقائعها في أوروبا ووجدت أصوله في عديد من المتاحف والمكتبات.
وتغيرت معالم الكتاب الهندي واختفت تماما مصادره البوذية إلى أن أعيد اكتشافه في القرن التاسع عشر، باكتشاف أن الأمير يوسف لم يكن سوى البوذا ذاته.
لكن خلال العصور لم يحاول أحد مشقة الوصول إلى من هو برلام ومن هو يوسف، وأين عاشا، واتخذت أسماؤهم صدى الأسماء العربية والعبرية، وربما كان موطنهما فلسطين أو الشرق الأدنى بشكل أعم، ووصل الأمر ببرلام ويوسف إلى حد أن اتخذهما الرومان الكاثوليك والكنيسة اليونانية كقديسين خلال أيام جريجوري الثالث عشر، وهكذا عوملا كقديسين واتخذا أماكنهما في «أجندة القديسين» للإخوة الدومينيكان في القرن الثالث عشر ، فاتسع انتشارها أكثر فأكثر، حتى وصلت إلى اللهجات الشعبية لكل الشعوب الأوروبية، ووصل بين سنتي 1475 حتى 1520 إلى تحقيق أقصى مدى ممكن من الانتشار حققه كتاب.
وفي العصور الوسطى استخدمت قصص هذا الكتاب الاستطرادية في كافة أغراض الخلق الأدبي في كتب القصص والأشعار والمسرح.
وكذلك ترد قصة «برلام ويوسف» في الأدب السرياني مدونة على النحو التالي: «قصة ابن الملك يوسف ومعلمه المسيحي برلام» وهو: أنه كان بأرض الهند ملك كبير يحب الدنيا ويعمل جاهدا لها، يكره الزهد ويحرق الزاهدين، فلما كان ذات يوم سأل عن رجل من خاصته، فقيل له إنه قد زهد في الدنيا؛ فعظم ذلك عليه وأرسل في طلبه، فلما مثل بين يديه أنكر عليه الملك هلاكه لنفسه ومفارقته لأهله، فأجابه الناسك بأن الدنيا إلى فناء، فحياتها موت، وغناها فقر، وفرحها حزن، وشبعها جوع، وصحتها سقم، وقوتها ضعف، وعزها ذل، ولذتها ألم.
واستمر الناسك على ذلك يصف الدنيا وأهلها وأحوالها في حديث طويل، ما إن انتهى منه حتى سأل الملك: هل يريد أن يصف له الآخرة؟ ولم يكن جواب الملك إلا أن جازاه بالشقاء والحرمان، وبطرده من مملكته.
ويدور الفلك ويرزق الملك بغلام بعد يأس من الخلف والإنجاب، ويجتمع المنجمون والعلماء ويبلغونه أن هذا المولود سيجيء بدين جديد. •••
فإذا ما كانت نقطة بدئنا هي الحكاية الحيوانية الطوطمية ضيقة الجزئيات، وأنموذجها الموفق في «تعاليم الطائر الثلاث»، بصرف النظر عما صاحبها من استطرادات، ولنقل: ما طرأ عليها من هجرات ومؤثرات بوذية، ثم مسيحية، وأخيرا سريانية.
ففي الإمكان الارتداد إلى نقطة منطلقنا عن حكايات الحيوان الشارحة، وتقديم أنموذج آخر منها، جمعت أحد نصوصه من مصر الوسطى عام 1954، وأقدمه هنا كنص شفهي للمحافظة على فويماته.
الديب والتمساح
ديب
5
متعود يزور تمساح كل يوم، ينط يركب على ضهره.
التمساح يعوم به على وش بركة قارون، ويلف به يفسحه في عموم البحور.
وليفة
6
التمساح زعلت وانقهرت ، وفي يوم زارتها واحدة ست عجوزة، وقالت لها: «زعلانة من إيه؟» قالت لها: «جوزي التمساح، مصاحب ديب، والديب كل يوم ييجي من على البر يزوره، وخلاص ما عدش راجلي التمساح سائل فيا وبيحبني.» «العجوزة» قالت لها: «اعملي عيانة،
7
وقوليلو إن الحكيم وصفلك قلب ديب.»
التمساح رجع البيت، وجدها عاملة عيانة، ولما سألها وقالت له إن دواها على قلب ديب، التمساح طمنها وقال لها: «الديب موجود وصاحبي، وحايجيني بكره الصبح البحر، وحاجيبلك قلبه.»
ولما الديب تاني يوم زار التمساح الصبح، وركب على ضهره زي عوايده، التمساح خده في وسط البحر وحكالو الحكاية، فقاللو الديب: لا مؤاخذة يا تمساح أنا سايب قلبي في البيت وماجبتوش معايا النهاردة، طلعني على البر، وأنا أروح أجيبلك قلبي من البيت وأرجع.
التمساح وصله للبر، والديب أول ما حط رجله على البر مات على روحه من الضحك، التمساح شافه قاللو: «بتضحك ليه؟» الديب قاللو: بضحك عليك؛
عليل ما دويت،
وصاحب ما بقيت.
ودونت هذه الحكاية الحيوانية للمرة الأولى بالعربية بألفية الكاتب العبرية اليهودي «ابن سيرا»، على النحو التالي:
ما إن خلق الله العالم حتى أمر ملاك الموت أن يلقي بمجموعة من الحيوانات من كل الأنواع في البحر؛ لكي يعيش كل حيوان مع ما يخالفه من حيوانات، وعندما جاء ملاك الموت للثعلب وجده يصرخ ويهلل على شاطئ البحر، وما إن سأله عن السبب، حتى قال إنه يبكي صديقه الذي ألقي به في البحر. اندهش ملاك الموت، وترك الثعلب يمضي.
لكن الديب الذي خبر لعبة الثعلب نجح أيضا في التهرب، وفي نهاية السنة بعد أن أحصى الحوت (ملك البحر) جميع الحيوانات افتقد الثعلب والديب، وأرسل الحوت رسله ليكتشف كيف هربا من مملكته، وعندما سمع بخبث الثعلب رغب في أن يلتهم قلبه لكي يزداد ذكاؤه وحيلته، وأرسل عديدا من الأسماك ليحضروا له الحيوان الماهر، وعندما وجد السمك الثعلب بجانب البحر، أخبروه أن الحوت قد مات، وأنه سينصب ملكا بدلا منه، فامتطى الثعلب ظهر إحدى الأسماك وحمل إلى داخل البحر، وفي داخل البحر ارتبك، فسأل الأسماك عن حقيقة ما يحدث، فقالت إحدى الأسماك إن الحوت حاقد على ما يتمتع به من دهاء، وإنه يرغب في التهام قلبه ليصبح أكثر دهاء منه، وهنا أجاب الثعلب بأنه كان من الواجب تذكيره مبكرا؛ لأن الثعالب عادة تترك قلوبها في منازلها قبل خروجها.
وهنا أعادته الأسماك إلى الشاطئ ليذهب ويحضر قلبه.
على الشاطئ سخر الثعلب من السمك الذي يعتقد بأن مخلوقا بدون قلب يمكن أن يعيش ... وفتك الحوت برسله الأغبياء فقتلهم والتهمهم.
ولقد عكف اثنان من كبار أساتذة الفولكلور - هما: د. موسى جاستر والبروفيسور لويس جنزبرج - على دراسة هذه القصة أو الفابيولا من ألفية ابن سيرا، وأرجع د. جاستر أن القصة متشابهة قليلا مع أخرى هي «قصة القرد والتمساح»، وأضاف أن نهايتها تشير إلى قصة أخرى هي «قصة الأسد الذي قتل حمارا، وألقى بجثته لثعلب، واستطاع الثعلب أن يتسلل ويسرق قلب الحمار ويأكله، موهما الأسد أن الحمار لا قلب له».
واتفق جنزبرج مع د. جاستر في أن أسطورة فابيولة ابن سيرا مزج بين ثلاث قصص متفرقة: حكاية الثعلب وملك الموت، وحكاية الثعلب والأسماك، وأخيرا حكاية الأسد وابن آوى والحمار؛ إذ إن حكاية الثعلب وملاك الموت لا رابط بينها وبين الثعلب والسمك، والأخيرة لا علاقة لها بحكاية هندية عن القرد والتمساح التي يمكن تتبعها في كليلة ودمنة.
القرد والسلحفاة البرية
فيعتقد الأستاذ جنزبرج أن للقصة أصلها في الحكايات الهندية والعربية أكثر احتمالا منه في الأدب اليهودي القديم، طالما أن المؤلف «ابن سيرا» كان يعرف الكثير من فابيولات الحيوانات التي لم تكن موجودة في الآداب اليهودية المبكرة. ويرى جينزبرج أن القصص الاستطرادية المتعرجة الأحداث جديدة تماما على الآداب المبكرة للفولكلور الأوروبي وفولكلور الشرق الأدنى، لكنها ترد في كليلة ودمنة تحت اسم «قصة القرد والسلحفاة البرية» متصلة مع الأسد وابن آوى والحمار، وقد يكون ابن سيرا قد جاء بهذه القصة من مصادر شفاهية، أما حكاية القرد والتمساح فلها مصادر شفاهية مستمرة، إلى جانب تاريخها المدون منذ حوالي ألفي سنة، وتنوعاتها الشفاهية تمتد من زانزبار حتى موسكو، ولها بعض الاختلافات في كوريا واليابان والفيليبين والملايو وأندونيسيا، كما أمكن التعرف على ثلاثة متنوعات للحكاية وجدت في الشرائع التي تنتمي أو تنسب إلى ال
Jataka ، وبها أشكال أقدم أغلب الوثائق والمدونات الفولكلورية؛ أي أغلب المجموعات القديمة التي تمتد الآن في آداب كل العالم.
وظهرت الجاتاكا التي يعتقد أنها ألفت (أو دونت) في شمال الهند قبل عصر الملك أسوكا الذي توج في 270 قبل الميلاد. وامتصت الجاتاكا أغلب الجسد الفولكلوري لهذه المناطق،
8
ومع انتشار البوذية خارج آسيا سرت الجاتاكا ومعها حكاية القرد والتمساح في
9
البنكاتانترا، وانتشرت في منطقتنا بين سنتي 200 بعد الميلاد و500 بعد الميلاد، ويبدو أنها تشكلت بشكل محتمل في شمال الهند أو جنوبها، وتحوي هذه المجموعة من التراث الفولكلوري أيضا قصة القرد والتمساح من أصل سنسكريتي لمترجمها، والتي منها جاء الأصل العربي لكليلة ودمنة، وفقدت ونقلوها إلى الغرب، وعرفت في أوروبا خلال القرون الوسطى، بالإضافة إلى الترجمة العربية عن البهلوية لابن المقفع.
ومن هنا وصلت كليلة ودمنة أوروبا في القرن الحادي عشر الميلادي، وقبيل بداية القرن السادس عشر ترجمت إلى اليونانية واللاتينية والإسبانية والإيطالية والألمانية والإنجليزية والسلافية القديمة والتشيكية، وأصبحت كليلة ودمنة في كل أوروبا أول كتاب شرقي يحظى باستقبال شعبي كبير. •••
وإذا ما اكتفينا بهذا القدر حول مصادر الحكايات الطوطمية - خاصة في كليلة ودمنة - وانتقلنا إلى مثل تطبيقي ثان، وليكن ما يتصل بقصص الخلق الحشرية الطوطمية، وهي أيضا ملمح جوهري من ملامح تراثنا العربي السامي؛ نجد أن الحكاية أو الفابيولا ترد بسيطة عفوية على النحو التالي:
فعندما أراد الإله الأسمى سينجابونجا أن يشكل مادة الأرض، أمر السلحفاة البرية أن تذهب وتحضر له بعض الطمي من أعماق المياه الفطرية، وغطست السلحفاة في أعماق المياه وأخذت الطمي ووضعته على ظهرها، وخلال صعودها ذاب الطمي بواسطة الماء وفشلت السلحفاة، ونفس القدر السيئ صادف الرسول الثاني «أبو جلمبو» أو الزعرور.
وأخيرا أمر الإله الأسمى دودة العلق
10
أن تحضر له الطمي، وغطست العلقة في أعماق المحيط وملأت بطنها من الطمي، ثم صعدت إلى سينجابونجا وطرشت الطمي من معدتها في يد الإله الذي شكل الأرض منه.
وهذه واحدة من أوسع أساطير الخلق المتصلة بموضوعنا عن الحكايات الطوطمية الحشرية، والمرتبطة بخلق الأرض عن طريق إرسال نصف رسول منفذ، يأمر فيطيع منفذا.
وهم غالبا ثلاثة طيور أو حيوانات - الثالثة ثابتة - يغوصون وسط مياه المحيط الصاخب لإحضار مادة خلق الإنسان والعالم، وفي بعض الحالات يهدف الإله أن يحضروا التربة من الأعماق، وغالبا ما يفشل الرسولان الأولان، والثالث فقط هو الذي ينجح في إحضار الطمي أو التربة التي عن طريقها ستشكل الأرض.
وفي عديد من قصص الخلق الطوطمية المتنوعة - من وسط وشمال آسيا - يحاول الشيطان إحضار الطمي من أعماق المحيطات، وغالبا ما يفشل مرتين أو ينجح في المرة إلى الحيوات والحيوان.
ونماذج أساطير خلق الأرض لها أشكالها المتنوعة عند عديد من القبائل الهندية القديمة، ووسط وشمال آسيا، وفي شمال أمريكا وغرب الهند الأمريكية.
ففي كينيا تعد قصصا شعبية، وهي أيضا قصص شعبية في أوروبا الشرقية ورومانيا وروسيا وإستونيا وفنلندا وكل مكان.
ونحن لا نقصد هنا طرح الأساطير المتنوعة حول منوعات هذه الأسطورة، أو حتى مجرد تتبع أصلها البعيد، ويكفي أن نلاحظ هنا أن كل الاحتمالات تشير إلى أن الأسطورة الأم منشؤها الهند، كما تؤكده أغلب المصادر الهندية، خاصة في البرجاباتي عند البراهمة، وفيها يتخذ الرسول هيئة الخنزير البري (الحلوف) أو السلحفاة، يغوص في مياه المحيط الفطرية ليحضر مادة الأرض من قاعه.
والغرض من هذا الاستطراد هو في جذب انتباه الفولكلوريين والدارسين لهذه الأسطورة، وللحقيقة العلمية التي ينفرد بها اليهود والعرب والفلاشا والأحباش، ومن جانب ثان لمدى الأهمية التي قد يجنيها باحث الفولكلور وجامعه من مجرد الاهتمام بالحكايات الطفولية لقصص الحيوان والزواحف والنبات الطوطمية.
وتجدر الملاحظة إلى أن المتنوعات السامية لهذه الأسطورة تنفرد باحتوائها على خلق الإنسان الأول - آدم أبو البشر - بعكس الفولكلور اللاسامي الذي تتوقف حدوده عند مجرد خلق الأرض، والأدوات الثلاث المشار إليها وهي: الطمي، الطين، التراب، والتي بحث عنها أنصاف الرسل الثلاثة الذين لا أهمية لاثنين منهما، والثالث فقط هو الذي نجح، والموتيفة الأخيرة شائعة في الأساطير السامية وغير السامية، وليس هناك خط فاصل بين الخلق الأصلي للأرض ومخلوقاتها بعد الطوفان أو فيما قبله.
وتصف أسطورة الخلق عند الشيروس والهنود أن الإله الأكبر «بهاجوان» تضايق من الرسولين الأولين اللذين أخفقا، وأمر الرسول الثالث بأن يحضر الطمي من أي مكان، فأحضره «جارو» من السماء، وليس من أعماق المحيط العميق القديم الفطرية.
وقصة الخلق في الفالاشا تبدأ على النحو التالي: فعندما أراد الله أن يخلق الإنسان، وأرسل رسله الثلاثة من الملائكة الثلاثة: «جبرمائيل، وبرنائيل، ثم ميكائيل.»
ويتشابه النموذج العام لأسطورة الخلق هذه مع واحدة من أهم أساطير الخلق الشعبية لدى مجتمعاتنا الإسلامية، ولها عديد من الأشكال في الآداب العربية الكلاسيكية، كما يوجد أيضا منها عديد من النصوص الشفاهية الحديثة مسجلة من فلسطين وتركيا، ويوجد أيضا أسطورة رومانية مشابهة للأسطورة الإسلامية.
وبشكل مجمل فإن الأسطورة اليهودية والإسلامية متشابهتان ومنحدرتان من أصل واحد، هو الأسطورة الفلاشية
11
برغم أن أسطورة الخلق الإسلامية تحتوي على بعض الاختلاف؛ إذ إنها - أي الإسلامية - تنسب إلى عزرائيل الذي شغل وظيفة ملاك الموت، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:
أمر الإله الملاك جبريل أن ينزل إلى الأرض ويحضر حفنة من التراب لكي يخلق منها آدم، وعندما سمع الشيطان إبليس عن مهمة جبريل؛ انطلق إلى الأرض، وتخفى في ثياب ناصح أو ناسك مقدس، وأخبر الأرض أن الله يريد تشكيل مخلوقات من ترابها بهدف أن يسودها على كافة مخلوقات الأرض قاطبة، قال إبليس: «لكني خائف؛ إذ إن هذه المخلوقات ستجدف ضد الله؛ لذا لا تسمحي له بأن يأخذ منك أي شيء.» وبناء عليه تصرفت الأرض، لكن عندما سمع جبريل برفض الأرض، عاد إلى الله بلا تراب، ونفس القدر صادف الملاك الثاني ميخائيل، لكن الرسول الثالث الملاك عزرائيل لم يعط اهتماما لبغي الأرض، مفضلا طاعة أمر الله وأحضر حفنة من مختلف الأتربة، ومن هذا التراب خلق آدم، لكن عندما عاد عزرائيل من رسالته كان مأخوذا، حتى إنه ظل بلا حركة ولا كلام أربعين عاما، وبعد أن سمع الله تقرير عزرائيل باركه كثيرا وكافأه بأن جعله ملاك الموت يقبض
12
أرواح كل المخلوقات.
وتكشف هذه الأسطورة عن كيف أن أداة خلق الإنسان هي نفسها أداة موته المتمثلة في ملاك الموت، وكيف أن دائرة المجيء والغياب نهائية، وأن الموت ضروري، وإلا ازدحمت الأرض بمخلوقاتها.
ولعديد من الفولكلوريين دراسات عن هذه الأسطورة، منهم من يضيف بأنه عندما علم عزرائيل بمهمته انخرط يبكي ويندب ويقول: «بين كل أبناء الإنسان، سيكون هناك أنبياء وقديسون سيمقتونني - بلا جدال - على ما فعلته.» فأجاب الإله: «سأرسل عديدا من المصائب والكوارث على الجنس البشري وسأشغلهم عن معاداتك.»
وتتشابه هذه الفكرة في الملحمة الهندوسية حيث ذكرت مرتين في المهابهارتا، فإلهة الموت خلقها الإله براهما بلا شفقة من أجل الأرض المزدحمة، واشتكت طويلا من أنها ستصبح ممقوتة مكروهة من الناس، فوعدها براهما بأن كل أنواع الكوارث والأوبئة ستجعل جميع المخلوقات ترحب بمجيئها وتستقبلها بكل ترحاب.
ويعتقد «م. وينتميرنيتز» أن لهذه الملحمة قيمة أثرية؛ إذ إن براهما يظهر فيها كالخالق ذاته.
وبالإضافة للأسطورة - التي يلعب فيها عزرائيل الدور الذي يلعبه «برنائيل» في الفلاشا - توجد حكاية أخرى يلعب فيها إبليس دور عزرائيل بشكل مدهش ملفت للأنظار، منتميا أكثر للأسطورة الفلاشية.
فعندما أرسل الله إبليس أخذ حفنة من الطمي من على ظهر الأرض من الخصب والمالح، والتي منها خلق الله آدم، من تلك الحفنة التي جلبها إبليس، وهذا هو سبب قول إبليس: «أأسجد لواحد خلقته من تراب، تلك الحفنة من التراب التي أحضرتها بنفسي؟»
ويجدر بنا الإشارة لما بين الأسطورة الإسلامية والأسطورة الفلاشية، مثل: عقاب برنائيل وتكريم الإله لعزرائيل، فمما لا شك فيه أن للأسطورة الفلاشية تأثيرا على أسطورتي الخلق عند المسلمين، وكذا الأبوكريفا اليهودية ومنابع الأرباب اليهود، على الأقل فيما يتصل بواقعة السقوط التي جاءت بها الأبوكريفا الإثيوبية.
وفي «كتاب إينوش» إذا ما تتبعنا فقط الالتقاء بين هذين المصدرين، كما تبين العالم «ليسلد»، نجد أن النقطة المهمة في هذا التوافق هي الإشارة إلى أرض دلمون، التي ذكرت مرارا في الأسطورة الفلاشية، ولم تكن خطأ مطبعيا في المصدر العربي، فهي نفسها أرض ديدال لكتاب إينوش الإثيوبي، التي ذكرت بوضوح وتعيين: «وقال الرب مرة أخرى لبرنائيل: كتف إدين ورجلين عزرائيل، وألق به في ظلام الهاوية، ثم اصنع انفتاحا في الصحراء التي هي ديدايل، وألق به هناك منبوذا وغطه بالصخور والأحجار.»
ويجمع دارسو الأساطير على أن عزرائيل هنا هو الملاك الساقط أو المطرود، والمصادر الأسطورية الهندوسية المغرقة في القدم (مختلف الإشارات في الفيدا) أكدت أن الأرض الجديدة المزهرة فجأة اغتصبت بواسطة الحية العظيمة: حية البحر العظيمة (المختصة بالنظام الشمسي)، وفي هذا أيضا تشابه مع الأسطورة البابلية للإله مردوك الذي تغلب على التنين البحري. •••
وفي أساطير أقدم، فإن الله خلق مجموعة من الملائكة وسألهم: «أليست هذه رغبتكم أن أخلق الإنسان على صورتي؟» غضبوا: «ما هو هذا الإنسان الذي أنت مشغول به؟» وصرفهم وأتى بالمجموعة الثانية. ففي هذه الأسطورة المبكرة نجد أن مجموعتي الملائكة: الأولى والثانية، عارضت خلق الإنسان، وهي تتفق في هذا مع الفلاشا والإسلام.
والمتنوعات كثيرة، ففي بعض أساطير الخلق الهندية الشائعة التي فكرتها الأساسية أن الإنسان شكل واتخذ هيئته وشكله من قذارة جسد الخالق.
ومن الإضافات المثيرة في أسطورة الخلق المندانية نجد أن روح الإنسان مسيرة خلال رحلتها عبر ممالك الكمال بواسطة برنائيل، أما في أساطير الخلق الآسيوية فإن المتملك لهذه المسيرة هو الشيطان ذاته وليس برنائيل.
وهناك قصة شعرية دينية أخذها اليهود من أصولها الإسلامية، وهي قصة الخلق المحفوظة التي موجزها: أنه عندما نزل جبريل كرسول من الله ليحضر التراب لخلق الإنسان، رفضته الأرض ودفعته بعيدا، فاعترض جبريل محتجا: «لماذا أيتها الأرض لا تسمعين لصوت الله؟» وأجابت الأرض: «إني موعودة مقضي علي باللعنة من الإنسان.»
أخيرا أردت من تقديم هذه الإلمامة المقارنة عن قصص الخلق - للعالم والإنسان - الطوطمية أو الحشرية للرسل الثلاثة، من سلحفاة برية لأبو جلمبو لدودة العلق، والتي انتهت في الرسل الثلاثة إلى إضفاء المزيد من الأهمية لحكايات الحيوان والطير والحشرات والهوام المصاحبة لطفولة الإنسان الأول، ومن هنا تجيء أهميتها القصوى.
كذلك أردت عبر هذه الإلمامة الموجزة المقارنة لقصص الخلق الأولى للإنسان وأرضه أو عالمه عن طريق الرسل الحشراتية، وأهمهم - عربيا وعبريا - هنا هو دودة العلق.
حقا ألا ما أقرب اليوم من أمس بأكثر من غد!
الفصل السابع
الحزور والألغاز في الحكايات العربية
من المتفق عليه أن الألغاز والحزور والأحجية، وبشكل عام تلك اللغة السحرية الأسطورية المضمنة التي نصادفها بكثرة مفرطة في ثنايا الحكايات الخرافية والشعبية بعامة؛ ملمح عالمي سحري عثر عليه بكثرة شديدة في فولكلور مختلف الشعوب، وهو ليس بقاصر على الحكايا الشعبية بقدر ما هو موجود في ثنايا السير والملاحم والبالاد الشعرية والشعر الفولكلوري عامة.
إلا أن من المتفق عليه أيضا هو تفرد الفولكلور العربي وإغراقه في هذه المستنقعات السحرية الملغزة منذ أقدم نصوصه - ملحمة جلجاميش - بما يمكن أن يشكل ملمحا محدد السمات والخصائص للتراث العربي من كلاسيكي وفولكلوري.
فما أكثر الحزور والألغاز ومباريات الذكاء والفصاحة في التراث العربي السامي، سواء منذ قصة أحيكار أو أهيكار السريانية ذات الجذور البابلية.
كما أنه ما أكثر هذه الملغزات في البرديات الفرعونية، والمأثورات الجاهلية، ثم الإسلامية فيما بعد، وانتهاء بحياتنا الآنية المعاشة وما يسودها من أحجية
1
وملغزات.
ولقد أولت المدرسة الفنلندية اهتماما ملحوظا لهذه الخصيصة الفولكلورية منذ روادها الأول، وأخصهم «إنتي آرني»، بما أسهم في بلورة منهجه الجغرافي التاريخي في دراسته للألغاز.
فاستوفى آرني معالم ومقومات هذا المنهج في بحثه عن حكايات ومأثورات الألغاز والأحجية، وما يعرف بالفوازير «وحزر فزر»، ويطلق عليه في بعض الأحيان ب «الحزر»، ويبدو أنه تعبير درج على استخدامه في معظم مجتمعاتنا العربية.
وتشير كلمة «حزر» إلى حظر بمعنى الممنوع والمحظور، والذي هو بذاته مرادف التابو، وهو - كما لاحظ آرني - سمة مشتركة في هذه الحكايات الأحجية أو المحجبة الغاصة بالتضمينات والعبارات: من شعرية لسجعية لتعاويذ غامضة، تشمل المواقف والأمكنة والأفعال المحرمة، كما يشمل نفس التحريم والحظر بالنسبة للنطق، وكذا التعامل مع ساعات النهار والليل وفصول السنة، وأيضا أطوار العمر المختلفة، خاصة ما يتصل بالأطفال الموعودين الذين يأتون الخوارق الملغزة، بل هي تصاحب مولدهم مع أشهر الحمل التسعة، ملازمة لنموهم المدهش كما حدث مع إبراهيم، ويوسف، وموسى، وسميراميس، والمسيح، وهكذا.
وإذا ما أخذنا أنموذجا لحكاية سورية، أشك في نمطيتها بقدر ما تبهرني موتيفاتها المفردة، والتي يتبدى فيها مدى حجم التابو أو المحرمات وانفراجه على طول الحكايات الشعبية بتقسيماتها المختلفة المتفق عليها ما بين حكايات فرفشة
Merrylales
وخرافات جان وحكايات طوطمية وألغاز أو أحجية يتحكم فيها التابو؛ مما دفعني إلى اعتباره - أي التابو - ملمحا جوهريا استراتيجيا أو منطلقا رئيسيا، على الأقل، فيما يتصل بفولكلورنا العربي؛ فأفردت له فصلا خاصا في كتابي «الفولكلور والأساطير العربية» (دار ابن خلدون، 1978، بيروت).
فالتابو هنا جزئية أو موتيف رئيسي مصاحب لحكايات الحزور والحكايات الملغزة التي يغلب عليها الذكاء الكوني، وكشف حجب المستقبل بل والماضي، واستجلاء أستاره وخباياه، والتطاول في إتيان أفعال معجزة، والقدرة اللامحدودة للفولكلور العربي في التصديات لتحديات التناقضات في كل من الذات والموضوع، أو الإنسان والطبيعة.
فإذا ما أخذنا حكاية سوريا العليا «قاتل التسعة والتسعين»، ومحورها طفل قدري موعود ما إن يولد حتى ينطق بالحكمة؛ ذلك أنه ينحدر - تجاوزا - من صلب أب قاتل لتسعة وتسعين نفسا، ومكتوب على جبينه أن يكمل مائة، لكن قومه قبضوا عليه وأحرقوه بالنار حتى أصبح جسده رمادا يتطاير في الهواء، ومرت فتاة هي أم هذا الطفل، وما إن ابتلعت لحسة من رماده، وتنفست هواءه حتى حملت منه، وكان أن وضعت هذا الغلام المتوقد الموعود الذي تكلم في المهد بالحكمة، إلى أن ذاع صيته ووصل إلى الملك فطلبه ليفسر له حلما رآه.
2
فطلب الطفل المعجزة من الملك - على
3
عادة النصوص الفارسية - أن يعطيه تاجه ساعة، ثم طلب أن يعطيه خنجرا.
وبدأ الملك يروي للطفل - بديل الملك - حلمه أو لغزه أو حزره قائلا: «رأيت السكين تأكل من الجبسة.»
4
وهنا طلب الغلام خادمة الملكة زوجة الملك، وطلب أن يرفع عنها ثيابها الداخلية فرفعوها، فإذا هي رجل ذكر ، وقام الغلام فطعن الخادم بخنجره، والتفت إلى الملك قائلا: امرأتك يا جلالة الملك هي الجبسة. ثم هتف: «أنا أبو التسعة والتسعين، والآن أكملت مائة نفس.»
وهي كما يتضح حكاية شديدة الثراء من حيث موضوعنا، تغري بالدراسة المتأنية، سواء من المنطلق الفرويدي لتشبيه الخادم المتنكر في ثياب امرأة بالسكين، وزوجة الملك الخائنة العاشقة بالبطيخة - الجبسة - الحمراء المكتملة النضوج، التي تشقها السكين أو عضو التذكير.
أو المنطلق القدري لقاتل التسعة والتسعين، المكتوب على جبينه والمقدر له أن يتم المائة، وحين يتحدى قومه قدره ومكتوبه بإحراقه وذر رماده في الهواء - كما هو مألوف مع الشخصية الشريرة في الوجدان العربي المعروفة ب «البين»، وأشلاء سيرته مع الملك معروف - يأتي ابنه سفاحا فيكمل قدره ومكتوبه بقتل المائة.
وكذا يمكن تناولها من منطلق الجارية التي تحمل دون أن يمسها بشر مثل مريم العذراء، ونعناعة في نص مصري مشابه، وفاطمة في حكاية سودانية، التي تكيد لها زوجة أخيها محمد وتسقيها بول البهائم، فتشرب وتحمل سفاحا دون أن يمسها بشر.
وفي حكاية سودانية ثانية - ود النمير - يطلب المنجم من الزوجة العاقر صحنا من عظام الموتى لتشربه زوجة ود النمير، لكن ما إن يقع المحظور ويشرب زوجها من المعلاق بدلا منها، حتى يحمل في وركه.
كذلك يمكن التعرض لجزئية قاتل التسعة والتسعين الموعود بأن يصل بضحاياه إلى المائة، حتى إنه في بعض النصوص؛ ملحمة النبوت، التي سأنشرها بكاملها في الجزء التالي المخصص للملاحم والسير العربية، يذهب قاتل التسعة والتسعين إلى المقابر ليزرع نبوته، فإذا اخضر في اليوم التالي اتخذ طريقه بعد الموت إلى الجنة، ولكن ما أن يفاجأ داخل المقبرة برجل إنسي شبق ينكح جثة لامرأة جميلة دفنت حديثا، فيقتله بنبوته مكملا المائة ويزرع نبوته ويفاجأ باخضراره؛ أي إن حسنة القتيل الأخير المائة ذهبت بسيئاته التسع والتسعين السابقة عليها.
كما يلاحظ بالطبع الجانب الوحشي أو الهمجي الدافع إلى القتل، سواء من المدخل السالب للقدرية والدهرية كملمح سامي، وبتحديد أكثر عربي إسلامي.
وتأكيدا لما سبق أن أوضحه المنهج الجغرافي التاريخي ، يمكن ملاحظة خاصية انقسام الجزئيات أو الموتيفات التي تشكل بنية حكاية قاتل التسعة والتسعين السورية هذه، إلى ما لا نهاية له من الجزئيات، فتناول رماد وعظام الموتى يسبب الحمل حتى ل «ود النمير» في وركه.
ويولد الطفل الموعود، كابن حرام، لينطق بالحكمة في المهد، بل هو يكمل قدر أبيه الذي هو الرماد المحترق الذي استنشقته الأم، فهو إذن - أي الرماد المحترق - في موقع الأب، والذي ما هو سوى قاتل
5
لتسع وتسعين نفسا.
وهكذا تتوالى الجزئيات مثل: رؤيا الملك، اللغز، الزوجة الخائنة، تنكر الخادم العشيق، بديل الملك، عدالة القتل، تمجيد القاتل، أو القاتل الصالح، ناهيك هنا عن المقولة الطبقية الاجتماعية للطفل بديل الملك والمغتال في ذات الآن، حفاظا على التاج والتسلط.
وفي إحدى الملاحم الشعرية الغنائية ينتهي به - أي قاتل التسعة والتسعين - المطاف إلى الجنة، وفي عديد من النصوص العربية الوعظية والتعليمية يتبادل مكانه كقاتل وشرير مع نقيضه الخير الصالح.
6
ولعله ملمح يشير إلى صراعي الخير والشر في الثنائية الفارسية والعربية - الإسلامية فيما بعد - مثل الرحلات العبورية، ومنها مصاحبة جلجاميش لخصمه ونقيضه أنكيدو، والخضر لموسى، والحكيم لقمان للإسكندر المقدوني، فكثيرا ما يتبدى الخضر لموسى كقاتل ومغتال صالح؛ فهو يغرق سفنا، ويهدم جدرانا، ويقتل طفلا، مجزيا أو منتقما للمحسن ومعاقبا المسيء بالقتل.
ويشير كراب بطريقة متعجلة إلى أن الأوروبيين أتيح لهم معرفة هذه الشخصية الأسطورية - الخضر - خلال فترة الحروب الصليبية.
وحتى لا نفقد خيط بدايتنا عن تحكم سلسلة من التابوات في الحكايات الخرافية الملغزة أو الحزور والمحظورات، وكيف أن أناسا أقل شأنا في مقدورهم حل هذه الألغاز والطلاسم والرؤى والكلمات والعبارات والتعاويذ والأشعار والأسجاع العويصة الملغزة والمحظورة لغيرهم.
وعادة ما تصاحب هذه الألغاز والحزور حكايات الحب والعشق والأشعار والمخاطر، سواء المصرية أو السودانية أو العربية،
7
فعادة ما يطرح الأب على ابنه البالغ لغزا يكافئه بالزواج إذا حله، كأن يطلب منه الزواج من فتاة «عرضها قد أو مثل طولها»، أو أنها تصون العرض والشرف، وقد يعطيه ذبيحة ويطالبه بردها أضعافها، وقد تساعد الفتاة طالب الزواج في حل اللغز الذي يعتمد على الذكاء والشطارة، كما قد يستغرق حل اللغز سنوات طويلة، وفي كثير من النصوص يتعرف البطل العريس على والد فتاته أولا الذي ينقل لها خبره، فترسل الابنة العروس له طعاما كغريب؛ بيض وتمر ولبن - كلغز - بعدد فصول السنة وأشهرها، أو ساعات النهار أو مواقيت اللقاء أو الإنجاب أو المساعدة في حلول الأحجية ومعضلات تعترض طريق البطل العريس.
كما قد تلجأ الحبيبة إلى تعريف حبيبها ببلدتها وعنوانها في لغز أو حزر. وفي حكاية سودانية تلقي الفتاة سرا لحبيبها بإبرة وليمونة وحجر، وأخيرا بعود ثقاب بعد أن نقرت على سنتها، فيفهم الحبيب أنها من بلدة سن: نار - أو سنار - وفي بيتها الحجري شجرة ليمون، وبجوار البيت حائك: رمز الإبرة.
وللبدو والقبائل العربية أصحاب الوبر باع طويل في طرح وحل هذه الألغاز والطلاسم والحزور، فلقد يذهب بطل الحدوتة يقطع المخاطر؛ لكي يسأل «عرب العربة» أو العرب العاربة إشارة إلى الفصاحة العربية، وعلاقة التسمية العربية بالإعراب اللغوي، وقد تتمثل هذه الفصاحة والذكاء في فتاة عربية، كما في هذه الحكاية السورية عن شاعر الملك الذي لفظ له بشطرة بيت: «لوح لي عائدي فقلت له» ومات.
وعندما سأل الملك فتاة عربية فصيحة، أكملت له:
لوح لي عائدي فقلت له: لا تزدني
أما علمت بأن النار بالتلويح تتقد
وغالبا ما يحل اللغز أو الحزر ابن أو ابنة فقيرة، مثل بنت
8
الحطاب التي طلب الملك من أبيها أن يأتيه عريانا ولابسا في ذات الوقت، فأشارت البنت على أبيها بأن يلف نفسه بشبكة صيد فنجا.
ويمكن الجزم بأن الاقتدار بحل مثل هذه الألغاز والحزور منوط على الدوام ببسطاء الناس من المضطهدين في مواجهة من يسومونهم الاضطهاد والقهر.
ومن اللائق هنا أن لا ننسى أقدم أشكالها المصاحبة لحل يوسف وهو سجين مضطهد لحلم خادمي فرعون، ثم فرعون ذاته، لحين الوصول إلى أقصى سلطة.
ثم جمرة وتمرة موسى - الطفل - في مواجهة فرعون، حين نتف له ذقنه، وكاد فرعون أن يفتك به، فتدخلت زوجة فرعون السيدة آسيا؛ بحجة أنه طفل لا يفرق الجمرة من التمرة، وحين جاءوا بالجمرة والتمرة فعلا ألهم موسى وأمسك بالجمرة بدلا من التمرة، ومن هنا ثقل لسانه: «رب إني ثقيل الفم واللسان.»
ولا تبعد الألغاز والحزور كثيرا عن الخوارق والمعجزات، بدءا من الأخوين، ولعنات موسى العشر للمصريين، وضربه البحر بعصاه، ومساس أشعة الشمس لقاعه مرة واحدة حتى إنها أصبحت لغزا شعريا:
وإن كنت فنان وصاحب فن قوم هاتلي
أمارة من أرض جت فيها الشمس مرة جات
وكذا بقية خوارق موسى مع قارون، حين أمر الأرض بابتلاع قصر قارون وثروته التي تسد عين الشمس وإطاعة الأرض لأمره، حين واجهه مشيرا: «يا أرض خديه.» فأغرقت الأرض قارون وقصره وضياعه.
وتعد المنوعات الأكثر قدما السومرية والبابلية لملحمة جلجاميش من أقدم النصوص المغرقة في هذه التضمينات والألغاز، خاصة خلال تجوال جلجاميش أو قلقاميش - كما تسميه العرب - في العالم السفلي؛ حيث ظل اثنتي عشرة ساعة مضاعفة يتجول دائما في الظلام، وقاوم النوم ستة أيام وسبع ليال، بحثا عن الخلود الذي يبدو أنه مرادف التيقظ.
حتى إذا ما وصل ذلك البطل السامي جلجاميش إلى كبير الآلهة «أو تونبشتم»، تعرض للكثير من الامتحانات، منها وضع سبعة أرغفة على رأسه، «وأن يعجن الرغيف السابع، ويشكل السادس، ويبلل الخامس، ويترك الرابع يختمر، ويحمر الثالث، ويشوي الثاني، ويعد الأول للأكل وهو على رأسه».
9
ويبدو أن طرح مثل هذه الألغاز والحزور - التي عادة ما يصادفها أبطال الحكايات الخرافية - كانت بمثابة حيلة لتعطيل البطل، لكن كثيرا ما يلجأ البطل ذاته إلى طرحها على ما يتهدده من مردة وعفاريت وجان وأعوان ليعجزهم.
وتكثر في حكاياتنا العربية جزئيات مقاومة النوم، بل يلاحظ أن كثيرا من حكايات الشطار المصرية والشامية، يلجأ فيها أصغر الشطار الثلاثة - الموعود بحل اللغز - إلى جرح نفسه ليظل معانيا صاحيا متيقظا.
وتحفل الحكايات الهندية بشكل خاص بالمضمون القائل بأن «من يعجز عن حل اللغز يفقد حياته». وفي حكاية هندية من هذا النوع يكون اللغز الذي يطرحه الملك على راغبي الزواج من ابنته الأميرة الجميلة؛ عبارة عن دميتين خشبيتين لهما نفس الشكل والحجم والإيقاع، والمطلوب التفريق بينهما، وحين يتقدم ولد فقير صبي خياط أو حائك، يفشل طويلا في حل لغز الدميتين المتشابهتين بالحجم الطبيعي إلى أقصى حد، إلى أن ينتبه في النهاية إلى أدوات مهنته، فيستخرج إبرتين يسقطهما في أذن إحدى الدميتين فتستخرجهما من فمها؛ أي إنها لا تحفظ السر وتصونه كوخز الإبر في أعماقها، لكن ما أن يسقط إبرتيه في أذن الدمية الثانية، فإنها تحتفظ بهما دون أن تلفظهما من فمها، بمعنى أنها تكتم السر، وأنها هي الدمية الفاضلة القادرة على الكتمان وحفظ السر.
وعلى هذا النحو اخترق صبي الحائك اللغز باستخدامه فقط لأدواته أو «كاره»؛ مهنته واستعداده.
وعادة ما يطرح اللغز أو الحزر في اجتماعات احتفالية جماهيرية أشبه بساحات المدن والقصور، من ذلك منازلة جلجاميش لخصمه أنكيدو أمام بيوت العرائس، والمقصود بها ساحات المعابد العشتروتية للبغايا المقدسات.
وفي نص «كنزرامبسيت»
10
الذي جمعه هيرودوت من مصر، تطرح ابنة الملك - البغي - لغزها الممثل في أن تطلب من طلاب الاتصال الجنسي بها سماع أغرب وأعجب حكاية صادفها البطل في حياته، وينجح البطل اللص حين يخبرها بأنه حين اضطر لقطع رأس أخيه.
أما لغز فاطمة الجميلة في حكاية الخلخال السودانية، فهو إجادتها للعبة سودانية شعبية منقرضة تعرف ب «المانقلا»، تجرد طالب الاتصال بها من ثروته - وربما ثيابه - حين تهزمه.
والمرأة في الحكايات السورية واللبنانية والأردنية لها جانبها العشتروتي؛ حيث إنها تشترط على من يتزوجها «أن ينام معها أولا ليلة واحدة، فإن أدركه الصباح وهو حي قبلته زوجا».
فتكمن جدلية الحزر أو التابو في أنه محمل ببذور فنائه، طالما أن بطل الحكاية قادر في نهاية الأمر على الانتصار في اقتحام المخاطر والمحظورات، وإلحاق الهزائم بكل ما يعترض طريق رحلاته العبورية المتفائلة دوما، بل إن لمثل هذه الحكايات الملغزة نهاياتها السعيدة كملمح جوهري وأكيد ملازم للحكاية - أو الخرافة - الشعبية في كل شفاهيات العالم.
ومن هنا فالبطل في كل حالاته يقف في مواجهة المحظور بمعنى التابو، سواء أكانت أمكنة وعالم - الذوات - ما تحت الأرض، أو كانت الاقتتال مع الجان والشياطين والعفاريت والرياح والنداهات والسلعوات ووحوش الجبال، من ضباع لحيتان وثعابين وتنينات حيوانية وحشية خرافية مجنحة، أقرب إلى ما جاءت بها الحفائر والرسوم البابلية والآشورية، ولها أسماؤها الغريبة، مثل: الهايشة والهجين والمردة والأعوان، وسواء أكانت مطالب البطل ميسرة أو غير ممكنة «كأن يجدل حبلا من رمل الصحراء»، أو أشجارا وجنات تطرح في غير أوانها، أو مولودا يتكلم بالحكمة في المهد، والانتصار حليف البطل في نهاية الأمر.
فإذا كانت أقصى حالات التابو تتمثل في مجتمعاتنا الشرقية والعربية بخاصة بالنسبة للمرأة والجنس، فإن الحزر قادر على الدوام على إيلاجها.
وفي حكاية «لذة اللذة»
11
المصرية، يطرح الملك سؤاله على رجل بسيط عن «لذة اللذة»، وتقوم ابنته الصغيرة بتقديم الحل وإنقاذ أبيها من القتل قائلة للملك: «حكمك لرعيتك دي لذة، لكن نومك مع حريمك دي لذة اللذة.»
وعندما عرف منها الملك أنها ما تزال بنت بنوت صغيرة، حينئذ سألها كيف عرفت، فحدثته عن آلام ولادة أمها ومعاناتها، فعرفت أن الدافع لهذا العذاب لا بد وأن يكون هو لذة اللذة.
وتصل هذه الجزئية - اللغز - إلى أقصى انفتاحها في المصادر الهندية، فيذكر «بنفي» حكاية هندية، صادفها في الملحمة الهندية الشهيرة الماهابهارتا، عن ملك يتحول إلى امرأة حين ينزل ليستحم في نهر محدد - تابو - وهنا يتخلى عن عرشه عبر رحلة عبورية في غابة موحشة، وهناك يلد - بعد أن أصبح امرأة - أولادا جددا.
وحين يزوره الإله إندرا ليطرح عليه لغزه أو سؤاله عن «لذة اللذة»، وأي الوضعين يفضل: أن يتحول مرتدا إلى رجل، أم يظل امرأة؟ يجيب الملك المرأة بأنه يفضل أن يظل امرأة؛ «لأن المرأة أكثر استمتاعا بالحب - الجنس - من الرجل».
كذلك فكثيرا ما اعترت مثل هذه التحولات النوعية الجنسية الحكايات الهومرية الإغريقية، مثل الكاهن المتنبئ الخرافي تريزياس وهيرا حول هذا اللغز: «أيهما يجني لذة أكبر من الاتصال الجنسي: أهو الرجل أم المرأة؟» بل إن تريزياس نفسه - ذلك الكاهن الواقف على الدوام في صف التسلط - كثيرا ما تحول إلى امرأة، ونفس الشيء يجري حدوثه للآلهة في الكلاسيكيات الهندية.
وعادة ما تكشف حكايات الألغاز والحزور - أو التابوات - عن أصولها الطوطمية، بل هي قد تؤكد مأثورا أو حكمة شعبية عالية القيمة، وعلى درجة ملحوظة من حيث الذكاء والتبصر، سواء من جانب إنسان أو طائر أو حبيبة وزوجة وهكذا، في مواجهة قوى تسلطية لملوك وفراعنة ونماردة وأعوان، وملاك كبار شبعانين متسلطين.
من ذلك توقف الملك المتنكر على نجع عربي - أو بير - تقف عليه فتاة جميلة تملأ جرارها، وهي كما هو معروف خرافة دائمة التردد في الفولكلور السامي، سواء التاريخي أو المعاش، مثل لقاء يعقوب - إسرائيل - مع ابنتي خاله لابان بن ناحور الحوراني: ليئة وراحيل، وتكررت مع إسماعيل - أبو العرب العدنانيين القيسيين في الشمال - مع
12
زوجته الثانية. وكذا موسى مع ابنة شعيب في مدين أو سيناء.
فما إن يواجه ملك مثل هذه الخرافة، البنت - العربية أو البدوية - الجميلة، حتى يبادرها من فوره طارحا تساؤله هذا الطبقي الفلسفي: ليه يا بير عاليك مش زي واطيك، وواطيك مش زي عاليك؟
قالت البنت: «عاليها مش زي واطيها ... قلة بعل
13
يحميها.»
وهكذا سقته وتعارفا وأعطاها سبحته وتراسلا عن طريق هذا الحوار الملغز الشيق، إلى أن تزوجها الملك على زوجته الحضرية، وهنا تتبارى المرأتان في حلول سلسلة من الحزور والأقوال الملغزة، تنتهي بأن يهب الملك كلا من زوجتيه العربية
14
والحضرية نقودا متساوية، ويطلب منهما النزول إلى المدينة لصرفها، إلا أن الزوجة العربية تعود بنقودها - بمعنى أنها غير مسرفة - وزوجها يكفيها كلية، وتجيب الملك على سؤاله عن أحسن ما أعجبها في المدينة.
فتجيب: «عجبني دكان النجار والزيات والجزار؛ الزيات لأن كل ماعون ينضح بما فيه، والنجار لأن فيه خشب - لطزان
15 - كل ما يقدم في الأبواب والدواليب، يزداد جمالا وحلاوة، والجزار لأن كل واحد معلق من عرقوبه.»
16
وهي بالطبع مأثورات أو أمثال متداولة، إلا أن الملاحظة هنا مكانها تقديس الأخشاب.
وأيضا يمكن ملاحظة مدى الواقعية الصادمة للمأثور والشائع عن كيف أن كل إنسان في هذا العالم الطاحن معلق من عرقوبه كمثل ذبيحة، فجدلية هذا المأثور في مدى وحشيته الدامية إلى جانب فرديته وموقفه اللاقبلي - بل اللاأسري - مما يشير إلى حداثته.
فالحكايات العربية التي من هذه الفصيلة دورها الأخلاقي يتمثل في إرساء قيمة بعينها، مثل: الكرم العربي، وتقديس الخال، والإقلال من شأن المرأة.
من ذلك أن عربيا كلما طلب شيئا من زوجته، قال لها: «هاتي الشيء الفلاني يا بنت عادم الرأي.» وما إن اعترضت الزوجة حتى طرح عليها لغزه عن «أخف الخفيف، وأثمن الثمين، وأثقل الثقيل».
وتنجح الزوجة في حل اللغز بمساعدة ابنها، فأخف الخفيف هو حلول الضيف، وثقله على البخيل، وجلوسه في حجر مضيفه الكريم، وهي - كما أوضحنا - عادة أو تقليدة عربية ترد بكثرة عن جلوس الضيف على حجر مضيفه مبالغة في التكريم، بل وكثيرا ما يطلب الضيف - طفل أو غلام - مضيفه ليجلسه في ذات هذا الوضع الشاذ المثير لكل تساؤل، خاصة إذا ما لازمت هذه التقليدة - عن الكرم العربي - شخوص هذا التراث المقدسة من أنبياء وأولياء وكرماء، بدءا بموسى والخضر وحاتم الطائي الذي يرى فيه ديرلاين أنه «كان في الحقيقة شاعرا عربيا قديما، عاش في النصف الثاني من القرن السادس بعد الميلاد،
17
وهناك كتاب فارسي شعبي حور صورته إلى صورة يفوق هرقل وتسيوس الإغريقيين في أعمالهما البطولية.»
أما اللغز الثاني الذي طرحه الزوج على زوجته، فهو أثمن الثمين، وهو - كما تشير الحكاية - ماء البحر في شهر طوبة، وهو مأثور أو معتقد شعبي شائع مصري عربي، مرتبط بجزئيات البحث عن ماء الخلود وعودة الصبا، أو رجوع الشيخ إلى صباه والقوى الخارقة، لمن يقدر له أن يشرب من هذا الماء - التابو - في شهر طوبة
18
بالتحديد.
أما أثقل الثقيل فهو نزول الضيف على البخيل.
وتستطرد الحكاية في مباراة بين الأب وابنه بعد أن تعرفه الأب، ربما يشير إلى الاعتقاد في توارث حتى الذكاء والفصاحة؛ ذلك أن الأب يطلب من ابنه أن يرد ويباريه فينطلق الابن قائلا: «يابا ما يرد الحصان إلا اللجام والجمل الخزام، وما يرد بنت الرجال إلا رجالها.» أي أهلها وعائلتها أو قبيلتها أو بدنتها.
ويرجح أن مصر أعطت الكثير من الأنماط الأم للحكاية الخرافية ذات الإيقاع المتلاحق، والتي تداخلها جزئيات سحرية، وأخرى للصدق والكذب، من ذلك أن فرعونا أراد أن يغتصب زوجة جميلة لصياد فقير كان قد اصطادها كسمكة سرعان ما انقلبت إلى جنية أو عروسة بحر فاتنة، فأعجز زوجها بطلب طفل مولود منها للتو يسامره، وحين نجح البطل الشاطر وجاء بالطفل الذي اعتلى كرسي العرش في مواجهة الملك قائلا المثل:
19 «على الضيف والا صاحب البيت.»
أجاب الملك: على الضيف.
تنحنح الطفل قائلا: «أنا سني 60 سنة، لكن وأنا صغير أمي جابت كتكوتين، ضربتهم ماتوا كلهم ما عدا كتكوت، وقعت عليه نواية بلح، ومن حدف الطوب في النخلة أصبحت جزيرة حرتها وزرعتها سمسم، مر عليه جاري وقللي: يا جدع الأرض دي ما تزرعشي سمسم، فلميت السمسم من الأرض في الزكايب، وحاولت أربط الزكايب، زكيبة منهم زعلت وقالت: أنا ما اتربطشي عشان غايب مني سمسماية، دورت عليها، لقيتها في حافر الطور.»
وما أن يقاطع الملك الطفل ضائقا من كذبه، حتى يبادره الطفل موافقا وطالبا منه في ذات الوقت الموافقة على نية الملك في اختطاف زوجة الصياد الفقير الجميلة، وهنا طق الملك ومات. •••
ويمكن بالطبع التوصل إلى رصد شبه إحصائي لموتيفات الحذر أو المحاذير العربية التي يمكن أن تشكل ملمحا جوهريا لقنوات الفكر العربي الشعبي، أقرب إلى الإيجابية في مواجهة بقية الملامح الآسفة السالبة - الغيبية والدهرية والسلفية والقبلية - في تكاتفها السالب العامل - على الدوام - في صف السباحة المعاكسة والثورة المضادة، ذلك مع الأخذ في الاعتبار أن مثل هذا الرصد لإبداعات الذكاء وشحذ الذهن، والمغزى الذي تفيض به مثل هذه الحكايات الخرافية الملغزة في سخريتها من حياة البذخ والطراوة، من ذلك: الحراث الذي شاهده أحد الملوك يحرث أرضه سعيدا مستغرقا، وزوجاته الثلاث يقفن له على رأس الحقل بالأكل والماء البارد؛ لأنه يحسن معاملتهن وعشرتهن، ولا يحول بينهن وبين ما يردن.
20
وحراث آخر يعمل بأقصى عنفه دون منتبه لحنش الثعبان الذي علق بكعبه المشقق، وحين يختاره الملك ليعمل في حديقته تأخذه وتتملكه حياة القصور ونعيمها، لدرجة أنه يمرض عند أول دخول شوكة نبات صغيرة في أصبعه ويلازم الفراش.
وكذا - ولكي لا ننسى - حكايات الطرد من الفردوس عند أول اقتحام لشجرة المعرفة، وعند أول شكاية من الموت داخل المدن المسحورة والفاضلة واليوطوبية.
ومن الصعب التغافل عن تلك المنمنمات العربية التي جاءت بها الليالي للسندباد الحكيم، ولقمان، وهيكار الحكيم، أو أحيقار السرياني ذي الأصل البابلي، وحكايات داود وسليمان، وحكايات الشمامسة والزاهدين، والراهب الشحاذ، ثم نسوة بغداد، وحياة الحريم والبغاء المقدس، وذلك المزيج الخليط المشير إلى بداية تواجد الطبقة الوسطى الصغيرة من حرفيين وصنايعية؛ من فطاطرية، وحلوانية، وخبازين، وإسكافية، وخياطين، وصيادين، وصياغ مهرة، وبحارة، وحلاقين ثرثارين، وذوي عاهات جبارين، مثل الأحدب المحجب، وأطفال حكماء، ولصوص، وصيع، وأفاقين.
والقاسم المشترك لكل هذه الحكايات الملغزة هو أن القادر يعجز، بينما العاجز يقدر.
وهو كما يلاحظ نتيجة أو حد ثالث لجدلية تعلي من شأن الفقراء وبسطاء الناس، عبر صراعهم الأزلي المتفاقم دوما في مواجهة الطرف أو الحد الثاني للقوى السلطوية المتجبرة القادرة داخل المجتمع.
تنتهي دوما بانتصار البسطاء؛ الشعب.
الفصل الثامن
الأبطال اللصوص والشطار النزقين والمكارين
كنت متأففا قليلا وأنا أجمع هذا النص - اللص والملك - من مصدره الشفاهي بإحدى قرى الفيوم الصغيرة المجدبة، الواقعة قريبا من بحيرة قارون، إلى أن وقع نظري على مصدره المدون حين أورده «هيرودوت» في كتابه الثاني من كتبه التسعة، التي يحوي كل جزء منها إحدى عرائس العلوم والفنون من بنات «زيوس» التسع، التي تحدث فيهم أبو التاريخ عن الشرق القديم، مسميا كل جزء باسمه العام، كالأحاديث الليبية أو الروايات الآشورية، ثم حديثه عن مصر التي زارها حوالي عام 440ق.م، ودون فيها هذه الحكاية الشفاهية التي جمعتها عام 1963 مع ما جمعه ودونه من أحداث ومشاهدات ومواد فولكلورية وأسطورية، كما يشير بهذا في الفصل 99: «إن ما قلته حتى الآن هو نتيجة لمشاهداتي الخاصة وآرائي وأبحاثي الشخصية، وسأبدأ من الآن فصاعدا بقص الروايات المصرية طبقا لما سمعته.»
وهيرودوت مثله مثل كل المؤرخين والرحالة والمفكرين الذين سبقوه في المجيء إلى مصر والشرق القديم - سواء سبقوه في المجيء مثل: «هيكاتية الملطي»، وفيثاغورس، وأبقراط، وطاليس، ووسولون، وديموقريطس الأبدري، وكذلك ديودور الصقلي، واسترابون، وبلينوس، وأسطفانوس البيزنطي، وبلوتارخ، وأفلاطون، والمئات غيرهم - أصبحت كتاباتهم وملاحظاتهم مراجع أساسية لأغلب المعارف الإنسانية، سواء ما يتصل منها بالتاريخ والاجتماع، أو ما يتصل بالفولكلور والدراسات الإثنولوجية والأساطير المقارنة وعلم ما قبل التاريخ.
وبرغم أن أولئك المؤرخين والرحالة كانوا دائمي التشكيك في بعضهم البعض، ففي الوقت الذي شكك فيه هيرودوت فيمن سبقوه - مثل هكاتية الملطي الذي اتهمه بالجهل - اتهم بلوتارخ هيرودوت بأنه كان «صديقا للبرابرة»؛ وذلك لتغلغله داخل الحياة الشعبية في مصر، راصدا ومسجلا ما تقع عليه عيناه النفاذتان وبصيرته الفاحصة.
وفي تقديري أن العهد الذي قطعه هيرودوت على نفسه بعدم الغوص بكامله في قضايا اللاهوت والآلهة والأساطير المصرية، بعكس ما تم مثلا بالنسبة لغيره من المؤرخين والمفكرين الذين زاروا مصر، مثل: هكاتية وديودور الصقلي واسترابون وبشكل أخص بلوتارخ، فقد وجه طاقته إلى رصد مظاهر الحياة والمعتقدات، مثل: القصص والحكايات وطقوس وشعائر الميلاد والزواج والوفاة، وكذلك التقويم المصري القديم والجاليات والأقليات التي كانت تزدحم بها مصر في القرن الخامس قبل الميلاد، من فرس ويونانيين وفينقيين وفريجيين وأحباش وليبيين، وما يتبعهم من عادات وتقاليد ومظاهر معيشية يومية.
لذا راح هيرودوت يتحدث عن مهن «الفرازين» الذين يفرزون البهائم بتحسس ما تحت ذيولها. وعن «التابو» الذي حرم على المصريين عدم أكل رأس الحيوان - إذ إن الرأس مكمن كل خطيئة - والخنازير وطرق إخراج أحشاء الذبيحة بعد ذبحها، وتحريمهم ذبح إناث الأبقار؛ تقديسا لحيوان إيزيس المقدس، وتحريم التضحيات البشرية من الأطفال الذكور والبنات على خلاف عادات الآسيويين والساميين والإيجيين وحتى اليونانيين، وكذلك تحدث عن نجاسة الخنازير والكلاب، وتحريمهم دخول المعابد بعد الجماع دون اغتسال، «وسائر الشعوب - فيما عدا المصريين واليونانيين - يجامعون النساء في المعابد، ويدخلونها دون اغتسال»، ثم سبقهم عن الكيفية التي كان يتقي بها المصريون القدماء البعوض باستعمال «الناموسيات »، وسبقهم في اكتشاف «باسم أي إله يسمى كل شهر وكل يوم، وحظ من يولد في يوم كذا وكذا»، وكذلك اكتشافهم الأول لعلم «المساحة»، وكذلك تحدث عن الطبقات السبع التي كان يتكون منها المجتمع: طبقة الكهنة، وطبقة المحاربين، ورعاة البقر، ورعاة الخنزير، والتجار، والمترجمين، «والملاحين»، لكن كان أقسى صمته وفاء لما قطعه على نفسه بعدم الحديث عن لاهوت مصر، حين تحدث عن تلك «الاستعراضات التي كانت تقدم ليلا في هذه البحيرة المستديرة التي تمثل مصيره المحزن (يقصد أوزيريس) التي يسميها المصريون «أسرارا»، ومع أنني عليم بتفاصيل ما يدور بكل منها إلا أنني ألتزم الصمت بصددها.»
واحتفالات عيد قيامة الإله الممزق أوزيريس، وما يطابقه من آلهة الجوع والإخصاب على طول الشرق الأوسط: أدونيس تموز واتيس وديونسيوس زاجريوس» في جزر بحر إيجه، وديونسيوس عند الإغريق قائلا: «ويكاد يكون احتفال المصريين بعيد «ديونسيوس» - يعني أوزيريس - أن يشبه من جميع الوجوه احتفال اليونانيين به فيما عدا الرقص، وقد ابتكروا بدلا من المذاكير تماثيل، طول التمثال منها ذراع، يمكن تحريكها بواسطة خيط تطوف بها النساء القرى، وعضو التذكير بها متحرك ولا يقل كثيرا عن باقي الجسم، ويتقدم الموكب الزمار، تتبعه النساء اللاتي تتغنى بديونسيوس، أما عن السبب الذي من أجله كان عضو التذكير كبير الحجم، وكان يتحرك دون سائر أجزاء الجسم، فلذلك قصة مقدسة يروونها.»
ويصمت هيرودوت عن الخوض في سرد «القصة» التي هي وكما يقول عالمنا د. أحمد بدوي في شرحه وتعليقاته الموسوعية على كتاب هيرودوت: «إنها أسطورة إيزيس وأوزيريس، وتحريك العضو المذكور من التمثال دون سائر الأعضاء، فقد يكون المقصود منه الرمز إلى بعث «أزوريس» والعثور على العضو، ثم إلى عودة الحياة بين يدي النهر.»
وسلامة تفسير الدكتور أحمد بدوي صحيحة؛ لأن هيرودوت قدم إلى مصر في أيام الفيضان، ويؤيد فريزر هذا الرأي - في الجزء الرابع من المجلد الثاني في موسوعته الذهبية «الغصن الذهبي» البالغة أربعة عشر جزءا - بقوله في دراسته الرائدة عن الآلهة الفصلية، آلهة الزرع والاخضرار التي تموت وتصحو بجدب وقحط الماء والنبات، «والتي كانت منتشرة بكثرة في شرق البحر الأبيض المتوسط تحت اسم أوزيريس، تموز، أدونيس، واتيس وديونسيوس لشعوب مصر وغرب آسيا ».
وقبل أن نتوه في سرد تفاصيل هذه الجزئية عن هجرات التراث والأساطير، نعود إلى موضوعنا الأساسي وهو حادث عثوري - عرضا - على حدوتة شفاهية ذكرها هيرودوت بنصها في الفصل 121 من كتابه، ناسبا وقائعها إلى أحد ملوك مصر أسماه: «رامسينيوس»، يرجح د. أحمد بدوي أنه رمسيس الثالث 2100-1168ق.م، أول ملوك الأسرة العشرين، ويصف هيرودوت هذا الملك الذي هو موضوع الحكاية في بداية سرده لها بقوله:
وقالوا إن «رامبسينيتوس» قد امتلك من الفضة ثروة طائلة، لم يستطع ملك ممن خلفوه فيما بعد أن يقتني أكثر من هذه الثروة، أو أن يدانيه فيها.
ويعلق د. بدوي على هذا بقوله: «والشيء الذي لا شك فيه هو أن رمسيس الثالث كان ملكا غنيا واسع الغنى ... أعطى فأجزل عطاء لم نسمع بمثله في تاريخ الفراعين من أسلافه وخلفائه.»
وفي تقديري أن لشخصية ذلك الملك تأثيرا كبيرا لجانب من حواديتنا أو حكاياتنا الشعبية، ونظرا لأن هذه الحكاية التي قمت بتدوين نصها الشفاهي عام 1963، والتي دونها هيرودوت في القرن الخامس، على اعتبار أنها وقعت لذلك الملك - رمسيس الثالث - الذي حكم مصر لمدة 32 عاما في القرن الثاني عشر ق.م، يصبح عمر هذه الحدوتة حوالي 32 قرنا من الزمان. ونظرا لأنها حكاية يمكن تصنيفها تحت ما يعرف في الحكايات الشعبية باسم حكايات «المكارين» أو «الشطار»، وهي حكايات شائعة في فولكلور كل العالم، فكثيرا ما كانت تصادفني «موتيفاتها» أو بعض أفكارها الرئيسية التي تتصل بنمطها العام الثابت، مهاجرة تائهة من حكاية لأخرى في حواديتنا المصرية.
والحكاية المدونة عند هيرودوت يمكن تلخيصها في أن بناء خزنة الملك، التي «تمتد إحدى حوائطها إلى الجدار الخارجي من القصر»، صنع حيلة في بنائها، وأطلع ولديه عليها قبل أن يموت؛ «حرصا منه في أن يعيشا في رخاء»، وبعد أن مات وتناوب الولدان سرقتها، إلى أن اكتشف الملك النقص في خزائنه ونصب فخا أطبق على أحدهما مما اضطر الثاني لأن يقطع رأس أخيه؛ مخافة أن ينكشف أمره هو أيضا، ودخل بها على أمه يحمل رأس أخيه، وتتوالى الحكاية بعد ذلك لتكشف عن مكر ودهاء وألاعيب كل من الملك واللص، تنتهي بانتصار اللص على الملك، وإقرار الملك بذكائه وبراعته وكان أن زوجه ابنته.
أما حكايتنا الشفاهية فإنها تستبدل بالأخين اللصين ولد وخاله شقيق أمه، فبدلا من أن يقطع لص هيرودوت «الشاطر» رأس أخيه، يقطع «حرامي» - اليوم - النص الشفاهي رأس خاله.
فالاختلافات ضنينة بين النصين، وكان لا بد من حدوثها؛ نظرا لبعد الفاصل الزمني بين النص الشفاهي ومصدره المدون، بالإضافة إلى الزمن الذي وقعت فيه الحكاية، وهو ما يفصلها عن نص اليوم الشفاهي 3200 سنة كما ذكرنا.
وهنا لا بد من مهلة بسيطة لتوضيح بعض الملاحظات، أهمها: الاعتذار عن الاستطراد السالف عن هيرودوت وغوصه في حياتنا الشعبية، بما أوصله منذ 25 قرنا إلى تدوين هذا النص الحي المتواتر إلى أيامنا، وكأنه جامع فولكلور يقظ يعرف ويدرك - بصائب فكره المستقبلي - أهمية النص الشفهي الجماعي الفولكلوري، الذي سنتبين مدى صداه، وتلك هي أهمية الجمع الميداني للنصوص الشعبية.
فالحكاية التي دونها هيرودوت مع ما دونه من تأريخيات ومظاهر حياة في رحلته القصيرة التي لا تتعدى أربعة أشهر، طاف فيها أقاليم مصر، ومنها إقليم الفيوم أو الإقليم الأرسنويتي، وتحدث عن معبوده المحلي الإله التمساح سبك، كما زار قصر اللابيرنت
1
أو التيه، ووصف بحيرة قارون وبحر يوسف.
إلا أنه لم يذكر موطن جمعه لهذه الحكاية التي نحن بصددها، والتي صادفني نصها الشفهي فجمعته من الفيوم عام 1963، وظلت تشغلني إلى حد كبير مؤرق، لكن الملفت أن الاختلافات بين بعض موتيفات النص المدون القديم ونصها الشفاهي المعاش على أيامنا؛ تجيء طبيعية شبه متفق عليها، وبعضها الآخر خاضع لهجرات داخلية داخل نمط أو نموذج الحكاية الواحدة.
كما أن بعضها الثالث دخيل على كلا النصين من الخارج؛ نتيجة للاحتكاكات المتوالية التي تعتري التراث وتحدثها الاتصالات والتبادلات البشرية من قرية لأخرى، ومن قطر لآخر، بالنسبة للحكايات الشعبية والفولكلور بشكل عام .
ويتمثل هذا الاختلاف الدخيل الثالث بشكل واضح في الخدعة الأخيرة التي اتبعها الملك مع اللص للإيقاع به، وهي إقدامه على وضع ابنته في «ماخور، وأمرها أن تستقبل جميع من يفدون إليها على السواء»، على أن يفوز بمضاجعتها الزائر الذي يحكي لها «أبرع وأخبث ما فعل في حياته».
فهذه الجزئية قد تكون دخيلة على النصين، سواء أكان مصدرها الهلينيين من يونانيين وإيجيين الذين استقى هيرودوت منهم معلوماته، أو التراجمة من المصريين والذين كانوا يقيمون بكثرة في مصر، جاء بهم قمبيز الفارسي إليها قبل مجيء هيرودوت بأقل من قرن.
ويقول هيرودوت في هذا إنه عندما جهز قمبيز حملة على مصر، «أخذ من شعوب مملكته اليونانيين الذين كانوا تحت إمرته».
ونفس هذه الفكرة عاد هيرودوت ونسبها إلى الملك خوفو: «ولقد بلغ كيوبس - فيما يقولون - أحط درجات الرذيلة، حتى إنه - لحاجته إلى المال - وضع ابنته هو في ماخور وأمرها أن تحصل على مبلغ معين لم يذكروا إلى مقداره.»
وليس الهدف من استقصاء هذه الفكرة أو الجزئية هو الدفاع الخلقي عن مصر القديمة وملوكها، بقدر ما تكمن الرغبة في طرح المقارنة بين الفكرتين أو الخدعتين، فالنص الشفاهي الذي جمعته يستبدل فكرة وضع الملك لابنته في ماخور بإطلاقه لسبعه شاهر الذراع الذي يعرف مكان الجثث، «والملك افتكر، بعث جاب السبع، والسبع رفع شفتورة فوق وشفتورة تحت، وضرب بكفه راح على سراية محمد الحرامي، الذي عاجله بضربة واحدة وأغلق عليه الباب، فالسبع مات، ما داش منطق». والضربة الواحدة القاتلة التي لا تتكرر، ضربة الرجال ما تتناش، هي تضمينة أسطورية، تصادفنا كثيرا في سير الأبطال وملاحمهم، وكذلك الحكايات الشعبية.
ففي تقديري أن كلتا الفكرتين دخيلة على الحكاية الشعبية، سواء استعانة الملك في نص هيرودوت المدون بابنته ووضعها في ماخور؛ لمعرفة سر اللص، أو بديلتها في النص الشفاهي، وهي استعانة الملك بالسبع أو الأسد الذي «يضرب بكفه» ويعرف مكان الجثث والصفات التي يضيفها النص الشفهي على هذا السبع أو الأسد، ومنها أنه «يضرب بكفه»، تقودنا إلى أنه ليس أسدا بقدر ما هو إله، إنه
2 «الأسد ثابت الذراع»، الذي ما تزال تطالعنا وحداته الزخرفية كأهم وحدة تشكيلية شعبية، سواء في التصوير الحائطي الشعبي أو الوشم حين يوشمه الرجال على صدورهم وسواعدهم، والأسد ثابت الذراع أحد ألقاب الآلهة الشمسيين، مثل: ديونسيوس عند اليونانيين، و«ليولياو» بطل الأسطورة الرومانسية
3
الأيرلندية، والذي يتطابق مع إله الشمس الآشوري تموز، وبقية الآلهة الشمسيين، مثل: جلجاميش في الملحمة البابلية الآشورية، وشمشون إله الشمس الفلسطيني الذي استعارته الأساطير الدينية العبرية، واتخذ في النهاية طابع الأبطال الأسطوريين الإسرائيليين في فترة حكم القضاء، وكذلك هرقل في الأساطير البريطانية القديمة.
ومن اسم هذا الإله الأسد
Lion
اشتقت أسماء الكثير من المدن الأوروبية مثل: «لاون، وليون، وليدن»، وليونس ... إلخ.
وربما كان أصل هذا الإله أنه كان إلها سومريا، توارثه البابليون والآشوريون منذ الألف الثالثة قبل الميلاد، وتنسب إليه الأساطير الأيرلندية والإنجليزية أنه «أول من استعمل الحصان في المعارك الحربية».
ويخيل إلي أن كلا «الموتيفين» أو الجزئيتين - سواء وضع الملك لابنته في ماخور لمعرفة سر اللص عند هيرودوت، واستعانته بالأسد لمعرفة السر في النص الشفاهي - يكمل كلا منهما الآخر، وبمعنى آخر: إنهما كانا في الأصل تضمينة أسطورية مترابطة.
فالتداخلات والتغيرات بين الأسطورة والحكاية الشعبية أو الحكايات الشعائرية دائم الاستمرار، وبعض الحكايات الشعبية - كما لاحظ الأخوان جريم
4 - ما هي إلا أساطير ممزقة، أو «بقايا أساطير»، وكثير من الأساطير انتفعت بموتيفاتها الحكايات الشعبية الشائعة ورفعتها إلى عوالمها الفوقية في تأليهها للوقائع البشرية.
ويرى «سير ج. ل. جوم» أنه «عندما أصبح الشطار والمكارون بشريين - بدلا من كونهم في أصل مقدسين - وعندما أصبح البطل إنسانا - بدلا من كونه إلها - أصبحت الأسطورة أحدوثة».
لذا فإن المطابقة بين الجزئيتين الموتيفين - رغم الفاصل الزمني بينهما - يحيلنا إلى خصيصة شبهة موحدة تتسم بها كل الآلهة الشمسيين، أولئك الذين تطاردهم نساء أو إلهات ليتعرفن أسرارهم، وبعد ذلك يفتكن بهم، مثل: «إناث» في الأساطير السومرية
5
اللاسامية ومطاردتها للإله البطل «إنليل» أو «ليل»، وهي الأساطير التي توارثها بعد ذلك الساميون، ومنها أسطورة الإلهة البغي «عشتروت» التي كانت تحيل عشاقها عقب مضاجعتهم إلى حيوانات، والتي خدعت البطل الأسطوري جلجاميش في ملحمته الشهيرة، وخداع دليلة لشمشون لمعرفة سر قوته، وكانت النتيجة أن استجاب لإلحاحها المتكرر عندما «تاقت نفسه إلى الموت» كما يقول النص المدون في سفر قضاة، فأصبح ألعوبة في يدها على الرغم من تعارض تصرفه هذا مع المسار الاجتماعي القبلي الذي أباح لدليلة انتزاعه لقبيلتها الفلسطينية بما يتعارض قبائليا، حيث العادة أن تنتقل الزوجة إلى قبيلة الرجل ولو بزواج المضاجعة، وليس العكس.
واسم شمشون معناه ابن إله، و«دان» هو اسم قبيلته «اشتقاق من إله الشمس الآشوري شماش».
وإذا ما عدنا إلى حكايتنا الشفاهية لوجدنا أن قتل الشاطر محمد للأسد بضربة واحدة من سيفه، وطبخ لحمه - وربما أكله كما بدا في حديثه مع جاسوس الملك - ثم مطاردة ابنة الملك له لمعرفة السر، أمكن لنا في النهاية مطابقة هذه الأفعال مع كل من الإلهين الشمسيين: شمشون وهرقل، فكلاهما قتل الأسد، وكلاهما طاردته امرأة لمعرفة سره: دليلة مع شمشون، و«ديانييرا» نحو هرقل في الأسطورة الكلاسيكية وكل متنوعاتها ومشتقاتها في الغرب.
ويلاحظ أن هذه الحكاية النمطية شغلت عديدا من الدارسين؛ نظرا لأنها هي ذاتها الحكاية التي أصبحت فيما بعد قصة دونت في القرون الوسطى باسم علي الزيبق،
6
وكان لعالم الساميات نولدكه سبق التوصل إلى أنها هي بذاتها حكاية رامبسينيت التي جمعها هيرودوت.
وأوضحت د. سهير القلماوي أن بعض متنوعاتها وأشكالها دخيلة على ألف ليلة وليلة.
أخيرا فإن احتفاء حكايات مختلف الشعوب بحيل اللصوص الفقراء الذين يدوخون الملوك والحكام، كتلك التي عثر عليها منذ القرن الرابع عشر في إيطاليا وقبرص وسيبيريا، كما عثر على أقدم أنماط في الكلاسيكيات الهندية.
ويلاحظ أن حكايات اللصوص والمكارين والخطافين تكثر وتزدهر في أواخر كل أحقاب حضارية، «حين تسرع تلك الحضارة إلى الأفول»، ويؤكد هذا الرأي ما ذكره هيرودوت ذاته من أن حكايته وقعت في مصر أثناء الدولة الوسطى؛ أي خلال الفترة التاريخية المتقلبة التي اضمحلت فيها الدولة القديمة المركزية.
كذلك يلاحظ أن حكايات اللصوص والحرامية والأفاقين تشكل الجانب الأوضح في ألف ليلة وليلة، ويرجعها شبنجلر إلى حضارة السحر، حين كان حلفاء بغداد والقاهرة يحثون الخطى نحو انحلال دولتهم.
وتوجد آلاف مؤلفة من مثل هذه الحكايات في فولكلور شعوب البحر الأبيض بعامة، ومصر بخاصة، وسأورد هنا مجموعة نماذج لمثل هذه الحكايات المتصلة باللصوص والمكارين وأخلاقياتهم ونزقهم وطرائفهم في النصوص الشفهية التي قمت بجمعها على مدى سنوات طويلة، ويرد نشرها في هذا الكتاب.
الفصل التاسع
تحولات أبطال الحكايات الخرافية وسخطهم إلى حيوانات
أما فيما يتصل بتحولات أبطال الحكايات إلى حيوانات وطيور وهوام في معظم الحكايات الخرافية عن طريق السحر والتنجيم، فأهم الأمثلة هنا أوديت وفتياتها الفاتنات في «بحيرة البجع» التي أقام عليها تشايكوفسكي البالية الشهير.
ثم الهرة الجميلة التي تجمع الفاكهة والزهور من حديقة الأمير بالنهار، وما إن تخلع ملابسها لتستحم في بحيرة البستان ليلا، حتى تصبح فتاة جميلة في إحدى الحكايات السورية.
وتعرف هذه الخاصية المترددة بكثرة في خرافاتنا العربية - خاصة السحرية - بالسخط أو المساخيط، وهي مقدرة التحولات لشخوص الحكايات إلى حيوانات، وبالطبع فهي خاصية ليست بقاصرة على تراثنا الفولكلوري العربي، بل هي ملازمة للسحر كملمح عالمي، أو هو قاسم مشترك لموروثات العوالم القديمة في عمومها، أقدمها بالطبع الأنماط البردية المصرية.
وتتبدى هذه الجزئية أكثر استغراقا في القدرية في إحدى الحكايات السودانية من كردفان، حين يطلب الملك من أبنائه الثلاثة أن يغرز كل منهم رمحه أمام باب الفتاة التي يبغي الزواج بها، وهنا يلقي الابن الأصغر برمحه في الخلاء؛ لينغرز في جذع إحدى الأشجار التي تجلس على قمتها قردة، يعرف أنها قدره ونصيبه فيتزوجها، وليلة العرس تصبح فتاة جميلة جدا لدرجة أن الأب ذاته عشقها وقرر أن يقتل ابنه لكي يستحوذ عليها.
ولعلنا نتذكر حكاية «القرد الكاتب» في الليالي التي تزخر بهذه النماذج المتناسخة والمسحورة والمتحولة.
وتزخر الحكايات السورية واللبنانية والمصرية بهذه التحولات مثل: «الكلبان المسحوران»، والأسماك التي تتحول بمجرد اصطيادها إلى زوجات جميلات يحققن رغبات أزواجهن من الكادحين، ما بين صيادين، ورعاة بهائم، وأناس أو أبطال، لا تخبرنا حكاياتهم عن أعمالهم - ولنقل: أشغالهم وكارهم - لكنهم عادة ما يصمدون أمام محكات امتحان زوجاتهن من غير الإنس لهم.
أما الزوجات فكما هو متفق عليه يملكن قدرات على التحولات لعجائز وبنات بنوت وطيور وأسماك وحيات تسعى وجمادات أو أشياء.
وملاحظتي بعامة أنها في معظم حالاتها حكايات مسمومة من حيث غاياتها الوعظية الاجتماعية أو الطبقية، التي عادة ما تتفق عند مقولة: «إن من يشبع ينطح.»
1
ففي كل النصوص المصرية التي توصلت إلى جمعها، عادة ما يكون بطل الحكاية فقيرا معدما لا يمتلك أبعد من طاقة عمله «على دراعه»، وما إن يرمي بشبكته في البحر أو يضرب بفأسه وجه الأرض حتى يعثر في ثالث ضرباته على شيء ثقيل قد تكون سمكة أو قطعة خشب أو حجرا، وما إن يحملها مستاء ملقيا بها في منزله حتى تتبدى فتاة جميلة شهية تبدأ في مساومته، والاتفاق معه على الاقتران والزواج، أو العشق والمخاواة، مع ملاحظة أن هذا النمط وما يصاحبه من حكايات وخزعبلات - وهو مخاواة الإنسي البشري لجنية من تحت الأرض، خاصة بالنسبة للعزاب - هو نموذج شائع على طول ريف مصر حتى أيامنا هذه، وكذا معظم مجتمعاتنا العربية، ينتشر خاصة بين الدراويش ومجتمعات الفلاحين والرعاة والحرفيين ومعظم خدم المساجد والأضرحة، بل وحتى صغار الموظفين من مدرسين وكتبة.
وما إن يقترنا الإنسي والجنية - وكذا يتحول البطل من الفقر والعوز إلى الثراء والعز والرغد - حتى تبدأ هي - الجنية - تضع امتحانها العسير، الذي عادة ما يتعثر فيه البطل المتبدل
2
والمتحول بدوره، من حيث كان من طبقة إلى أخرى، وهكذا تلفظه الجنية في نهاية الحكاية الخرافية، أو هو يصحو من إغفاءته ليجد نفسه حيث كان فقيرا معدما نهبا للندم؛ حيث إنه لم يصن النعمة، ويفتقد إلى الوفاء؛
3
نتيجة لما صعد إليه من غنى وجاه.
بل كثيرا ما تعرج بعض التنويعات عن نمط الحكاية الخرافية - التي على هذا النحو - إلى الاستطراد الشديد المستهدف تأكيد جزئيات المقولة الاجتماعية المفضية إلى الوصول بالمأثور إلى أقصى مداه الوعظي التعليمي الطبقي.
فقد يلتقي بطل الحكاية الكادح - منذ خروجه مبكرا إلى عمله اليومي - براع خرافي يرعى بهائمه في مكان صحراوي مجدب، بينما الزرع والكلأ يملأ الأرض من حوله، فيتوقف سائلا: لماذا ترعى في الجدب، وها هي المراعي والزرع الأخضر؟
وفي البداية ينهره الراعي الحكيم مرات، إلى أن يفضي إليه بأحد أوجه ذات المأثور أو النصيحة المقدسة قائلا بأن: «من يشبع ينطح.» بمعنى أنه يتعمد أن لا يشبع غنمه أو مواشيه؛ حتى لا تخرج طبعا عن طاعته.
ولعلها بالطبع نفس التنويعة للمأثور العربي المعروف عن «جوع كلبك يتبعك».
كما يلاحظ أن ذات المأثور قد يواصل سريانه وتطابقه مع كل ممارسات التربية والحكم، ومع المرأة بإزاء الرجل، عن قص جناح المرأة أو الزوجة أو العشيقة للرجل أولا بأول من جانب مقابل.
وعادة ما يصل التجانس إلى حد التطابق بين الحكايات المصرية السودانية بالنسبة لهذا النمط من الحكايات التي جوهرها التحولات، من سحرية لطبقية اجتماعية، سوى أن السودانية أكثر خشونة، وأكثر تعاملا مع الحيوانات وزواحف الأرض، والإيماء إلى مراحل أكثر بهيمية بالمعنى الأنثروبولوجي، من ذلك الاتصالات البشرية الحيوانية، والإشادة بفضائل الحيوان التي كثيرا ما يفتقدها الإنسان، وإن كانت هذه الخصيصة أشمل في كل فولكلور العالم، خاصة الهندي الآري كما سيتضح.
وكذلك بالنسبة لاقتران الإنسي بالجنية بشرط الالتزام بتابو محدد، حتى إذا ما أخل أحد الطرفين بهذا العهد أو الوعد، انحل الزواج أو المعاشرة، وعاد كل منهما إلى عالمه ونوعيته ووضعه الاجتماعي حيث كان.
فكما أوضحنا عادة ما تقوم السمكة، أو عروسة البحر، في التنويعات المصرية والشامية، بدور اختبار طويل لعشيقها أو زوجها، ينتهي في النصوص المصرية بنهاية مشئومة محققة، على غير ما درجت عليه الحكاية الخرافية - خاصة السودانية - في عمومها، من تأكيد صيغ التفاؤل والختام البهيج.
فالحكاية المصرية - على عكس نظيرتها السودانية - الأقرب من حيث جزئية اقتران البطل بزوجة قردة، إلى ما يقرب بها إلى الطوطمية منها للحكاية الخرافية، بالإضافة إلى السمة الغالبة للنهاية السودانية السعيدة.
وقبل الغوص في المقارنات التشريحية العربية، نعود إلى مدخلنا الإلمامي العام لحكايات التحولات هذه.
فمثل هذه الحكايات الخرافية التي تهدف نهايتها الوعظية التعليمية إلى إثبات أن الحيوانات والزواحف أكثر إخلاصا وصدقا من الإنسان، سواء من حيث طرح الصراع والاختبار بين البطل الإنسي ونقيضته الجنية، أو بين الإنسان والحيوان والزواحف والأشجار التي يقف بعضها في صف البطل، أو العكس أي أن تضاعف عراقيله، وهي الأنماط التي وردت بكثرة في المصادر الهندية الأسبق من البوذية.
فكثيرا ما يصادف الإله بوذا نفسه مجموعة حيوانات وزواحف - فأر وحية وببغان - محبوسين أو معلقين في أفرع شجرة، فيقوم بوذا بإنقاذهم، وهنا كافأته هذه الحيوانات بأن خلعت عليه ثروتها وكنوزها وقدراتها الخارقة، لكنه حين يقدم على إنقاذ ابن أحد الملوك - إنسان - حتى يحقد عليه لإنقاذه لهذه الحيوانات والحشرات من قبله، وهنا ما إن يسترد ابن الملك الإنس المنقذ عرشه حتى يأمر بضرب الإله الناسك بالسياط، لحين تبدي أو تحول بوذا الناسك من جديد إلى هيئته كإله ينزل بدوره العقاب بابن الملك الإنسان الخائن، في حين يكافئ هذه الحيوانات المخلصة التي حفظت له صنيعه وردت إليه جميله ومعروفه.
ولعل ما أود إيصاله فيما يتصل بالتحولات التي تعتري الأبطال داخل الحكاية الخرافية هو أنه ملمح عالمي أقرب إلى المنابع والأصول الآرية.
فبرغم أن مثل هذه التقمصات والتحولات مغرقة في القدم منذ قصة باتا الأخوين، التي دونت فقط في الدولة الوسطى، ومن المرجح أنها ترجع إلى نهاية الدولة القديمة في مصر الفرعونية.
كما وردت هذه التحولات في معظم النصوص العشتروتية السامية، خاصة معظم تنويعات نصوص ملحمة جلجاميش، الذي رفض الاستجابة لمطاردة العشتروت له لكي يبادلها الحب؛ لأنها سبق أن نكلت بعشاقها الستة، فما يزال زوجها الأول الشاب الجميل «تموز» يبكي سوء طالعه، أما عشيقها الثاني الراعي، فقد أصبح طائرا مكسور الجناحين يبكي
4
عبر الغابات «كابي» أي وا جناحاه، وتحول العشيق الثالث بعد مسخه إلى أسد مطارد، أما الرابع فمسخ في صورة حصان يضربه الناس بالسياط فيركض سبع ساعات مضاعفة، ومن خصائص هذا العشيق الحصان أن لحافزه في الوجدان الشعبي - حدوة الحصان - قدرة اتقاء الحسد وإثارة المياه، أما العشيق الخامس فتحول إلى ذئب مطارد من الرعاة والكلاب، وكذلك تحول عشيقها السادس من بستاني جميل إلى طائر جارح.
ويبدو أن هذه التحولات كانت أقرب إلى أن تكون ممارسات شعائرية، فهي عادة - كما يقول كراب - ما يتوفر لها كخرافة شرط جوهري واحد، هو أن تكون حكايات متقنة جيدة ممتعة، منطقية في بنائها، تحمل إلى الناس غاية أخلاقية بصرف النظر عن محلية هذه الغاية.
فإذا ما كانت هذه الغاية - مثلا - عدمية أو نهلستية، تصب اللعنة على سقوط الإنسان وفساد طبيعته بإزاء إخلاص الحيوانات وزواحف الأرض في الحكايات البوذية الآرية، فهي حكاياتنا السامية العربية - والمصرية بشكل أخص - تضيف بعدا اجتماعيا.
ومن هنا فالرحلة العبورية الاجتماعية للبطل الخاسر أو المحكوم عليه بالسقوط ومهانة الفاقة والذل، بإزاء هذه المقولة أو المأثورة الشعائرية العربية: «إن من يشبع ينطح»، أو «جوع كلبك يتبعك»، والكلب هنا مرادف للإنسان البسيط المهان.
وهو مأثور شريف له مرادفاته - ولنقل: توالده الذاتي - داخل تراث السلف الصالح، سواء في حالة استبدال «كلبك» بجملك أو ثورك في المثل المعروف «اللي يشبع ينطح»، وهي فكرة أو جزئية تتردد بكثرة في حكاياتنا الخرافية المصرية والعربية بعامة كما قلنا، حيث يستبدل الكلب بالرعية والشعب.
ومن تكرار مثل هذه المقولة بأساليب وأغراض وابتكارات مختلفة، سواء من حيث الاستعارات الحيوانية الطوطمية، أو سواء أكانت بشرية إنسية لها أيضا منظورها الطبقي، كأن يأخذ العبد أو الخادم والأجير عامة مكان «الكلب» والجمل والثور، ولكل حيوان منهم بالتالي دلالته الأنثروبولوجية، وهو ما ليس موضوعنا هنا، سوى أن الغرض هو في الوصول إلى أن تكرار هذه المأثورة العربية داخل رقعة الحكايات العربية يؤكد دورها الطبقي الاستراتيجي، فلا بد أنها كان لها دورها في البنية الاجتماعية للكيانات العربية على مختلف ما يتعاقب عليها من أنماط قهر وانسلاب، سواء في المجتمعات الرعوية «أصحاب الوبر» أو الزراعية «الحضرية».
فهي مثلا في حكايات مصر والسودان والجزيرة العربية أكثر حدة ومباشرة عنها في سوريا وفلسطين وما بين النهرين بعامة، كما لاحظت في أنماط الحكايات التي من هذا النوع.
ففي حكاية «نية الملك»، التي - كما هو مألوف - يتنكر فيها الملك ووزيره ويجوبان رعيته ليلا متنكران، وما أن يستضيفهما رجل موسر في حديقته المزهرة، ويقدم لهما رمانا شهيا (مع ملاحظة أن الرمان هو الفاكهة المقدسة لأدونيس وتموز الإله الممزق لسوريا العليا وما بين النهرين بعامة)، فرغم أن المضيف يشيد بنية الملك الطيبة لشعبه أمام الملك المتنكر ووزيره، إلا أن الملك
5
يضمر حقدا للمضيف الموسر، ويصدر أمره بزيادة الضرائب المفروضة على الشعب الذي ازدادت الأموال في صناديقه تحقيقا بالطبع لذات المقولة: «من يشبع ينطح».
وتمر سنوات خمس يزور بعدها الملك ووزيره الرجل الغني مرة أخرى ويطلبان رمانا، فيقدمه لهما ضعيفا ضامرا مع رأي المضيف في الملك الذي تغيرت نيته نحو شعبه، وبالتالي تغيرت وتبدلت أرزاق شعبه.
وفي هذا النموذج السوري الأكثر إيجابية يستعيد الملك نفسه ويراجعها فيرفع الضرائب والأثقال عن شعبه.
وفي حكاية - فرفشة - سورية أخرى، أجدني أميل إلى اعتبارها محلية: عن الأربعين درويشا وزعيمهم الغني من الحشاشين الذين هالهم أن الحالة في المملكة «فلتانة» ولا ضابط ولا رابط للأسعار والبيع والشراء، ففرضوا إتاوة على الموتى، حتى ابن السلطان أخذوا منه «رسم فلتانة مائة جنيه»، وعندما استدعاهم السلطان أخبروه بأنهم وجدوا اهتزاز الأسعار وانفلاتها، فقرروا عمل رسم فلتانة على الموتى، وفي النهاية ضحك السلطان ووظفهم مراقبين للأسعار لإصلاح حال الناس.
وهو نموذج نادر للسخرية من التسعيرة الودية كما يتضح.
وكما هو معروف فهناك اتفاق على معاداة العرب الساميين من عرب وعبريين لفراعنة مصر، ونماردة بابل، وعمالقة الشام وفلسطين وما بين النهرين عامة، ومحاربتهم واعتبارهم خارج النسل السامي والسخرية منهم، كما يتضح في حكاية سورية عن فرعون الذي كان يقتل عجائزهم، فدبر له العجائز - مسخرة - أناسا يفركون أيديهم الفارغة في الهواء كمن يفركون فريكا أو قمحا أخضر في كفوفهم ويسفونه، وعندما يسأل فرعون - أو فرع عون - أحدهم أجابه بطل الحكاية: «إننا نحصد، ومما نحصد نأكل.»
وطبيعي أن يحس الملك بأن وراء هذا الملعوب «عجوزا حكيما»، فيطرح أمامه بدوره لغزا؛ أن يأتيه غدا «راكب وراجل ومنتعل وحاف»، وإذا فشل فسيقتله هو وجده الذي يحل له اللغز على النحو التالي: بأن يذهب للملك بحذاء لا نعل له، وحمار صغير - أتان
6 - يركبه ماشيا.
ولا تخرج الحكاية المصرية عن جذورها السائدة السامية في عدائها لفراعين مصر، ونماردة بابل، وعمالقة الشام وفلسطين المعروفين بالعماليق أو بني عمليق.
وإن كانت الحكايات المصرية والكثير من النماذج اللبنانية والسورية تفرق وتعزل إلى أقصى نقيض بين الفرعون والملك (ولا ملك إلا الله) أو الأمير.
فبينما الفرعون طاغية يتوحد بالشر والحمق والبين والشؤم والنجاسة، فإن ملمح الملك هو ظل الله.
وتتطابق هذه الجزئية المصرية في معاداة فراعنة مصر - خاصة الثلاثة الذين عاصروا التواجد العبري في مصر وهم: فرعون إبراهيم مختطف سارة، وفرعون يوسف الذي أصابته لعنة السنوات السبع العجاف، وفرعون موسى الذي يفرد بطون الحوامل ويقتل الأطفال - بما يطابق بينها وبين أنماطها في العراق ووادي الرافدين بعامة في عداء النماردة، وهم ستة
7
نفر: الأول نمرود بن كنعان بن حام بن نوح، وهو الذي ملك الدنيا، وهو صاحب إبراهيم، والثاني نمرود بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح، وهو صاحب النور، وأمه من نسل أخنوخ؛ أي إدريس.
وأخيرا فما يهمنا هنا هو أن في تحولات أبطال الحكايات الخرافية - تبعا لمفهوم شعائر الانتقالات كما أشار إليها «فان جنيب» - ما يشكل ثراء رائعا يسانده الكثير من المهارات والذكاء، خاصة في تصدي الوجدان الشعبي الفولكلوري العربي للقوى التسلطية من فراعين طغاة، وملوك وحكام وآلهة، يفتقدون إلى الحكمة والذكاء والمهارات التي تفيض بها قدرات بسطاء الناس العاملين.
الفصل العاشر
علاقات قرابية وزواج
أجدني حريصا في تناولي لتراثنا العربي السامي في كل مرة من مدخله الاتصالي الأسري القرابي القبلي.
وهو كما سبق إيضاحه منطلق صحيح طالما أن الخصيصة الاستراتيجية له - أي هذا التراث العربي السامي برمته - قبائلية في المحل الأول.
وطبيعي أن لا يقتصر بحثنا عن البنية القرابية أو القبلية على ميكانزم العلاقات بين الجماعات القرابية كالبدنات وفروعها العائلات الكبيرة، والبدنة - كما يعرفها الأستاذان إيفانز برتشارد وفورتس - وحدة دائمة تظل موجودة على مر الأجيال؛ نتيجة لانضمام أفراد جدد إليها، أو تركهم لها بالموت أو أي سبب آخر، فالبدنة أو العمارة جماعة ترد انتسابها إلى جد واحد في خط واحد، ومنها بالضرورة يستمد الشخص مركزه السياسي والقانوني.
وتشكل العلاقات القرابية والزواج جانبا ملحوظا في تراثنا.
ولعلها فكرة أساسية مصاحبة للإقدام على الزواج؛ فكرة أن يطرح والد العريس أو العروسة لغزا أو حذرا عويصا يواجه به ابنه - الذي عادة ما يكون وحيدا - للامتحان العسير، كأن يطالبه في «شطارة العريس» بأن يعطيه 20 جنيها، على أن يشتري منها الابن - العريس - ذبيحة، يحضر منها «رطلين لحم» ورطلين عضم، والذبيحة صاحية كما هي.
ويتزوج الابن بعد أن وفق في شراء الذبيحة، وأخذ رطلين لحم من إليتها، واثنين من قرونها، والذبيحة كما هي.
وقد يلجأ الابن العريس ذاته إلى الدخول في امتحان، كما في حكاية بائع الكلام حيث اشترى البطل بالثلاثين جنيها مهر عروسته، ثلاث كلمات أو نصائح من بائع أو ناصح كلام، بما يذكرنا بالحكاية الطوطمية: نصائح الطائر الثلاث، مقحما نفسه في خارقة جان استطرادية مهاجرة الجزئيات، حين يقبل العمل عند صاحب طاحون مهجور مسكون ببنات الجان، اللاتي يظهرن له طارحات جزئية وقوع البطل في أحبولة تفضيل امرأة على أخرى، المصاحبة للحروب الطروادية، هنا يتذكر الشاطر النصيحة الأولى: «حبيبك اللي تحبه ولو كان عبد نوبي»، أما النصيحة الثانية: «من آمنك لا تخونه ولو كنت خاين.»
وتتسبب النصيحة الأخيرة الثالثة: «ساعة الحظ ما تتعوضش» في إفلاته من الموت.
وعادة ما يتم لقاء البطل العريس بعروسه عند آبار وموارد المياه الموردة كما حدث لإسحق ويعقوب مع راحيل أم النبي يوسف، ثم موسى مع زوجته صفوة ابنة شعيب كاهن مدين.
ففي الحكاية المنشورة عرضها طولها، يلتقي البطل بخطيبته حائرا باحثا عن تحقيق وصية أبيه التي لا تعدو لعبة اشتقاقية لغوية للعرض أو الشرف المساوي للطول «لزواج من فتاة عرضها قد طولها»، إلى أن يدفع العريس كل ورثه وما يملك مهرا لزوجته الموهوبة بدورها في صنع المحارم
1 «الملوكية» غالية الثمن، على ما عرف عن الطيور التي تضع ذهبا .
فالزوجة المبروكة التي تثبت الحكاية حرصها على شرفها في الجزئية الاستطرادية للتاجر الخواجا المصري، أو اليهودي في المتنوعات السورية والعربية عامة، الذي يراودها - أي أن تستولي على أملاكه - كما تكشف الحكاية عن ذكاء الزوجة الذي أعجز القاضي في جزئية قطع رطل اللحم من جسد البطل، التي استعارها شكسبير في مسرحيته تاجر البندقية، وتصادفنا كثيرا في تراث الحكايات الشرقية، حين أشارت على القاضي: «اقطع رطل اللحم، وإذا ما قطعته زايد عن الرطل، قص الفائض من جسد الخواجا، أما إذا لم يزن رطلا، استكمل الباقي أيضا من جسد الخواجا.»
وهكذا أعجزت الفتاة كلا من القاضي والخواجا أو اليهودي، الذي تنازل فورا عن قضيته وهرب بجلده.
فمن قسمات تراث الحكايات العربية، سواء في مصر أو الشام أو الشمال الأفريقي بعامة، هو أن سعد الرجل - الزوج - أو شقاءه وهبوطه يرجع إلى زوجته.
وفي حكاية «هذا من امرأته» تثبت الحكاية أن في مقدور الزوجة - ابنة الملك - أن تصعد بزوجها من هوة الفقر والعجز والغباء إلى أعلى مراتب العز والغنى «وكله من امرأته».
ونفس المقولة ترد في السبحة،
2
حيث يصل العجب بالملك أو المالك صاحب العمارة مداه من أحد العمال - فاعل - الذي يعمل بهمة، وأيقن أن امرأته هي سبب هنائه وراحة باله، وحين يقرر الملك امتحانها والتعرف عليها وينجح فعلا في زيارتها، تصنع له الزوجة سمكا مطبوخا وزعته على أربعة أطباق، على أن يتذوقه الملك قائلا: «طعم واحد.» وهنا عاجلته الزوجة الوفية راجحة العقل: «هكذا نحن يا ستات ... طعم واحد.» ولعلها - كما يذكر القارئ - فكرة أخلاقية ماركسية، وردت في الرسائل اللينينية مع إحدى المفكرات الماركسيات.
لكن يلاحظ ثبات وجوهرية الإدانة الأزلية للمرأة، من قبل الرجل طبعا، منذ أساطير الخلق السامية الأولى، فحتى في التحولات الشعائرية السحرية المرأة دائما حية رقطاء. وفي حكاية فن النساء الذي غلب فن الرجال، تنتصر الفتاة بعد أن تسببت في أن يتزوج بطل الحكاية الفتاة الكسيحة.
أما كبيرة الكبائر المدانة البغيضة في تراث حكايات القرابة والزواج، فهي المرأة الفتانة، فالحراث الفقير الذي استلفت نظر الملك المتنكر ووزيره حين كان يحرث حقله، «وفي بطن الحقل يرقص رقصة، وفي صدرها أخرى»؛ نظرا لأن نساءه الثلاث يرحن باله، حتى إن الملك أقدم على أخذ نسائه الثلاث وإعطائه غيرهن؛ لكي يتعرف سر حب النساء له، فكان أن أقدم الفلاح الحراث على خنق المرأة التي خصالها الفتنة، بينما أبقى على الفتاتين: الزانية واللصة، مطلقا لهما التعبير عن أنفسهما.
ويلاحظ أن الحكاية التي يتضمن موضوعها على تعدد الزوجات لا تقيم وزنا لعلاقات الزواج، بقدر ما تشير إلى انحدارها من عصور طابعها السبي والنخاسة.
الفصل الحادي عشر
خوارق الجان وخرافة الإله الحمار سعد الدين
أقف قليلا عند هذه الحكاية الخرافية عن «سعد الدين» كأنموذج لا على اعتبار أنها بالاد
1
أو ملحمة أو قصة شعرية بما تبقى فيها من نظم، بل على أنها حكاية أو خرافة جان، أسمح لنفسي بأن أصفها نموذجية، بل هي ربما كانت واحدة من أوسع وأقدم حكايات الجان انتشارا في فولكلور العالم أجمع.
فهي تخضع وتتطابق مع مواصفات حكايات وخوارق الجان التي شغلت العديد من المدارس الفولكلورية والأنثروبولوجية زمنا طويلا، منذ أن توصل جامعا الفولكلور الألمانيان الأخوان جريم من جمع ودراسة مجموعة كبيرة منها أطلق عليها يعقوب جريم حكمه المتعجل، القائل بأن حكايات الجان إنتاج آري كامل.
بمعنى أن كل ما يتواتر على الشفاه - على مستوى العالم أجمع - من حكايات وخرافات وخوارق الجان والعفاريت والنداهات وأم الشعور والأعوان وسكان تحت الأرض والرياح، يرجع بكامله إلى موطنه ومنبته الأم: الهند وإيران.
فمنذ أن أطلق الإخوان جريم حكمهما في موسوعتهما الآجرومية الجرمانية عام 1842، حتى أثار حكمهما هذا عاصفة من الجدل ما تزال ممتدة، شارك فيها معاصرهما المستشرق عالم الآريات تيودور بنفي، بإعلانه نظريته الشهيرة عن ارتكاز التراث الآري الأوروبي قلبا وقالبا على التراث الآري الهندي الفارسي، وأخصه الأساطير والخرافات.
فمن هذا المدخل والمنطلق أسوق هذه الخارقة عن البطل الحمار سعد الدين، والتي لا شك في أنها بقايا أسطورة مصرية عربية أو فلسطينية أردنية من ألفها إلى يائها، تحكي عن خوارق ومزايا إله ما قبل التاريخ: الحمار المصري الفرعوني ست أو ستخ، الذي لقبه اليونان بطيفون، ولقبه العرب ببغل أو زوج أو سيد.
وأهمية هذه الخارقة، التي ما تزال تعيش على الشفاه إلى أيامنا هذه، تأتي من أن هذه الأسطورة التي ترجع أول منابتها إلى 4 آلاف عام قبل الميلاد - أي إنها ترجع إلى ما قبل فجر التاريخ المصري برمته أو عصر ما قبل الأسرات - ومن مصر هاجرت إلى تخومها المجاورة في فلسطين والأردن، إلى أن أصبحت من أهم ملامح الأساطير والفولكلور السامي بأكمله.
ومن هنا يمكن مناقضة نظريات مروجي الآرية التي اكتملت في النازية، القائلين بالأصل الآري لخوارق الجان.
فها هي خارقة ذات جذور مصرية منحدرة من رحم أسطورة، تتحول مع توالي العصور إلى خرافة جان، ما يزال بطلها ست يتوحد بالحمار، وتجيء به إلى الوجود المرأة العذراء التي لم يمسسها بشر.
فيجيء بطلها سعد الدين أو الحمار إلى الوجود، تصاحبه فكرة أسطورية، يصنف بموجزها على أنه طفل موعود.
وهذا لا ينفي طبعا أن في معظم الأحوال ما تحكي وتفيض أساطير الجان عن طفولة أبطالها وخوارقهم وتفوقهم.
فهو يجيء إلى الوجود بعد أن يموت الأب ويفتقد، وتنفذ الأم وصيته بتسليم بناتها الثلاث، ثم أبنائها الثلاثة، إلى الغول أو الجني أو القوى المجهولة أو نهر النيل، ويذهب أبناؤها الثلاثة بحثا عنهم ولا يعودون، وتجلس الأم وحدها سوى من حمارها أو طوطمها المسمى «الرقيق»، وتقرر الأم أن تنتحر، وتشرب من بول الحمار، وهكذا يجيء إلى الوجود سعد الدين كطفل معجز «موعود» مكتوب على صدره سعد الدين. «الحافر حافر جحش والودان ودان جحش،
وأسنانه تامة، ويومه بسنة.»
بل إن الخارقة تبالغ في إعجاز هذا الإله الحمار، فما إن ولد وقامت الداية لتغسل يديها، حتى قام فجلس على حيله، «الداية شافته واللمية
2
سبقتها».
وما إن قامت لتغلق الباب حتى قام وراءها فأغلقه، وكان أن قررت الداية أن لا تولد بعد سعد.
وهكذا تواصل القصة أو الخارقة سردها لقوى البطل الخارقة، فسعد - أو ست - يلعب مع العيال في يومه السابع.
وفي حواره مع أمه تخبره بأنه «ابن جحش»، وتبكي وتطلب منه أن يمكث بعد أن أخذ منها الجان كل أولادها، فيجيبها: «أنا مش جي لك، أنا جاي أتم المكتوب.»
وركب حصانه - أو بغلته - مكملا رحلاته العبورية؛ بحثا عن إخوته في عالم ما تحت الأرض قائلا: «قصدتك ياللي البرور
3
والسما والأرض لك.» •••
وتتوحد هذه الخارفة إلى أكبر حد ممكن مع أسطورة البعل السامية،
4
الذي يخوض رحلاته العبورية في عالم ما تحت الأرض بحثا عن «بناته»
5
الثلاث اللاتي اختطفهن الجان.
وإذا ما كان كلا البطلين - والفاصل بينهما 4 آلاف عام - البعل السامي وبطلنا المعاش اليوم سعد الدين.
إذا ما كانا ما هما إلا وجه واحد لنفس الإله أو الطوطم: ست أو ستخ أو طيفون؛ لأدركنا مدى استنبات هذه الخارقة التي تعيش إلى اليوم على الشفاه من تراثنا العربي الفلسطيني الأردني، ومنه تواترت وهاجرت وعاشت في معظم تراث كل العالم، بل وربما التراث الهندي الآري ذاته.
فخوارق الجان التي على هذا النمط؛ أي التي يخوض بطلها عالما خرافيا أو عالم ما تحت الأرض أو العالم السفلي، لفك أسر واسترداد الأخوات والحبيبات والفتيات المعلقة من رموش عينيها، واللاتي يختطفهن الجان أو الوحش أو رأس الغول سعدان أو التنين أو النيل أو العون.
خوارق الجان من هذا النمط تنتشر بكثرة شديدة جدا، ومنها ما يشكل الجسد الأسطوري والملحمي في أوروبا اللاتينية، مثل خوارق ذي اللحية الزرقاء، وقصة أو ملحمة بيوولف الشهيرة جدا، والتي لها متنوعاتها في إنجلترا وأيرلندا والدانمارك، ثم ملحمة كالفالا الأيرلندية.
بل إن سيرجيمس فريزر يسوق عشرات - إن لم نقل مئات - من متنوعات اختطاف القوى المجهولة أو الكائن الخارق للطبيعة، الذي تزف إليه النساء، فهو في الأغلب أحد الآلهة.
ويلاحظ في معظم الأمثلة التي يسوقها فريزر انتماؤها إلى مصادر عربية أو إسلامية، منها ما كان منتشرا حول بحيرة فيكتوريا حيث منابع النيل، ومنها ما ينتشر في جزر المالديف قبل أن يعتنق السكان هناك الإسلام. يقول فريزر: «وقد وصف الرحالة العربي الشهير ابن بطوطة هذه العادة وطريقة القضاء عليها، فذكر له الكثيرون من الثقات من أهل الجزيرة - وقد ذكر ابن بطوطة أسماءهم - أنه في الوقت الذي كان الناس هناك يعبدون الأوثان، كانت تظهر لهم في كل شهر روح شريرة من الجن، تأتي عبر البحار على شكل سفينة مليئة بالمشاعل الملتهبة، وكان الشغل الشاغل للناس حين يرونها هو البحث عن فتاة عذراء صغيرة يزينونها، ثم يسوقونها إلى معبد وثني معين على الساحل وله نافذة تطل على البحر، فيتركون الفتاة هناك طول الليل، وعندما يعودون إليها في الصباح كانوا يجدون أنها فقدت بكارتها وفارقت الحياة، وكان الناس يسحبون القرعة في كل شهر، فمن وقعت عليه القرعة وجب عليه أن يتنازل عن ابنته لجني البحر. وظل الحال كذلك حتى جاء رجل صالح - سعد الدين أو مخلص أو ماري جرجس - من البربر وأمكنه أن يخلص آخر فتاة قدمت بهذه الطريقة إلى ذلك العفريت، وأن يطرد العفريت ذاته إلى البحر بتلاوة القرآن عليه.»
ويواصل فريزر: «والقصة التي يحكيها ابن بطوطة عن الجني العاشق وعرائسه الآدميات تشبه شبها قويا نوعا معينا من القصص الشعبي الشائع، والذي يتخذ صورا وأشكالا مختلفة من اليابان وسيام في الشرق، واسكنديناوه واسكتلندة في الغرب.»
وتختلف القصة في التفاصيل من شعب لآخر، لكنها في عمومها تتخذ الشكل التالي: «كانت هناك بلدة يهددها ثعبان أو غول أو تنين أو أي وحش آخر له عدة رءوس وينذر أهلها بالدمار.»
لكن ما فات فريزر وغيره ممن تعرضوا لهذه البقايا الأساطير التي تتخذ مسوح قصص الجان، وتعيش بشكل خاص إلى اليوم في ذاكرة شعوبنا المصرية والعربية، تورث للأطفال مع لبن أمهاتهم.
ما لم يلتفت إليه الأنثروبولجيون عامة، هو أن في هذه الخارقة أو الحكاية انتهت وحفظت أقدم وأوسع ديانة العرب واليهود الساميين المعروفة بالبعليم، ممثلة في عبادة الإله الطوطم السلف الحمار عند بعض الأقوام والحضارات، ومنبتها في مصر الإله الحمار ست، منذ ما قبل فجر التاريخ المصري أو الأسرات أو الدولة القديمة، حتى إنه كان هناك حلف قبائلي بمقتضاه يسود الحمار المصري ست متزعما ثلاثين حضارة وقبيلة من حضارات الشرق الأدنى القديم في الشام وفلسطين والأردن واليمن والجنوب العربي عامة.
ومن اسم الحمار تسمى الملوك الحميريون، أو حمير التي ترد أخبارها في سيرهم عن عنترة وسيف بن ذي يزن والتباعنة - جمع تبع - ومنهم التبع حسان اليماني والزير سالم وعشرات التباعنة.
فالجسد الروائي سواء لنصنا الشفهي المتواتر اليوم أو أسطورة البعل الكنعانية، موجزة اختطاف الجني أو القوى الشريرة لإخوته الثلاثة في نصنا الفولكلوري اليوم، وبناته الثلاث في النص الكنعاني 4 آلاف عام، وفي كلا النصين يخاطر الإله الحمار سعد الدين محققا انتصاره بعودة بناته المغتصبات.
ليعاود من جديد اعتلاءه قمم أشجار السنط أو البكاء كقرين للريح وإنذار الأعداء.
فهذا البعل الصحراوي المتجبر ست أو سعد هو البذرة الأولى للإله ليهوه رب القبائل الإسرائيلية، أمس واليوم.
الفصل الثاني عشر
نوح وزوجته والشيطان
ليس من السهل إغفال إحدى السمات الجوهرية للتراث السامي لأساطير وحكايات وفابيولات الطوفان المتوارث بدوره، منذ أن جاء بالعديد من جزئياته وموضوعاته النص السومري لملحمة جلجاميش.
وإذا ما تتبعنا تفاصيل الطوفان كعقاب منذ بذرته السومرية الأولى وفي التراث البابلي، وما انتهى إليه في المدونات العبرية: التوراة والتلمود «البابلي» والمدراش، ثم التنويعات المسيحية والإسلامية، وانعكاسها في تراث الحكايات الشفاهية المعاش على طول بلداننا العربية؛ لوجدنا أنه - الطوفان ومأثوراته - يستحق وقفة خاصة.
ولا بد هنا من تأكيد حقيقة مهمة، هي أن موضوع الطوفان واحد أو أيتم من أساسيات أساطير الخلق المبكرة جدا عند مختلف الشعوب، فالطوفان بداية لخلق أرض موعودة جديدة، كما أن من المفيد التذكير بأن موضوع الطوفان ليس بقاصر على تراث الآداب والأساطير السامية، وهو ما كشفت عنه بوضوح التسجيلات الفولكلورية عند مختلف الشعوب.
فمنذ عام 1914 سجل جامع الحكايات الباحث بول رادن نصا لخرافة طوطمية من أوتاريو، يقول النص: «إن الإله المهذب نيبوجو - الذي جاء بالأصداف الجميلة الباهرة وزين بها الأسماك - غضب عندما أفشى إليه طائر عملاق بنبأ أن سباع البحر افترست أخيه.
فانتقم منهم نيبوجو بأن كمن لهم وقطع أشلاءهن، وألقى بها في مجاري المياه، حتى فاضت وأغرقت الأرض، فصنع نيبوجو مركبا، وأخذ من كل نوع أو زوج اثنين، وبعد فترة قال لنفسه: «أعتقد أن طوفان الماء لن يتوقف، ومن الأفضل أن أصنع أرضا جديدة».»
وتتداخل هذه الجزئية الفولكلورية عن الطوفان كانتقال حضاري لأرض جديدة، مع جزئية خلق تتصل بأساطير خلق الإنسان الأول، حين يرسل الإله حيواناته - حشراته - البحرية الثلاثة؛ لتحضر له الطمي، وكالعادة يفشل الرسولان الأولان وينجح الثالث حين يحضر الطمي من أعماق الماء الفطري، وهو ما تناولناه في مدخل سابق.
وفي القصة عديد من الجزئيات والعناصر - المعارف - البدائية الأولى، وتأثير القصة الأم مثل الطوفان كعقاب، وأزواج الحيوانات والطيور وسقوط الغراب، ثم الحيوان غواص الأرض الذي أعاد خلقها.
وهناك بعض التشابه مع حكايات الطوفان والخلق الهندية المغرقة في القدم مع نصوصنا العربية السامية.
وفي أحد النصوص التي جمعت من الإسكيمو، يرينا النص كيف أن حيوان الماموث - الذي يوجد في الجليد - هو حيوان
1
مطرود لرفضه ركوب فلك نوح؛ أي إن كل بلد يضيف إلى القصة حيوانه المحلي، سواء في المكسيك أو أوروبا.
ويقدم «أفاناسييف» أسطورة الفلاحين الروس عن نوح وزوجته والشيطان، وهي من نوع القصص الاستطراوية
Episode ، وتجيء على النحو التالي:
فقد طلب إله الطوفان - عقب الوصول - من الراكبين من نزولهم سد الطريق على الشيطان الذي تسلل نازلا، وواجه الإله بأنه عدوه اللدود رغم أنه أخيه الأصغر، وطلب منه الإله الغوص في أعماق الماء وإحضار حفنة من ترابها ليخلق الله العالم الجديد بعد الطوفان، وأطاع الشيطان وحاول مرات ثلاثا إحضار التراب، لكنه عندما فشل في المرة الرابعة أمره الإله بأن ينطق هذه الكلمات ليحقق عمله: «يا إلهي السيد المسيح.» وأخيرا ينجح الشيطان في إحضار التراب ويخلق الإله العالم.
هذه القصة بحسها المسيحي وثنائيتها الإيرانية تحكى في سيبريا ومختلف البلدان المسيحية، بل إنها تروى بين بعض الشعوب، على أن يأخذ المسيح مكان الخالق، ويطلب من الشيطان إحضار التراب، وعندما يحزن الشيطان رافضا يضربه المسيح على مؤخرة عنقه ، فيندفع الطين من أحشائه إلى فمه مشكلا الجبال المحيطة بالأرض منذ الأزل. أما في النصوص العربية السورية والفلسطينية، فتأخذ الحية - فتن - مكان الشيطان في تشكيل السهول والجبال.
أما أروع ما في قصة «نوح» وزوجة الشيطان: النص المدون في تراتيل الملك ماري، وهذه القصة التي أنموذجها 825 في تصنيف تومبسون، سوف تخدمنا في تقديم موضوعنا عن نوح والفولكلور. وهي حكاية فولكلورية تعتمد على مصدر مدون، وسواء أكان مصدرها الأول هو أقدم نص مدون في التوراة والمصادر الإسلامية فيما بعد، أو الصراعات الفارسية بين الخير والشر، أو بين الثنائية البدائية الأساسية للجنس البشري عامة، أو المفسرين والشراح اليونان المسيحيين، مثل: «أبيفانيس» الذي دون حكاية
gnostic
عن كيف أن زوجة نوح «برها» أشعلت الفلك نارا عندما دخلتها، وربما كان مصدر هذه الجزئية شعائر
2
Shamanistic
والأساطير الكنسية البدائية في أوروبا وآسيا.
وفي أسطورة «أفاناسييف» - التي سجلها في القرن التاسع عشر - لحكاية أم ترجع لثلاثة قرون سابقة في مصدرها، فإن نوح يأخذ مكان آدم في اقتحام تابو التفاحة المحرمة بإيعاز من زوجته «إيفجا»، فقرر الله على الفور أن يرسل الطوفان، وطلب من نوح أن يبني الفلك على أن يبقى هذا سرا، فبناه نوح في سنوات طويلة في الغابة المهجورة، وعندما سأله الشيطان: ماذا يفعل؟ رفض نوح إبلاغه، فتعقب الشيطان زوجته إيفجا ليعرف منها حقيقة ما يفعله نوح في الغابة، وعندما أتم نوح صنع الفلك وأخبر كل الناس، فكان أن دمر الشيطان الفلك بمساعدة الزوجة، لكن بعد ستة شهور بناه من جديد ودمر، وفي المرة الثالثة نجح، وعندما دخلته أزواج الحيوانات، تسلل الشيطان في هيئة فأر إلى داخل الفلك مستعينا بمساعدة الزوجة في تخدير نوح بالشراب ومعرفة السر؛ مما ألحق النكبات به عن طريق المرأة التي يدعوها حواء، ويحدث خلط بينها وبين الحية على عادة النصوص الإسلامية والعبرية.
ويوجد عديد من تنوعات هذا الموتيف في الغرب، وفي السويد حائط فرسك من القرن الرابع عشر يصور هذا المعنى، وقصيدة ترجع إلى القرن 13 «باسم جينشن إينكل»، ثم كشف جيمس ديلارجي - مدير عام الجمعية الأيرلندية للفولكلور - النقاب عن نص
3
توصل إلى جمعه عام 1951، أهم ما به أن نوحا استغرق في بناء الفلك 81 سنة، وكان يدمر بواسطة الشيطان مرة كل سبع سنوات، ويتخذ فيه الشيطان هيئة الغريب، ثم يستعين هذا السيد المهذب الغريب بتملكه لزوجة نوح، ودفعها للتعرف على أخبار بناء الفلك بسؤالها لزوجها كلما خرج أو عاد إلى بيته: «أين كنت؟ وإلى أين تذهب؟» ثم اللجوء إلى سكره وتهديد الزوجة له بهجره إذا لم يستجب ويشرب من «شراب الأمان».
ثم دمر المركب ثانية بعد أن كاد نوح أن يفشي السر، فجاءه صوت يأمره بالتوجه إلى واد معين مهجور ويبني الفلك، وحيث تنتشر أصوات الدق والصدى في كل الأرض.
ويفسر أصوات الدق والعمل هذه في عديد من النصوص الشرقية المتنوعة على أنها الأصل الأول لصدى الصوت، كما تفسر بعض النصوص تسلل الشيطان إلى الفلك بواسطة زواجه - أو عشقه - من الزوجة اللعينة.
والتشابه بين ثلاثة نصوص - هي: الروسي والإستوني والأيرلندي - كبير، كما يكشف هذا عن تميز النص الشرقي الأم، ويحتمل أن تكون هذه النصوص قد تحولت إلى ما يعرف بمكائد العفاريت؛ نتيجة لعبورها الطويل للبحار بدلا من التحولات المشابهة التموجات
Wavilke transmission ، التي تحدثها الأسفار الأرضية البرية.
يقول سميث تومبسون: «ومثلما تفعل طرق الأسفار الطبيعية نتبع الحكايات هذه الطرقات الطبيعية في عبورها للمخالطة الحضارية الأكثر أهمية، وهي تفعل هذا ممتدة عبر المياه، حتى لو كانت هناك طرقات أكثر يسرا يمكن أن تغزو عن طريقها الأقطار المجاورة لحضارات مجاورة.»
وكثير من الحكايات الألمانية اتخذت هذا الأسلوب في هجرتها إلى السويد مباشرة دون أن تلمس الدنمارك، «ونحن لا نحتاج هنا إلى إظهار أن هناك عديدا من الطرق التجارية بين دول البلقان»، متضمنة ومحتوية روسيا وبعض الجزر الإنجليزية والأيرلندية التي يلتقي فولكلورها عند سمات وقسمات متقاربة.
فخلال الدراسات المضنية التي أجريت على جزئيات الحكايات النوحية؛ لوحظ من خلالها أن القفزات التي تحدثها الرحلات والهجرات للحكاية مرة واحدة، تضمن تغيرات بدرجة أقل لجزئيات الحكاية، منها في حالة الهجرات والانتقالات البطيئة الرتيبة عن طريق الأسفار البرية، كما أن نفس هذا القانون يجري سريانه في حالة الاحتفاظ بالأماكن والأسماء وما يعرف بشعائر الانتقالات في حالة الأسفار البحرية، بينما تتعرض هذه السمات وتصبح عرضة لتدخلات ومزواجات وتغييرات في حالة الأسفار البرية.
ولعل هذا ما كشفت عنه الدراسات التي تولي اهتماما أكبر لفولكلور الشرق الأوسط أو العالم العربي، التي كثيرا ما يطلق عليها البعض بالمدرسة الشرقية، خاصة ما صاحب جزئيات وتيمات الطوفان.
فلقد جاءت التغيرات طفيفة، كأن يستبدل الحمار بالبعير، في حالة خداع زوجة نوح لنوح في مساعدة الشيطان على التسلل إلى داخل الفلك في النصوص العربية المهاجرة إلى ألمانيا.
وصاحبت معظم هذه التغييرات النصوص الشفهية خلال هجرة حكاياتنا من الشرق إلى الغرب، كاختلاف الحيوانات الشارحة على ظهر الفلك، ثم وهي تواصل هجراتها من الغرب إلى أوروبا بعامة، عن كيف أن الفيل عطس خنزيرا، والأسد قطة، وهكذا.
كذلك اختلفت درجات إدانة وسقوط
4
حيوانات - مثل الحمير والجمال - لم تستطع كبح رغباتها الجنسية في النصوص العربية عنها في التنويعات المهاجرة.
كذلك عثر على نص ألماني يشير مفسرا الأسباب التي جعلت جلد الحاميين والشعوب السوداء بعامة أسود.
ولعلها أول أفكار ترد عن القبيلة أو الأمة أو الرهط الملعون، متمثلة في خطيئة حام حين سخر من عري أبيه نوح، والتي بسببها أصبح وجه الحاميين - ذوي البشرة السوداء - أسود في المصادر العربية، ولعن بسببها كنعان بن نوح في الأساطير العبرية:
5 «ملعون كنعان عبد للعبيد يكون لإخوته.»
وكان أن انحدر من حام بن نوح «كوش أبو الكوشيين في النوبة والسودان ومصرايم وفوط وكنعان، وكوش أبو الصيادين في البر والبحر ولد نمرود»، الذي ابتدأ أن يكون جبارا في الأرض، أما ابنه كنعان ابن اللعنة فولد
6 «صيدون مؤسس مدينة صيدا في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، وبكره حثا أبو الحيثيين واليبوسي والأموري والجرجاشي»، وكانت تخوم الكنعاني من صيدون حينما تجيء نحو جرار إلى غزة، وحينما تجيء إلى سدوم وعمورة
7
وآدمه آدم وصبوييم إلى هالاشع.
وهو على عكس التمجيد الذي أضفاه هذا التراث القبلي على الساميين أصحاب الوبر من عرب وعبريين.
وفي عديد من النصوص يأخذ نوح مكان آدم ويتطابق معه، ويروح إبليس يغري الزوجة ويدفعها إلى أن تدفع نوحا بدورها للأكل من الشجرة المحرمة، بما يدفع الله لأن يسلط عليهم الطوفان كعقاب.
وتتوالى جزئية أو فكرة غواية الشيطان للزوجة بشكل متوال في أغلب الأساطير السامية، فالشيطان هو الذي وسوس لامرأة لوط حين هجر لوط قومه وفر مهاجرا ومعه أهل بيته، فأرسل العذاب على مدينة «سادوم وقراها الخمس»: «عمرة وأدماء وصبويم وبالع»، حين سمعت المرأة أصوات خراب المدينة، فصرخت: «وا قوماه!» وكان أن تحولت إلى عمود ملح.
وفي أحد النصوص التي تتعرض لغواية الشيطان لرحمة - أو ناعسة - امرأة أيوب، يقول النص: «إنه كان ل «أيوب بن زارع بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل» زوجة اسمها «رحمة»، وكان أيوب صاحب أموال عظيمة، وكان له ملك البثينة جميعها وهي من أعمال دمشق، فابتلاه الله بأن أذهب أمواله حتى صار فقيرا، وهو مع ذلك صابر على عبادته وشكره، ثم ابتلاه الله في جسده حتى تجذم ودود، فبقي مرميا على مزبلة لا يطيق أحد أن يشم رائحته، فكانت زوجته تخدمه وهي صابرة على حاله، فتراءى لها إبليس وأراها ما ذهب لهم، وقال لها: اسجدي لي لأرد مالكم إليكم. فاستأذنت أيوب فغضب وحلف ليضربها مائة، ثم إن الله تعالى عافى أيوب ورزقه ورد إلى امرأته شبابها وحسنها، وولدت لأيوب ستة وعشرين ذكرا، ولما عوفي أيوب أمره الله بأن يأخذ عرجونا من النخل به مائة شمراخ فيضرب به زوجته؛ ليبر في يمينه.»
وما يمكن ملاحظته في ذلك النص، هو أن إبليس أرى الزوجة «رحمة» ما ذهب لهم؛ بمعنى أنه هو الذي كان قد سلب عنهم أموالهم وعزهم.
وأصاب أيوب بالداء، وفي مقدوره رد ما أخذ لو أن المرأة سجدت له.
فالعلاقة بين المرأة والشيطان تتواتر بكثرة شديدة - خاصة في نصوص وأساطير الخلق والطوفان الأولى - عند عديد من ملل ونحل الشعوب والقبائل السامية العربية.
وما يهمنا هنا هو هذه الفكرة السومرية، وهي فكرة توحد الشيطانة ليليت بالحية، وليليت هي ما عرفت عند الساميين بحواء الأولى، والتي عادت بدورها فتوحدت بالحية، خاصة عند القبائل العبرية، ففي التوراة أن أصل الإنسان من الحية، والحية من الجن. وترددت هذه التضمينة في عديد من أسفار الخلق والبدء عند أغلب ملل ونحل الشرق الأدنى، خاصة بالنسبة لنوح وزوجته والشيطان؛ لتحقيق مقولة المنتجات الروحية، وانسلاباتها المتوالية المتكافئة البنية، بدءا بالانسلاب الذكري للمرأة أسطوريا طبعا، وبالضرورة ماديا طبقيا اجتماعيا؛ حيث تعامل المرأة كنصف، سواء بالنسبة للإرث أو الشهادة.
الفصل الثالث عشر
موسى
وتتبدى شخصية النبي موسى في الفولكلور حاضرة على الدوام على عادة شخصيات أو آلهة الأساطير، مثل: أندرا، وزيوس، وبوذا، والخضر، والأقطاب الأربعة في الوجدان الطقوسي العربي.
فقد تجيء حكاياته أو أساطيره على النحو التالي:
سيدنا موسى، ماشي في يوم رايح يقابل ربنا، رجل فقير انتظره في الطريق وطلب منه أن يسأل له ربنا، فلان ابن فلانة، مالوش عندك رزق، أكثر مما هو فيه ...
وتستمر الحكاية على هذا النحو في حوار بين الرجل الفقير والرب، والوسيط هنا هو موسى كليم الله.
وبرغم تواكل هذا النص الوعظي والآلاف غيره في الإشارة إلى أن الرزق لا يعطى إلا للأتقياء، وربطه الأخير في أن الأوضاع الطبقية - من فقر لثراء - لا دخل فيها للإرادة وهكذا، إلا أن الملفت في هذا النص هو أنه أسطوري نادر ندرة الأساطير في التراث العربي الشفاهي المعاش.
فتتبدى شخصية موسى في هذه الحكايات كشاهد خفي أو قدري على ما يحدث، كما يتضح من حكاية «القاتل والمقتول وموسى».
وكيف أنه كان دائم التردد على جبل «الملاغاة» ليسأل: «يا رب جيت أسألك.» فظهر له ربنا وقاللو: «اسأل يا موسى.»
وهي عادة ما تكون حكايات قاسمها المشترك هو القدر والقدرية كملمح جوهري لتراثنا العربي.
كما أن في مقدور موسى أن يتصل بعالم الموتى، ويقيم حوارا مع الميت كما في حكاية «موسى والعبد».
وفي تصوري أنه نص عبري قد يرجع تاريخه إلى تواجد القبائل الرعوية العبرية في مصر حوالي منتصف الألف الثانية ق.م.
ذلك أن ملكا أو فرعون قاسيا كان ينكل بعبده الصالح المطيع؛ حيث ربطه في طاحون مهجور، أو كما يذكر راوي هذا النص: ربطه في هودية. وفي نص ثان ينطقها الراوي أن الفرعون ربط عبده في «يهودية».
ويبدو أنها كانت بمثابة آلة تعذيب مرتبطة باليهود وأساليب تعذيبهم من قبل فراعين مصر، مع الأخذ في الاعتبار أن هؤلاء الفراعين كانوا في تلك الفترة دخلاء على حكم مصر.
المهم أن ذلك الملك مضى يعذب وينكل بعبده ليل نهار، إلى أن ظهر له سيدنا موسى ورثى لحاله، وطلب من الملك أو الفرعون الرحمة له فرفض، بينما أخبره العبد مستكينا: «كله حايزول.»
ومرت الأيام إلى أن أصبح العبد ملكا عن طريق حذر أو لغز تتردد تنويعاته كثيرا في الحكايات المصرية، وإلى حد في نظائرها العربية، وهو حلول طائر في فمه خيوط من الزمرد، وحطه على رأس العبد الذي أصبح ملكا حكم قومه إلى أن مات، وزار قبره موسى، وأخبره عن حاله فأخبره بأنه في نعيم دائم.
فمن سمات موسى في الشفاهيات السامية أنه دائم التواجد والحضور لإنصاف المظلوم والمقهور والمنكوب، كما أن له خاصية الخلود، مثله مثل مرافقه عبر الرحلات العبورية الخضر، إلا أن ما يميزه على الخضر وغيره من الشخصيات الطقسية هو خاصية ظهور الرب له وحواره معه، الذي قد ينم في بعض النصوص عن تقريع الرب له، كما في «موسى والزانية» التي حملت في الحرام ووضعت طفلا سفاحا في خلاء الجبال، وحرقت المولود وذرته في الهواء.
وفي بكور اليوم الثاني خرجت لموسى في خلا الجبال وجلست له في طريقه وسألته: «رايح فين؟» قال موسى: «رايح أقابل ربنا، عندي ميعاد معاه.»
فطلبت منه أن يسأل لها الإله كيف تتصرف بعد أن حملت حراما وولدت وحرقت ابنها، وعندما ينسى موسى - أو هو يتناسى - بدافع الحياء والخشية أن يسأل لها الرب ثلاث مرات، يبادره الرب ذاته في المرة الرابعة: «يا موسى، لما بني آدم يحملك أمانة توصلها لي، لم لا توصلها؟» وعندما برر له موسى خشيته، قال له الرب: «إنت اختشيت من البنت الزانية دي، وهيه ذنبها أخف من ذنب أمك.»
كما يحفظ هذا النص الشفهي
1 «موسى والزانية» الاسم العربي لوالد موسى «أبو بكر».
2
وحكايات موسى بشكل عام مع الخطايا والزانيات تنتهي، خاصة النص الذي أورده بكثرة الكتاب الكلاسيكيون العرب، مثل: الطبري والمقريزي والثعالبي عن الزانية الحامل التي استعان بها قريبه الغني صاحب الكنوز «التي تسد عين الشمس» قارون، لكي تواجه موسى يوما وهو يخطب في الناس في الأسواق قائلا: «لا تكذب، لا تزن.» وهنا تعترضه الزانية معرية بطنها وفرجها على رءوس الأشهاد ومواجهة بأنه «يخطب في الناس: لا تكذب، لا تزن، وابنك في بطني يا موسى.»
أما المرادف الشفاهي لهذا النص الذي جمعته من إحدى القرى المتاخمة لبحيرة قارون بالفيوم، فيرد على النحو التالي:
كان قارون صاحب بركة
3
قارون، والقصر اللي جنبها راجل فقير، اتجوز سيدة قريبة لسيدنا موسى، وكانت تلك السيدة على علم بعلم الكيمياء، فتعلم منها صناعة الذهب، وأصبح غنيا عنده مال يسد عين الشمس، وكان موسى يخطب في الناس قائلا: الزاني
4
يجلد مثل الزانية.
وتستمر الحكاية الشفاهية بعد ذلك دون اختلاف كبير عن نظيرتها المدونة في مواجهة الزانية له.
لكن ما يلفت النظر في نصوص الحكايات الاستطرادية التي تحكي عن صراع موسى مع فرعون الذي ولد في عصره، وكيف أن والد ذلك الفرعون كان اسمه «مصعب»، وأنه كان راعيا للأبقار والأغنام إلى أن تنبأت له بقرة بأن مولودا من صلبه سيكون من أهل جنهم، وتحققت النبوءة حين ولدت زوجته ولدا شقيا اسمه «عون»، عندما كبر أصبح قاطعا للمقابر وفرض إتاوة على الموتى، إلى أن صارع ملك مصر وقتله واستولى على العرش، وأصبح فرع: عون أو فرعونا، ووصل به التكبر إلى حد أنه طالب شعبه بالسجود له قائلا: أنا ربكم الأعلى.
إلى أن رأى رؤيا مزعجة، فذهب إلى المعبرين
5
وعرف منهم بخبر الولد الذي سيولد لينتقم منه ويسلبه عرشه، وأمر بقتل عشرين ألف طفل.
ويلاحظ هنا أن هذا النص يحفظ لوالد موسى عمران أنه كان يعمل وزيرا لفرعون ملازما له، حتى إنه ليلة مولد موسى خبرت السحرة فرعون وحددت له أن الولد الذي ولد في تلك الليلة هو قاتله، حتى هاجمت جيوشه بيت الوزير، فألقت أم موسى - وكانت تخبز - بابنها في شروقة الفرن المشتعل، وحين أخرجته عقب التفتيش كان يضحك لها، إلى أن صنعت له صندوقا «على قده»، وألقت به في النيل (وهي كما يلاحظ جزئية أوزيريسية).
بإزاء شخصية الأم، لقد حاول مرارا انتزاع الطفل موسى من أحضانها ليقدمه لفرعون بنفسه لكي يقتله.
لكن الأم خبأته في جحر أو غار مهجور،
6
حيث كان يستحلب أصابعه لبنا وعسلا، على عادة الأطفال القدريين.
كذلك يلعب لبن ثدي الأم دوره السحري كأثر - أو أتر - سحر المشاركة كشيء مستمر الاتصال بحسب تفسير فريزر.
فقبل أن تضعه الأم في الصندوق، طلبت من الله ثاكلة أن يرد لها لبن الدفاتن إلى أن استقر الصندوق بالطفل داخل سراية فرعون المشادة على النيل، وكيف أنه أشفى ابنة فرعون من برصها.
كذلك يكشف لنا هذا النص، كيف أن زوجة فرعون السيدة آسيا كانت على نقيضه، وأنها كانت «مسلمة» وأنها كانت جميلة، وكانت بكرا «لها 360 ضفيرة يعجبوا العايقين» بعدد أيام السنة القمرية.
بل هي نجحت في الدفاع عن طفولة موسى مرارا وإنقاذه من فرعون وجنوده، حين نتف ذقنه، وحين كسر له السرير الذي ينامان سويا عليه نصفين، ثم كيف أن «طقة» أكل فرعون كانت جملا صحيحا يقف في صينيته مستويا محمرا، ثم كيف صرخ موسى في الجمل كما لو كان بطلا شعبيا يستصرخ شعبه محرضا: «أنت منتظر لما يأكلك، قوم على حيلك.» فما كان من الجمل إلا أن انتصب على قوائمه - على مشهد من فرعون المذهول - هائجا وترك الصينية وجرى عبر ردهات القصر. وكان أن انطلق موسى بدوره جاريا فارا - كما يذكر النص - إلى بلد اسمها «مدين جنب جبل الطور»، وهي سيناء التي التقى فيها بشعيب،
7
وهو شيخ كفيف، ثم كيف رعى
8
غنمه - 12 ألف رأس - لمدة ثمانية أعوام، واتفقا على أن يأخذ شعيب ذكورها، بينما يقتصر موسى على الإناث.
وهنا يرسي النص ملامح موسى كتاجر سامي، مثله مثل سالفه يعقوب مع خاله لابان بن ناحور، الذي اعتبره فريزر مثالا للتاجر السامي الحريص على الكسب.
فلا يغفل هذا النص الشفهي الذي جمعته من رواة الفيوم، كيف أن اختيار موسى لإناث الغنم ملأ الدنيا عليه بالغنم والثراء.
كذلك لا يغفل النص الشارة السلفية لموسى، وهي عصاه التي أهداها له شعيب قائلا: «دي عصا آدم اللي جبرين نزلو بها من الجنة، حافظ عليها يا موسى دي بالليل تغنيلك وتسليك وتنور لك طريقك وتنصرك على أعداءك.»
ويمتاز هذا النص باحتفاظه بأحداث وجزئيات مضافة على ما ورد، سواء في المدونات العبرية أو الإسلامية - فيما بعد - من ذلك ولادة زوجة موسى، حين أخذها عائدا إلى مصر بجوار جبل الطور، وحين تركها ليبحث لها عن ماء أو نار، إلى أن ظهر له الرب على هيئة نار، وحادثه وطلب منه الذهاب لهداية فرعون، وكيف أن عجز لسان موسى يرجع إلى جزئية الجمرة والتمرة التي جعلته يلثغ «بل أنا ثقيل الفم واللسان»، حين طلب من الرب اصطحاب أخيه هارون، الذي كان ما يزال يعمل في قصر فرعون ليلا؛ حيث كان فرعون نائما، وهارون يسهر على حراسته.
وكيف قتل فرعون سحرته السبعين
9
بعد أن تفوق عليهم موسى بعصاه، فقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم بعد أن آمنوا - وكبيرهم الأعمى - بموسى؛ لتفوقه عليهم كساحر.
وحين احتجت السيدة آسيا وماشطتها على صلب السحرة والكهنة؛ ألقى بها داخل «صندوق مليء بالزيت المغلي ومعها أولادها وماشطتها».
بل إن الاختلاف والإضافات التي يجيء بها هذا النص، عما سبقه من مدونات عبرية وعربية، تصل إلى اللعنات العشر، ومغزاها خيانة فرعون وخبثه لوعده وكذبه، وجزئية الكذب أكثر صدقا واتساقا وانتماء لملامح التراث المصري الفرعوني منه بالنسبة للسامي.
فكما هو متفق عليه، فإن حكايات الصدق والكذب الخرافية والمحلية - على السواء - تشكل ملمحا تراثيا مصريا رئيسيا، مع الأخذ في الاعتبار أن تراث الحكايات المصرية في عمومه يعتبر واحدا من أكبر الخزانات أو المخزون العالمي، جنبا إلى جنب مع الآري الهندي والسامي العربي.
وأشهر هذه الحكايات الفابيولا البردية التي اكتشفت عام 1930 عن الصدق والكذب، وكيف أنهما كانا أخوين تنازعا فيما بينهما، على عادة نظائرها من الحكايات الخرافية.
ويمكن القول بأني جمعت مجموعة لا بأس بها من تنويعات النماذج الأم - للبردية المصرية - التي ما تزال تعيش على الشفاه.
كما يلاحظ بوضوح تام أن الصراع بين موسى وفرعون صراع عقائدي أضفى عليه الراوي المسلم طبعا أنه صراع بين الكفر والإيمان أو الإسلام.
يضاف إلى كل هذا تأكيد شخصية موسى كبطل شعبي محوري يناصر الضعفاء، ويجمع - حين ينادي على الرحيل أو الخروج - 70 أو 80 ألفا من مناصريه؛ أي اليهود المضطهدين.
كما يلاحظ أن للأرقام - التي ترد في هذا النص - دلالتها الأسطورية والتقويمية القمرية وليست الشمسية مثل الرقم 360.
وفي النهاية يرجح هذا النص الاحتمال الشائع القائل بأن الفرعون الذي كان يحكم مصر في تلك الفترة منتصف الألف الثانية ق.م؛ كان ساميا، ولنقل: آسيويا دخيلا بعامة.
من ذلك اسمه الذي يرد في المصادر العربية، على أنه كان يدعى «الوليد بن مصعب»، يضاف إلى هذا جزئية ذقنه الطويلة، وفكرة أو مهانة «نتف الذقن»، وأكل لحم الجمل، وصلب أعدائه من سحرة وكهنة، إلى آخر ما يضفيه عليه النص من ملامح سامية أكثر منها مصرية حامية.
أما فيما يتصل بجزئية طرح الطفل موسى في الماء - النيل - التي ترد بكثرة في الأساطير السامية وغير السامية، مثل: سرجون ملك بابل القرن الثالث ق.م، وتراخان ملك جيلجيت في الهملايا، ثم المسيح.
فأجدني أميل إلى اعتبارها فكرة مصرية؛ حيث إن لروح النيل - حابي أو أوجيجا - قدرة إيصال الغريب بلده أو شاطئه الآمن كما حدث مع أوزيريس، وحسن المغني في بالاد حسن ونعيمة،
10
وهو ما يخالف تفسير فريزر في أن «طرح الطفل في الماء إثر ولادته لإثبات شرعية بنوة الطفل أو عدم شرعيته، فإذا طفا الطفل فإنه يكون ابنا شرعيا وإلا فإنه يكون ابن زنا».
وفي بعض البالاد التي جمعتها من مصر الوسطى، ما إن نزلت آسيا زوجة فرعون الثمانين سلمة الموصلة إلى النهر، ووجدت الصندوق الذي بداخله الطفل موسى حتى:
بشرت بالماء وقالت: من أنت؟ من أنت؟ من أنت؟
فهمس موسى في أذنها قائلا: «أنا صاحب الحفلة اللي تعلمي بيها.
لا يخفيك شورى ولا قولي ... أنا موسى.»
وهنا تتخذ السيدة آسيا مكان الأم بالنسبة لموسى منذ أن انتزع من صدر أمه، وأحيل بينه وبين لبنها.
وهي جزئية ترد بكثرة وصاحبت مولد الآلهة والأبطال: روميلوس، وزيوس الكريتي، وليولياو، وإبراهيم الخليل، وسميراميس.
ففي كل الحالات ينتزع الطفل من أمه، وغالبا ما تأخذ مكان الأم عيلة أو سرب من الحمام أو راع، ثم حالتنا مع السيدة الإلهة آسيا، فهي المرحلة التي يجتازها الطفل البطل القدري بادئا بالتخلي عن الأم، والتي يفسرها فريزر بقتل الأم، مرورا إلى القدسية أو البطركية، تبعا لشعائر الانتقال الأخرى المصاحبة لنمو الطفل، وهو الاصطلاح الذي أرساه للمرة الأولى أرنولد فان جنب، مشيرا إلى «الشعائر المصاحبة لكل تغيير مصاحب للبطل في المكان أو المكانة أو الوضع الاجتماعي أو العمر»، مثل ما صاحب موسى من أطوار، بدءا ببطن أمه وكيف كان يختبئ من وضع لآخر، تبعا لتفتيش أيدي جند فرعون - ونمرود في حالة سالفه إبراهيم - ثم انتزاعه من صدرها والحيلولة بينه وبين لبنها، إلى التعميد بالماء، وقصر فرعون، وقواه النامية كبطل مدهش في صراعه مع فرعون، لحين هروبه إلى سيناء للحصول على الشارة أو الطوطم السلفي وهي العصا، ومخاطبة الرب، والعودة لفرعون، ثم اللعنات أو الضربات العشر التي ألحقها موسى وأخوه الكاهن هارون بفرعون وطبقته من الكفرة وجنوده، وليس المصريين كما تشير وتجمع المصادر الدينية من عبرية وعربية، بالإضافة طبعا إلى الإسلامية.
وعبر شعائر انتقالاته يعود موسى إلى مكالمة الرب طالبا عونه من فرعون، ذلك الذي:
يفعل ولا يبالي،
يفرد بطون الحوامل،
ويقتل الأطفال،
ومنك لا يبالي،
لحين الخروج الذي يرى البعض أنه تم عبر برزخ السويس.
ويقال إن موسى لم يحكم القبائل الإسرائيلية - منذ الخروج إلى سيناء - كملك أو أمير أكثر من كونه قاضيا أو كاهنا - أي بطرق - أو شيخ قبيلته، إذ إن طالوت كان أول ملوكهم.
ولا بأس هنا من الخروج قليلا عن موضوعنا للتعرض السريع لهذا التراث العبري السامي، خاصة وموضوعاته وجزئياته ستطالعنا كثيرا من النصوص التالية:
فكان يشوع بن نون أول مؤسس لإسرائيل، وتروي أساطيرهم - المصاحبة للفتح واغتصاب أرض فلسطين عقب موت موسى - تاريخا غيبيا غاية في الغرابة والتعقيد، منها أن يشوع أقام بهم في التيه أو سيناء ثلاثة أيام، إلى أن جاء بهم إلى نهر الشريعة - الذي هو أحد أفرع نهر الأردن - في العاشر من نيسان من السنة التي توفي فيها موسى، ولما لم يستطع عبور نهر الأردن هذا، أمر حاملي تابوت العهد «الذي فيه الألواح الشرائح» بأن ينزلوا إلى حافة الشريعة، فوقفت مياه الشريعة حتى انكشفت أرضها، وعبر بنو إسرائيل بعد ذلك، «ثم نزل بهم يشوع فحاصر أريحا» وصار في كل يوم يدور حولها مرة واحدة، وفي اليوم السابع أمرهم بأن يطوفوا حول أريحا سبع مرات، وأن يصوتوا بالقرون - الأبواق - فعندما فعلوا ذلك هبطت الأسوار ورسخت وتساوت بها، ودخل بنو إسرائيل أريحا بالسيوف وقتلوا أهلها،
11
وكانوا خليطا من الأموريين - 12 ملكا - والفرزيين والكنعانيين والجرجاشيين والحويين واليبوسيين، ثم سار بهم إلى يشوع إلى نابلس، إلى المكان الذي بيع فيه يوسف، ودفن عظام يوسف هناك.
فيقال إن موسى كان قد استخرج جثمان يوسف (من نيل مصر) وأخذه معه إلى التيه، فبقي معهم أربعين سنة التيه، إلى أن تسلمه يشوع عقب موت موسى.
وبعد أن تملك يشوع فلسطين وفرق عماله على مدنها، وبعد أن حكم الأسباط 28 عاما، مات ودفن في موضع يقال له كفر حارثة، وفي تاريخ ابن سعيد المغربي «أن يشوع مدفون بالمعرة،
12
وخلفه فنحاس بن هارون بن عمران، وطالب بن يوفنا»، فكان فنحاس بن هارون هو الكاهن المنحدر من سبط لاوي، وهي القبيلة التي نوطت بها الكهانة وسدانة بيت المقدس، مثلما كانت قبائل جرهم هي سدنة الكعبة عند العرب الحجازيين، بيدهم مفاتيحها، وعنهم توارثت قريش الكهانة وسدانة البيت.
وتقليد حصر الكهانة والاشتغال بالأمور اللاهوتية في قبيلة أو سبط، تقليد موجود بكثرة عند كافة الأمم السامية وغير السامية، مثل كهنة آمون في مصر، والكلدانيين - أقدم سكان بابل - في العراق، كذلك قبيلة أو سبط الماجي عند الفرس الآريين المجوس.
فكان فنحاس بن هارون هو الكاهن المقدم على الحاكم الذي وقع اختياره من تحالف هذه القبائل ومعظمهم من الكلبيين.
ويقال إنهم عضوا وعبدوا الأصنام في عهد فنحاس بن هارون هذا، فتسلط عليهم وتملكهم كوشان ملك الجزيرة - جزيرة قبرص - وقيل: بل كان كوشان المذكور ملك الأرض، وكان من ولد العيص بن إسحق، فاستولى على بني إسرائيل واستعبدهم ثماني سنين، «بعدها تولى أمرهم أحد المنحدرين من سبط يهوذا، فعقد صلحا مع صاحب الجزيرة، واستمر حكمه فيهم أربعين سنة، وبعد وفاته عادت القبائل الإسرائيلية إلى ارتكاب المعاصي وعبادة الأصنام، فتملكهم
13 «عفلون ابن ملك مواب من ولد لوط» وحكمهم لمدة 18 عاما، إلى أن رسا الحكم فيهم ل «أهوذ» - من سبط بنيامين - لمدة ثماني سنين، وخلفه «شمكار» الذي أعقب وفاته وقوع الإسرائيليين في أيدي أحد ملوك الشام واسمه «يابين»
14
الذي ترد خرافاته ومأثوراته عن البغض، وكذا نكائده وشروره بكثرة، فاستعبدهم لمدة عشرين سنة طحنهم فيها طحنا، وحوله نسجت عديد من الخرافات والحكايات المتواترة التي ما تزال تحفظ له اسمه وهو «يابين»، أو «بمعنى الشؤم مرادف الكوارث والبلاوي»، إلى أن قام فيهم حاكم من سبط «نفتالي» يدعى «بارق»، فقتل البين بمساعدة امرأة عاتية تدعى «دبورة» كانت قاضية عليهم، فقهرا البين أو سيسرا،
15
وحكما إسرائيل أربعين عاما.
وتعتبر هذه القاضية الكاهنة «دبورة» أقدم شاعرة في تاريخ الآداب العبرية، ولقد أنشدت قصيدة معروفة باسم «أغنية دبورة» تعد أقدم نصوص الآداب والميثولوجيا اليهودية، فيقدر عمر أغنية دبورة بحوالي 1296 عاما ق.م.
16
وموضوع القصيدة حول ذلك النصر الذي أحرزوه على الكنعانيين الشوام، إذ إن امرأة عبرية تدعى «ياعيل » تمكنت من قتل «سيسرا» ملك الكنعانيين، وفيها قالت دبورة: «تبارك على النساء في الخيام ياعيل، طلب ماء فأعطته لبنا في قصعة العظماء ، قدمت زبدة أمدت يدها إلى الوتد، وضربت سيسرا وسحقت رأسه، شدخت وخرقت صدغه، وبين رجليها انطرح سقط اضطجع.»
لكن بعد هذه الفترة عادوا إلى الإغراق في الوثنية بلا حاكم لمدة سبع سنين، إلى أن غزاهم الكلدانيون المديانيون أو الإسماعيليون، «وإنه كان لهم أقراط ذهب لأنهم إسماعيليون» وأخضعوهم سبع سنين، فخلصهم «جدعون» وحكم أربعين سنة، وتمثل دور جدعون هذا في أنه حال دون تدخل الميديانيين،
17
وكانوا أيضا خليطا من قبائل عربية وعبرية، منحدرين أسطوريا من رحم «قطورة» التي تزوجها إبراهيم الخليل عقب وفاة سارة، ومنها جاء هؤلاء المديانيون الذين تصدى لهم جدعون دون تسربهم داخل الإسرائيليين أو الأسباط.
كما أن جدعون أخر انتقالهم إلى الملكية، ورفض تقلد التاج إلى أن مات، وخلفه ابنه «أبيمالك»، ثم انتقل الحكم إلى سبط «يشوخر» لمدة 22 عاما، أغرقوا بعدها في ارتكاب المعاصي مما دفع بهم إلى أيدي العمونيين من بني لوط لمدة 18 سنة، إلى أن خلصهم أحد رجالهم ويقال له «الجرمي»، فطرد اللوطيين «وقتل من بني عمون خلقا كثيرا» وحكمهم ست سنين.
وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب، وعبدوا البعليم والعشتاروت - جمع عشترت - وآلهة آرام، وآلهة صيدون، وآلهة موآب، وآلهة بني عمون، وآلهة الفلسطينيين، وتركوا الرب؛ فحمي غضب الرب على إسرائيل، وباعهم بيد الفلسطينيين وبيد بني عمون، وانتقل الحكم إلى سبط يهوذا، فحكمهم رجل يقال له «أبصنؤ» سبع سنوات، وخلفه «ألون» من سبط زبولون لمدة عشر سنوات، وخلفه «عبدون بن هلال» 1130ق.م، من سبط إفرايم بن يوسف، ثماني سنين، ومن جديد تفتت شملهم، فتملكهم الفلسطينيون لمدة أربعين عاما، إلى أن خلصهم «شمشون بن مانوح» من سبط دان. وكان لشمشون قوة عظيمة، ويعرف بشمشون الجبار، فصد الفلسطينيين ودبر بني إسرائيل عشرين سنة، ثم غلبه أهل فلسطين وأسروه ودخلوا به إلى كنيستهم، وكانت مركبة على أعمدة، فأمسك العواميد وحركها بقوة حتى وقعت الكنيسة ، فقتلته وقتلت من كان فيها من أهل فلسطين، وكان منهم جماعة من كبارهم. بعدها ظلوا عشر سنوات بلا مدبر، إلى أن آل الحكم مرة ثانية إلى سبط لاوي، فملكهم علي أو «عالي بن هارون بن عمران»، ويقال إنه كان حاكما صالحا، دبر أمرهم لمدة أربعين سنة، وخلفه صموئيل النبي لمدة 11 عاما، وبهذا انتهى حكم القضاة أو دولة القضاة التي حكمت إسرائيل لمدة 493 سنة، منذ وفاة موسى الذي اتخذ بداية للتاريخ اليهودي.
18
وتجيء بعد ذلك دولة ملوكهم، فملكهم «شاول» وهو طالوت بن قيس من سبط بنيامين - ولم يكن طالوت من أعيانهم، وقيل إنه كان راعيا، وقيل سقاء، وقيل دباغا - فملك طالوت سنتين، قاتل خلالها جالوت أحد جبابرة الكنعانيين، وكان متملكا على بعض جهات فلسطين، «وكان من الشدة وطول القامة بمكان عظيم، فلما برز للقتال لم يقدر على مبارزته أحد». وتجيء بعد ذلك فكرة أو تضمينة الإله أو البطل المحجب، ذلك الذي لا يمكن اختراق جسده وقتله إلا بمواصفات معينة، كأن يضرب مرة واحدة لا غير - «ضربة الرجال ما تتناش» - مثلما يحدث بكثرة شديدة في خرافات الجان والخوارق، أو كأن يكمن مقتله في موضع معين من جسده مثل كعب أخيل، أو كأن يعلو رأسه موسى وقص الخصلات السبع من شعر شمشون، أو أن يصاب البطل بين عينيه، أو يضرب بالعصا «التي في آخرها رأس الثور» كما في الأساطير الفارسية، كما قد يكمن قتل البطل في تابو معين.
وأشار فريزر إلى وجود هذه الجزئية في ملحمة الملوك للشاعر الفارسي الفردوسي، خلال الصراع بين رستم بطل الفرس وخصمه أسفنديار، فكانت سهام أسفنديار لا تؤذي خصمه رستم؛ ذلك لأن زرادشت كان قد حجب جسده ضد كل أخطار أعدائه، إلى أن دل طائر الرب أسفنديار على مقتل عدوه، وذلك بنشر النباتات في عينيه وإصابته.
وفي هذه الملحمة العبرية عن صراع طالوت وجالوت، والتي مهدت لظهور النبي الملك داود إلى الوجود كقاتل قدري محدد، كذلك البطل الأسطوري المحجب جالوت جبار الكنعانيين الفلسطينيين، فيقال إن النبي صموئيل «ذكر علامة الشخص الذي يقتل جالوت، فاختبر طالوت جميع عسكره فلم يكن فيهم تلك العلامة سوى داود».
كما أن «طلسم» أو «تابو» داود تمثل في قتله لعدوه المحجب جالوت عن طريق انتقائه، أو
19 «انتخابه خمسة أحجار ملس من الوادي»، وتقدم داود مواجها عدوه جالوت وبيده عصا لا غير، وكان قد سبق له رفض ارتداء ملابس الملك شاول وعدة حربه، حتى إنه عندما واجه داود عدوه الفارس المحجب جالوت استفزه جدا منظره، فصرخ في وجهه:
20 «ألعلي أنا كلب حتى إنك تأتي إلي بعصا؟!»
وترد جزئية الأحجار الخمسة التي انتقاها داود وقتل بها عدوه في الميثولوجي العربي بكثرة شديدة، مثل: الطبري والمسعودي والزمخشري وغيرهم، فتضيف الميثولوجيا العربية أن الأحجار الخمسة كانت تمثل: «الله وهارون والأنبياء الثلاثة».
21
فمر بحجر فقال: يا داود، خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل جالوت، فإني حجر يعقوب. ومشى إذ مر بحجر آخر فقال: يا داود، خذني تقتل بي جالوت، فأنا حجر إسحق. فبينما هو ماش مر بحجر فقال: خذني، فإني حجر إبراهيم.
فكان صراع تلك القبائل العبرية الهابطة إلى أرض الميعاد - حوالي أوائل القرن العشرين قبل الميلاد - تحدوها أسطورة أبوية، تخطط لهم وترسم أرض «اللبن والعسل» في فلسطين المغتصبة مجالا لصراعهم الدموي المتواصل مع جيرانهم من السكان الأصليين أو الوطنيين، وهم ما عرفوا ب «الأقوام السبعة» في ربع الشام وفلسطين والأردن، وهي ما كانت تعرف قبلا بأرض الكنعانية أو كنعان الأم، وطليعتها فينقيا أو بلاد الأموريين، وبقية جيرانهم من آراميين وأدوميين نسبة إلى الرجل الأحمر: العيس بن إسحق، واللوطيين وأشقائهم العموينين والموابيين من رهط لوط، وهم الذين خلفوا اسمهم على العاصمة الأردنية عمان.
وكان لمصر بالذات اليد الطولى كمؤثر حضاري راسخ على طول شواطئ البحر المتوسط منذ أقدم العصور، إلى جانب لجوء العبريين إلى مصر والإقامة فيها أكثر من قرنين من الزمن قبل نزولهم واغتصابهم فلسطين الذي نحن بصدده.
بل إن هذه القبائل العبرية كانت تحت التأثير الحضاري العقائدي لسابقيهم من الكنعانيين والفلسطينيين، وما يتفرع عنهم من أقوام وقبائل منذ خروجهم من مصر، ونزولهم المدن والدويلات الفلسطينية، بمعنى أن التأثير المصري انتقل إلى الكنعانيين، وعنهم تواتر إلى هؤلاء العبريين، فلقد
22 «تركوا الرب إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر، وساروا وراء آلهة أخرى من آلهة الشعوب الذين حولهم وسجدوا لها»، بل إنهم تزاوجوا بهم «فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحيثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين، واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء، وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا آلهتهم».
بل إن هناك من يرى أن ثمة
23
رابطة دموية محققة كانت تربط هذه الهجرات للقبائل العبرية، وأنها كانت مزيجا لأصول دموية مختلفة، من بينها الآرامي والعبراني والكنعاني والعربي والمصري، ويرى أصحاب هذا الرأي أنه كانت هناك قبائل عبرانية، إلا أنها كانت
24
أدنى منزلة من حيث وضعها الحضاري والاجتماعي، وهم من تعارف عليهم بالرهط الواطي «عبريم».
وكانوا يقيمون خلف الأردن، ذلك بالإضافة إلى البدو الرحل من الأشدوديين والأدوميين والإسماعيليين، وهم أيضا منحدرون من أصول عربية نصف عبرية، إلا أنهم تبادلوا الزواج بشكل أوسع بجيرانهم العبريين، مثل: الموابيين والعمونيين المنحدرين من لوط بن ناحور العبراني.
25
كما أنهم حاربوا
26
الهاجريين وخالطوهم بشكل متواصل، والهاجريون هم الفرع العربي المنحدر من هاجر، كما هو معروف، وكانوا يقيمون بالأردن، فيقال إنهم في أيام ملكهم شاول - الذي خلفه داود - «عملوا حربا مع الهاجريين، فسقطوا بأيديهم وسكنوا في خيامهم في جميع جهات شرق جاماد».
ويجيء ذكر الهاجريين - أو تلك القبائل الهاجرية المستعربة - في أحد أسفارهم الممنوعة
27
هكذا «وبنو هاجر أيضا، المبتغون للتعقل على الأرض وتجار مران وتيان، وقائلو الأمثال ومبتغو التعقل، لم يعرفوا الحكمة ولم يتذكروا سبلها».
ويلعب تابوت العهد بالنسبة لهذه القبائل السلفية دورا يفضي به إلى أنه كان بمثابة الطوطم السلف الأب حافظ عهد الآباء، ومفتقد ذنوب الآباء في الأبناء كشعار القبيلة المقدس، يتقدم القبيلة إلى ساحة القتال، ينتصر ويهزم ويأسر، ويوقع الشر بأعدائه: «لنأخذ لأنفسنا من شيلوه تابوت عهد الرب، فيدخل في وسطنا ويخلصنا من يد أعدائنا.» وعندما سمع الفلسطينيون هتاف الإسرائيليين حول تابوت العهد، خافوا وقالوا: «ويل لنا.»
وذات مرة أسر ذلك الطوطم - أو تابوت العهد - ووقع في أيدي الفلسطينيين، حتى إن الإسرائيليين قالوا: «قد زال المجد من إسرائيل.» أما الفلسطينيون فأخذوه إلى بيت إلههم داجون، والمتوارث منذ السومريين اللاساميين، الألف الثالثة ق.م. وداجون كان إلها زراعيا عرف بإله الحبوب، أخذه الفينيقيون عن البابليين، وكانوا يرسمونه على نقودهم «ملتحيا خصلات طويلة من الشعر، ممسكا بسمكة، وينتهي نصف جسمه الأسفل على هيئة ذيل سمكة مغطاة بالفلوس أو القروش، كما يبدو أن داجون في الميثولوجيا الفينيقية كان إلها بحريا، روى عنه عالم الأساطير «فيلو الدمشقي» أنه كان أول من عرف بخواص الحبوب الغذائية واخترع المحراث».
فألحق تابوت العهد الأهوال بالفلسطينيين أو العرب الأشدوديين، وكيف أنه كان يوقع بسكان مدنهم، وكلما حل مدينة حل الذعر والأذى والأهوال، فكان تابوت العهد يميتهم، ومن لم يمت معهم
28
ضرب بالبواسير، فصعد صراخ المدينة إلى السماء، وبقي تابوت العهد عند الفلسطينيين سبعة أشهر.
وخلفت هذه الحادثة تضمينة متواترة وموجودة بكثرة لدى ميثولوجيا العرب الجاهليين، بل هي ما تزال تتواتر في تراثنا الشفاهي حتى اليوم، وتتصل هذه التضمينة بتقديس عتبات البيوت أو مداخلها.
فذات مرة بكر الفلسطينيون فوجدوا إلههم داجون «ساقط على وجهه على الأرض أمام تابوت الرب، ورأس داجون ويداه مقطوعة على العتبة؛ لذلك لا يدوس كهنة داجون وجميع الداخلين إلى بيت داجون على عتبة داجون في أشدود إلى هذا اليوم».
خلاصة القول أن بقايا الحكايات والأساطير الموسوية والعبرية بعامة، يمكن الحصول على تنويعاتها ومتناثرات مأثوراتها وجزئياتها على طول رقعة بلداننا العربية، سواء أكانت مدونة أو شفاهية، ما تزال إلى أيامنا تواصل تواترها على الشفاه، خاصة مجموعة الحكايات أو بقايا الأساطير المتصلة بشخصية موسى.
ومن هنا فمثل هذه التركة المغلفة بشعائر الأنيمزم أو الروحانيات مجالي المستقبلي الوحيد هو الفولكلور بحكاياته ومأثوراته لا غير، ومعظمها سيطالعنا فيما يلي من نصوص مختارة ما بين حكايات خرافية، وبقايا أساطير، وحكايات فرفشة، وأخرى تعليمية وشعائرية.
حافظت قدر جهدي خلال سنوات جمعي الميداني لها على مجمل أبنيتها الخام أو التلقائية.
الفصل الرابع عشر
النصوص
نماذج منتقاة من الحكايات الشفهية
1
السمساية
مرة كان فيه ولد شاطر، راح البحر يصطاد، طلعتله سمكة قال: «دي من نصيبي .» روح البيت السمكة اتقلبت بقت ملكة جميلة قوي، بنى لها سراية وعاش معاها، لحد ما في يوم وهية طالة من الشباك، الملك شافها، قال: «عاوز دي.» بعت نده لجوزها، عشان يطلب منه طلب يعجزه وياخدها منه، قاللو: «عايز عنقود عنب يكفي الملك وجيش الملك.»
الشاطر روح البيت قال للملكة، بعتت جابت عنقود العنب من تحت الأرض.
الملك استعجب وطلب منه طلب تاني، قاللو: «يا ولد هاتلي
2
طفل لسه فيه خلاصه يسامرني.»
رجع الشاطر البيت قال للملكة، بعتت جابت ابن أختها اللي اتولد امبارح، والشاطر خده وراح للملك، سندوه على الكرسي من هنا ومن هنا قدام الملك، والطفل قال للملك: «المثل على الضيف والا صاحب البيت.» الملك قاللو: «المثل على الضيف.» الطفل اتنحنح وقاللو: «أنا عمري 60 سنة النهاردة، وزمان أيام الصبا، كانت أمي جابت كتكوتين صغيرين، ضربتهم موتهم بالعصا ما عدا كتكوت واحد، اتبطح ودمه نزل، فرشيت عليه شوية تراب، جافيهم نواية بلحة أمهات، كبرت ونبتت بقت نخلة، ومن حدف الطوب في النخلة بقت أرض حرتها وزرعتها سمسم، وفات علية واحد وقاللي: «يا جدع الأرض دي ما تزرعشي سمسم.» قعدت أجمع السمسم من الأرض، لميته ما عدا سمسماية واحدة غابت من زكيبة من الزكايب، فالزكيبة قالت: «أنا ما طربتشي إلا إن جتني السمسماية».»
3
الملك زعق وقال: «دا كداب.» والطفل قاللو: «طيب أنا كداب، وأنت يا ملك عايز تاخد مرات الرجل من حضنه ليه يا ملك؟»
الملك طق مات.
البنت حية
ابن ملك تحت الأرض، بيحب بنت واحد ملك.
لقي البنت ماشية في يوم في جنينة أبوها وحدها، فقرب منها، البنت سحرت نفسها فرخة، وابن الملك سحر نفسه ديك وجري وراها في الجنينة.
البنت اللي سحرت نفسها فرخة، اتقلبت فحل رمان، وابن الملك اللي ساحر نفسه ديك، راح يلقط حب الرمان، ما عدا حبة انقلبت حية، وجريت وراء الديك ، لحد ما لحقته، ومصته،
4
قتلته.
بني آدم غلب القرد
راجل قرداتي عجوز، عذب القرد اللي بيسرح بيه، القرد قطع السلسلة وهرب، دخل الجبل وفضل لحد ما قابل القرود.
القرود حاوطت بالقرد وسألته: «انت جي منين؟» قاللهم: «جي من البلاد اللي ساكنها البني آدم.» وقاللهم: «احنا بنقول على نفسنا إحنا قرود، لكن مفيش قرد على ضهر الدنيا إلا بني آدم.»
قالولو: «بني آدم، يعني إيه بني آدم دا؟» القرد قاللهم: «عايزين تشوفوه؟» قالوا كلهم: «نشوفو.»
كبير القرود قاللهم: «أنا حاروح أشوف بني آدم دا عامل إيه.»
راح قعد على الطريق على حافة الجبل، لقي طور بيجري بسرعة، سأله: «بتجري من إيه.» قاللو: «من بني آدم.» بعد شوية لقي جاموسة هايجة بتجري، القرد سألها: «بتجري من إيه؟» قالتلو: «حايكون من مين، من بني آدم.» وبعد كده لقي حمار وجمل بيجري ويهجن، وعرف إن كل الدنيا بتجري من بني آدم.
وبعد فترة لقي الراجل القرداتي العجوز ماشي سايب، فكبير القرود سأله: «إنت مين؟» قاللوا: «أنا بني آدم.» القرد قاللو: «إنت اللي الدنيا كلها بتجري قدامك؟» الراجل قاللو: «أيوه أنا.»
والقرداتي عزم على القرد: «تعالا نشوي دره.» القرد قام ومشي معاه، قعدوا تحت شجرة، والراجل قام جاب الدره وولع النار، ولف من ورا القرد ورمى عليه الحبل، وربطه في الشجرة اللي كان قاعد ساند ضهره لها، وسحب خرزانة سويس وضربه لما هرا
5
ضهره وعمله كمامة، وخده على البيت، ربطه في دار مكشوفة، ونده على مراته: «يا بنت سخني مية الدست.»
6
وجاب المية المغلية وهرا للقرد ضهره، فالقرد ما تحملش المية المغلية، راح قاطع السلسلة، وطلع جري على الجبل، القرود اتلمت عليه، لقوه مسلوخ من المية المغلية، ولما سألوه على بني آدم واللي حصل، قاللهم: «اسكتوا دا مجري الدنيا قدامه.»
القرود خدوا بعضيهم وراحوا للراجل الغيط، عشان ينتقموا من اللي عمله في كبيرهم.
الراجل أول ما شافهم نط طلع الشجرة ومسك عصا، واللي يشب من القرود يضربه بالعصا يطلع يجري.
القرود فكروا في فكرة، ركبوا على ضهور بعض فوق كبيرهم أبو ضهر مسلوخ، والراجل فوق الشجرة لما شاف إنهم حايحصلوه، وإن القرد اللي سلخه بالمية المغلية هو اللي تحت، صرخ: «يا بنت سخني الدست.» القرد افتكر وخاف وطلع يجري، والقرود وقعت عليه وطلعوا جري.
وبني آدم غلب القرد.
بمالي أفعل ما بدا لي
واحد غني كاتب على دكانه: «بمالي أفعل ما بدا لي.»
7
الملك والوزير فايتين يشوفوا الرعية، الملك قرأ المكتوب، ودخل على الراجل الغني سأله: «صنعة والا خلو بال؟» الراجل الغني قاللو: «صنعة.» الملك قاللوا: «طيب يا راجل أنا حاجوزك بنتي، ومن غير ما تشوفها ولا تتصل بها، عايزك تخلف منها في ظرف سنة، ولو اللي قلته دا ما نفدشي حاسيفك.» والملك خد الوزير ومشوا جوزوا الراجل لبنت الملك.
الراجل الغني اتقهر وقفل الدكان وروح، قابل واحدة عجوزة، ولما سألته عن سبب زعله حكالها على اللي حصل مع الملك.
العجوزة طمنته، وراحت عملت عروسة دهب بطول الراجل ودخلته فيها، وقفلت عليه من جوه، وحملت العروسة وراحت على سراية الملك دخلت عليه وقالتلو: «يا جلالة الملك دي كل ثروتي اللي حيلتي من الدنيا؛ العروسة دي، وأنا طالعة الحجاز وخايفة عليها، وقلت لنفسي: أنا ما آمنش حد إلا الملك يشيلها لي لما أرجع.»
الملك كان باني لبنته دي سراية جوا البحر وما فيش إنس يتصل بيها ولا يروح عندها، فقال: «دا أأمن مكان أشيل فيه عروسة العجوزة الدهب.» وبعت العروسة على هناك.
ولما الليل روق، الراجل الغني فتح العروسة من جوا وطلع منها، بنت الملك خافت، طمنها وقاللها: «ما تخافيش أنا جوزك.» وحكالها الحكاية، ووراها ورقة الجواز، فالبنت فرحت بيه، ونام معها في الليلة دي وحملت منه، وبعد سنة ولدت، وهوه خد المولود وراح حطه في حجرة الملك، استعجب وقال: «صحيح المال يفعل.»
8
وعفا عنه وصبح نسيب الملك.
الصمت حكمة
ملك أنجب من الدنيا ولد واحد، وكل الناس يقولولو: «دا ولد عبيط أهبل.» إلى أن كره الوالد ابنه، وقالولو: «دا ما بيتكلمش أبدا.» وشاروا عليه: «انت لازم تموته.» الملك نده لوزيره وأمره بأن يأخذ الولد يدبحه في الجبل، ويجيبله منه فنجان دم.
الوزير خد الولد، ونزل فسحه في المدينة وفاتوا على دكان العطار والنجار والجزار زي ما الولد طلب منه، ولما سأله، الولد نطق قاللو: «دكان العطار آخذ منه الصبر، ودكان النجار آخد منه الصمت، ودكان الجزار عشان كل دبيحة معلقة من عرقوبها.»
الوزير كتب اللي قاللو الولد في مكتوب، وحط المكتوب في جيبه.
ولما دخلوا الجبل، الوزير نام وترك بندقيته جنبه، فات طير من فوق رأسهم وقال: «كاك» الولد خطف البندقية، وأصاب الطير في مقتله، فالوزير قام من النوم مفزوع، سمع الولد بيقول: الصمت حكمة والسكات سلامة،
ولولا زعقة الطير ما كان صابه ندامة.
الوزير قام ملا فنجان دم من دم الطير وشووه وأكلوه، وأخد الولد من إيده وخبأه عنده في سرايته، ورجع للملك بفنجان الدم، وقاللو: «موته والدم آهو.» الملك سأل: «ما تكلمش؟» الوزير طلع المكتوب وقاللو: «اتكلم.» وعطاه المكتوب، الملك قرأه وصرخ في الوزير: «اسمع يا وزير إذا ابني ما رجعشي حالا حادبحك.»
الوزير: «عرفت إن الضنا غالي يا ملك؟!»
وراح رجع له ابنه.
عمايم على فهايم
راجل قاعد على بير ومدلدل رجليه في البير، وراجل تاني جه من وراه وقال: «سلامو عليكم.» فالراجل اللي مدلدل رجليه في البير، اترجف وقع في البير مات.
أهل الميت عرفوا اللي حصل، وعملوا حق على اللي رمى عليه السلام، وحكموا عليه بدفع 40 جنيه فدية.
الراجل استأنف الميعاد - الحق - وقبل الرجالة اللي حاتحكم في الميعاد ما تجتمع، راح اشترى مترين قماش، وفصلهم عمة كبيرة ولبسها، ودخل على الرجالة المجتمعين في الميعاد، لا سلام ولا كلام، ودخل قعد في أحسن حتة، وكل اللي قاعدين مندهشين.
وبعدين واحد من اللي قاعدين، قاللو: «عمايم على بهايم.»
الراجل رد عليه وقاللو: «اخرس يا ولد، دي عمايم على فهايم.»
فكبير الميعاد قاللو: «طيب وإنت داخل على رجالة ارمي السلام على أربعين راجل قاعدين.» فرد الراجل عليه وقاللو: «أرمي السلام على أربعين راجل قاعدين في - × - أربعين جنيه، أدفعهم منين؟! إذا كنت لما رميت السلام على اللي راح، عايزين تدفعوني 40 جنيه.»
كبير الميعاد قاللو: «عمايم على فهايم .»
وطلع الراجل براءة.
النبوت
9
راجل شقي قتل من الدنيا ميت نفر إلا نفر، وفي ليلة دخل الترب بالليل، لقي واحد بيقطع في جسم واحدة ست ميتة، قام دخل على الراجل التربة وضربه بنبوته أتم المية.
ولما اللي القاتل جاء عليه الدور ومات، وزنوا جميع سيئاته لقوها تقيلة قوي، لكن لما حطوا قصادها الست الميتة اللي الراجل كان عايز يفعل فيها في التربة وهوا ضربه موته بالنبوت وتم المية، وزنت الحكاية دي سيئاته كلها، فدفنوه وغرسوا نبوته على تربته، في الصبح نبت النبوت وأزهر.
باع أبوه وتأله بأمه
كان فيه راجل عمدة، عنده ابن وحيد، الولد طلب من أبوه، قاللو: «استريح إنت يابا، وأنا حامسك العمدية بدالك.» أبوه قاللو: «أنا لازم يا ابني أمتحنك الأول.» قاللو: «طيب امتحني.» قالو أبوه: «لو جالك اتنين متخاصمين مع بعض، واحد عاقل وواحد مجنون، تطلع العيب على مين فيهم؟» ابنه قاللو: «أطلع الحق على العاقل.» قاللو: «طيب لو كان لتنين المتخاصمين مجانين، تعيب مين؟» قاللو: «أراضيهم وإن ما نفعش أعيب نفسي.» قاللو: «طيب لو كانوا اتنين عاقلين؟» قاللو: «العاقلين ما يجوش عندي.»
أبوه انبسط واداله العمدية، أصبح العمدة، أول أسبوع طلع أبوه السوق باعه واشترى حصان، تاني أسبوع طلع أمه السوق باعها واشترى سيف،
10
ركب حصانه في وسع الجبل، جاع لقي غزالة اصطادها وشق بطنها بالسيف، وطلع ابنها من بطنها، حلله ودبحه وشواه واتغدى، وقام ركب الحصان تاني بسرعة لحد ما عطش، نزل من عليه وعصر عرقه وشرب منه، مشي شوية لقي مدينة دخلها لقي 99 رأس معلقين على السور، سأل إيه الحكاية، الناس دلوه وقالولو: «بنت الملك بتقول حزر
11
اللي يحلها يتجوزها، واللي يعجز يقطعوا رأسه ويعلقوها.» دخل على بنت الملك، وقاللها: «أنا حاحل الحزر.» بنت الملك بصتله وما سألتش فيه، قاللها: «هاه، أقول أنا والا تقولي إنتي.» قالتلو: «قول إنت.» قاللها : «طيب.» وقال: «عجبي على راجل باع أبوه واتأله بأمه،
وأكل حي من ضهر ميت،
وشرب ميه لا هي في سما ولا هي في أرض.»
بنت الملك لما غلبت، نزلت لأبوها وقالتلو على الحزر، أبوها جمع العلما وقاللهم، محدش عرف يحل اللغز، الملك بعت للولد، والولد حل اللغز، قاللهم على حكايته واللي حصل معاه، واتجوز بنت الملك، خدها ورجع حالا على أبوه وأمه واشتراهم ورجعهم من جديد، وبقي عمدة وشيخ عرب ونسيب الملك.
الغزالة
كان فيه ملك من ملوك زمان، خلف من الدنيا ولد واحد، مرضعه
12
خده وعاشوا في قصر تحت الأرض، وجاله ناس تعلمه القراية والكتابة، وفي يوم لقي نفسه وحده في القصر، وقرأ الورق لقي إن فيه حاجة اسمها الدنيا، ولقي الورق بيتكلم عن شجر وسما وطيور ومخاليق، الولد قال: «أنا لازم أطلع أتفرج على الدنيا.» والده الملك أمر بخروجه، وضربت المزازيك، والولد ركب حصانه وخد سيفه ومشي في الجبل، لقي تلاتة زيه بالضبط ماشيين يتفرجوا على الدنيا، تعرفوا على بعض، ومشوا سوا لحد ما قابلتهم غزالة، قالوا: «إحنا لازم نمسكها.» الولد قاللهم: «اللي تفوت من تحت حصانه نقطع رقبته.» والغزالة حاورتهم همه الأربعة لحد ما فاتت من تحت حصان ابن الملك، وجريت في الجبل، جري وراها بالحصان وفضل وراها لحد ما لقيها بنت جميلة جدا بنت رجل عربي، أول ما دخلت خيمتها وبقت بنت وبصتله بعينها، الولد وقع من على الحصان ولحقوه بالمية، ورشوا على وشه لحد ما فاق، وقابل أمها وأبوها، وطلب منهم إنهم يجوزوه بنتهم، وقالهم: «أنا ابن الملك الفلاني.»
أهل البنت قالولو: «يا ابني إحنا منجوزشي بناتنا إلا لولاد عرب زينا.» والولد صمم وقال: «أنا لازم أتجوزها.»
قالولو: «طيب روح هات أبوك وتعالى نكتبلك عليها.»
الولد راح حكى لأبوه على اللي حصله، وطلب منه إنه يتجوز البنت دي، وعلى ما جاب أبوه وجه لقي العرب شالوا من الحتة اللي كانوا نازلين فيها، ولقي البنت كتباله مكتوب معلقاه في شجرة، قرأ المكتوب لقي البنت بتقولو: «احنا رحنا وادي العراق، وإذا كنت مشتاق تعالا العراق.»
الولد استأذن من أهله وخلاهم رجعوا، وهو مشي على طول على وادي العراق، نام بالليل عند واحدة عجوزة، وسألها على البنت، قالتلو: «أيوه عرفاها، بس دول كتبوا عليها لابن عمها.» فبعث العجوزة راحت قالت للبنت، والبنت قالتلو: «أنا رايحة نجع ابن عمي. أشوفك في الهودج.»
راح لبس وعمل نفسه راجل عربي، وطلع الجمل ودخل الهودج، وسرقها منه وخدها ورجع على مملكة أبوه اتجوزها هناك.
بائع الكلام
كان فيه جدع شاب أبوه عطاه ثلاثين جنيه عشان يتجوز، وهو بيدور على بنت يتجوزها سمع منادي بينادي: «يا مين يشتري الكلام.» قاللو: «انت بتبيع كلام؟» قاللو: «أيوه، الكلمة بعشرة جنيه.» الولد اشترى تلات كلمات بتلاتين جنيه.
أول كلمة: حبيبك اللي تحبه ولو كان عبد نوبي. والثانية: ساعة الحظ ما تتعوضشي. والتالتة: من آمنك لا تخونه، الله على
13
كل خاين. الولد دفع التلاتين جنيه ومشي يدور على مكان يبات فيه، لقي واحد عنده طاحونة ساكنها الجن، واللي يبات فيها يصبح الصبح ميت، صاحب الطاحونة قاللو: «تشتغل يا ابني.» قاللو: «أشتغل.» ودخل ينام في الطاحونة، طلعوا عليه الجن نص الليل، واحدة بيضة وواحدة سودة، وسألوه: «تحب الست البيضة والا السمرة.» افتكر الولد الكلمة الأولى اللي كان اشتراها، قاللهم: «حبيبي اللي أحبه، ولو كان عبد نوبي.» فبنات الجن سابوه، إنما لو كان فضل ست عن التانية كانوا قتلوه زي ما كان بيحصل مع كل اللي باتوا في الطاحونة قبله.
صاحب الطاحونة جاب الكفن الصبح وراح الطاحونة، بص لقي الولد صاحي فشغله عنده وبقى يقفل الطاحونة كل ليلة ويرجع ينام في حضن مراته.
وبعدين صاحب الطاحونة طلع يحج، وقال للولد: «خلي بالك من البيت لحد ما أحج وأرجع.» ولما غاب الراجل الست مراته عجبها الولد الطحان، وكانت كل يوم تطلب منه إنه ينام معاها والولد يماطل، ويفتكر الكلمة اللي شراها: «من آمنك لا تخونه.»
ولما الراجل رجع من الحج، مراته جريت عليه عيطت وقالتلو: «إنت سافرت من هنا، والولد الطحان طلب إنه ينام معايا.»
الراجل نده على السياف، وقاللو: «روح الطاحونة، وأول واحد تلقاه في وشك بكرة الصبح بدري موته وارميه في الطاحونة.»
الولد في الليلة دي لقي فرح ومزيكة وناس سهرانين، فافتكر الكلمة اللي شراها: «ساعة الحظ ما تتعوضشي.» سهر في الفرح لحد الفجر، ولما نعس نام.
الست مرات صاحب الطاحونة قلعت وبدرت الصبح بدري وراحت الطاحونة عشان تشوف اللي حصل للولد، الطحانين مسكوها وقطعوا رقبتها ورموها في الطاحونة.
ولما صاحب الطاحونة راح يسأل الضحى، قالولو الطحانين: «احنا عملنا زي ما قلت، أول واحد جانا الصبح رميناه في الطاحونة.» والراجل اتلفت وراه بص لقي الولد الطحان جي، جري على الطحانة وسألهم، قالولو: «أول ما جانا الصبح الست مراتك وموتناها.» والراجل مسك الولد الطحان، والطحان حكالو على اللي حصل مع الست في غيابه، وعاشوا مع بعض.
دا من مراته
كان فيه ملك عنده بنت حلوة، وكان مسكنها في سراية لوحديها، وكانت بنت الملك تقف في الترسينة، وكل ما تشوف واحد كويس نضيف، تقول: «دا من مراته.» تشوف واحد غلبان هدومه مقطعة، تقول: «دا من مراته.»
أبوها الملك اتضايق منها، نده على الوزير بتاعه وقالو: «عايزك يا وزير تدور لي على غلبان خالي شغل، عشان أجوزه للبنت دي، ونشوف حاتعمل فيه إيه.»
الوزير دار يسأل، لحد ما راح محطة القطر، لقي واحد نايم على القضيب، قاللو: «يا عم القطر ياكلك.» رد عليه الراجل وقاللو: «هو القطر عمي حاياكلني.» الوزير نده للرجالة شالوه حطوه في القطر، وخده للملك، الملك لقيه راجل كهنة بارك في الأرض، الملك قاللو: «قدم هنا اقعد جارنا يا محمد.» رد عليه قاللو: «محمد ما يقمشي.» قاللو: «كل.» قاللو: «لا ما بكلش.»
الملك طيب بنته وقاللها: «خلاص أنا كتبتلك عليه وبقى جوزك، عايزك بقى تقوميه على حيله وتلبسيه زي الرجالة.»
البنت خدته من إيده: «تعالى إنت كنت مشتلي فين؟»
خدته دخلته السراية وقالتله: «قوم اتغدى يا محمد.» قال: «ما بكلش.» تطبطب عليه وتحايل فيه وتبوسه، لحد ما زعل وقال: «رجعوني تاني مطرح ما كنت.» وهيه بعتت اشترت خمس كرابيج، واستلمتو يوميا تقطع كرباج على جسمه، لحد ما بقى يقف على رجليه ، وهيه فضلت على كده لحد ما نجحت في إنها تدخله الحمام ودعكته ولبستو جلبية جديدة، وبعد كده بعتته الشارع، مشي شوية والدم جري في جسمه.
قالتلو: «صحتك بقت عال، انزل اشتغل وعيشنا.» بعتته اشترى شوية حبال وفاس، وبعد كده جحش وبقي حطاب، وهيه جابت حصالة وبقت تحوش فيها، واشترت جحش تاني وقالتلو: «اركب جحش، واكري جحش.» وهو لبس الجلبية النضيفة وقعد على باب السراية.
وفي مرة واحد خواجا كان بيدور في الجبل لحد ما عثر على كنز، راح أجر الحمير بتاع محمد اللي بيشتغل عليها فلاح يشيل بالغيط، الفلاح ملا الغبيط، وفي السكة عرف إن اللي على الحمير دهب، قال للخواجا: «إنت لازم تديني نصيبي ربع الدهب دا.» الخواجا وافق، مشي شوية وقاللوا: «حاخد التلت.» الخواجا وافق، مشي شوية وبعدين قاللو: «حاخد النص.» الخواجا وافق، بعد شوية قاللو: «أنا حاخد التلاتربع.» الخواجا وافق، بعد كده الفلاح طمع في الخواجا وقاللو: «إنت يا خواجا خيالك مش قد خيالي، ولا قدمك قد قدمي.» ومسكوا في خناق بعض وضربوا بعض، والتنين موتوا بعض في السكة.
والحمير راحت على بيت محمد محملة بالدهب، قلبوا الحمير لقوا الدهب، هيه نزلت من فوق على طول، وقالت: «حاسب يا راجل، إنت بتقلب الدهب في التراب.» وبعد ما عبوا الدهب تاني في الزكايب، هيه شارت على محمد وقالتلو: «عيب بقه شغلانة الحمير دي.» وقالتلو: «الملك
14
أبويا بيقعد على القهوة الفلانية، روح عظمه ولاعبه القمار.»
محمد راح لاعب الملك وكسب عشرة جنيه، وتاني يوم راح لاعبه وكسب منه.
وهيه قالتله: «خلاص نام في البيت وما ترحشي القهوة، وأبويا حايجيلك يطل عليك هنا في السراية.»
والملك جه يطل عليه ما بقاش يرد على الملك ... الملك حس جسمه وقالوا: «إنت مش عيان، إنت بس متكبر، وإحنا ملوك زي بعض.»
بنت الملك راحت طالعة من الأوضة الجوانية وقالت: «يا حضرة أبويا الملك، دا من مراته.»
ومحمد قام عظم الملك وسلم عليه، قاللو: «مرحب نسيبي.»
صبي الساحر
كان فيه ولد شاطر بيشتغل حطاب مع جده، ولما كبر جده قاللو: «اخطب واتجوز وأنا أدفع لك المهر.» الولد قاللو: «أنا عايز أتجوز بنت الملك.» جده قاللو: «أهي دي اللي أنا ما قدرش عليها.» الولد ساب جده وراح اشتغل صبي عند رجل ساحر خواجا، والساحر كتبله مكتوب على دراعه، ورفض أن يعلمه مهنة السحر أبدا.
وفي مرة الولد شاف بنت الملك بتعوم ملط زلط مع حبيبها في البحر، بنت الملك خافت أحسن الولد يروح يخبص ويفتن لبوها، ففكت له المكتوب اللي على دراعه وعلمته السحر، الولد سحر نفسه كلب
وخد الكلب الخواجا، راح البيت يدور على الكلب ما وجدوش، وبعد كده سحر نفسه حصان من غير لجام، والخواجا اشتراه، وبعد كده سحر نفسه جنينة، وجده قعد على بابها وباعها للخواجا ومارضيش يديله المفتاح، والخواجا دخل الجنينة بص لقيها حتة جبلاية، وفضل الولد كده لحد ما سحر نفسه خاتم
رمانة، والخواجا سحر نفسه ديك وراح يلقط فصوص الرمان، فص فص، لحد آخر فص تحت البلاطة، راح مسحور سيف وقاطع رقبة الديك.
بنت الملك انبسطت من الولد، وقالت لبوها: «داللي حاتجوزه.» واتجوز بنت الملك، وجاب جده عمله وزير.
لغة الماء
واحد قال: «كل شيء في الدنيا له لغة ما عدا الماء، وأنا لازم أعرف لغة الماء.»
والراجل كان غني ومبسوط، فأعلن إن اللي حايجيبله لغة الماء حايهديه هدية كويسة.
وجميع الناس عجزت عن إنها تعرف لغة الماء ما عدا رجل طمع في الجائزة، وفضل ماشي يسأل لحد ما راح عند عرب العربة،
15
وسألهم: «أنا عايز أعرف لغة الماء.»
بنت عرب العربة، طلعت من جوا الخيمة وقالتلو: «الماء وهو بيجري بيقول: يا أسفي أنا اللي بالوادي جريت،
طرح مني العشق وبناره انكويت.»
الراجل رجع وخد الجائزة.
العنزة الشؤم
واحد أخد من مراته ريال، وراح يجيب كيلة غلة من السوق، نسي ودخل سوق الغنم بدل ما يدخل سوق الغلة، لقي واحد بيدلل على عنزة: «يا مين يشتري العنزة بريال؟» اشتراها من الراجل ولما رجع البيت، مراته قالتلو: «روح اشتري أكل للعنزة.» وبعدها خرج الراجل، ولد من ولادها بيتشاقى مع العنزة، أمه خبطته مات في الحال، الراجل رجع عارك مراته وبيقولها: «يا ولية تضربي الولد تموتيه!» وعاركوا مع بعض، هو دفعها بعيد عنه، الولية انقلبت وقعت في البير.
وبعد ما مراته وابنه ماتوا، الراجل بص لقي نفسه قاعد هو والعنزة، فقاللها: «آه يا وش الشؤم، أنا حارميك في البير.» وشال العنزة وجه يرميها في البير، كم جلبيته انشبك في قرن العنزة، خدته ووقعوا في البير.
الجمل والحمار
جمل وحمار كانوا سايبين في جنينة ما فيهاش حد.
الجمل يأكل وهو ساكت، والحمار ينطق على الفاضي والمليان.
فات عليهم راجل راكب حمار هزيل تعبان، لقيهم واقفين واحدهم، نزل من على الحمار الهزيل اللي كان راكبه وركبه على الحمار، وركب هو الجمل ومشوا، الحمار شال الحمار العيان ومشي ساكت، فالجمل قاللو: «شيل يا أخي، ما كنت ساير داير فيها، وإنت اللي نهقت.»
العقل
في مرة البركة والسعد ماشيين في سكة زراعية، قابلوا في طريقهم العقل، وبصوا جنبهم لقوا مضرب طوب، وراجل فقير بيضرب طوب، السعد والبركة قالوا للعقل: «تعالى معانا نقعد شوية نشرب شاي ونتكلم عند الراجل الطواب ده.» العقل رفض يروح معاهم، وقاللهم: «روحوا إنتو.» سابوه ومشوا.
دخلوا قعدوا عند الراجل، الراجل حاله مشي، وبقى يبيع في اليوم بألف جنيه، اتغنى وراح يخطب بنت الملك، الملك قاللوا: «تقل
16
بتقل.» الراجل تقلها وراح يجيب المال، جابوا على عربيات كارو من اللي بينقل عليها الطوب، وقعد فوقه، ودخل على الملك، فالملك اتضايق من تصرفه دا.
وبعد ما تجوز وعملوا الفرح، الملك نسيبه خده معاه وراحوا زاروا ملك كبير قوي ، وهمه قاعدين بيتعشوا على السفرة، الملك عطاه حتة لحمة كبيرة، فخدها من إيده ولفها في عمته اللي على رأسه، والملوك اللي قاعدين اندهشوا وسكتوا.
وتالت مرة الملك جتلو هدية، تفاحة على غير أوانها، فاستلمها وقاللو: «خد شيلها لما يجي الضيوف ونأكلها.» خدها يشيلها قطم نصها وأكله، ولما الملوك والوزرا جم واجتمعوا عشان يأكلو التفاحة، نسيبه الملك طلبها منه لقيه واكل نصها، الملك انكسف وفض المجلس.
ولما جه يدخل على عروسته بنت الملك، ورمت عليه المحرمة زي عوايد الملوك، ضربها طفحها الدم.
الملك لما شاف بنته، اتضايق خالص، وقال: «أنا لازم أشنقه وأخلص منه بكرة الصبح.»
العقل راح قابل البركة والسعد، وقاللهم: «صاحبكم اللي باركتوه وسعدتوه حايتشنق بكرة الصبح.» قالولو: «طيب انجدنا.»
راح العقل عمل جوهرة في طريق الراجل قبل الشنق، الراجل خدها حطها في جيبه، وقبل الشنق سألوه: «نفسك في إيه؟» قال: «نفسي أقعد مع الملك شوية، أشوفو بس.» راحوا قالوا للملك، قال: «طيب.» وراح قعد معاه وخدوا وادوا في الكلام والعتاب، والملك قاللو على العمايل الأربعة اللي عملها، إزاي جاب المال على عربية كارو ودخل السراية قاعد عليه زي الطوب.
رد عليه وقاللو: «يا سعادة الملك خفت على المال من ولاد الحرام.»
الملك قاللو: «طيب يصح واحنا في العزومة الفلانية تحط اللحم في عمتك؟» قاللو: «يا ملك أعمل إيه، دا أنت بتعزم علية بحتة لحمة وأنا شبعان، قلت اللي ما تشيلوش معدتي من إيد الملك يشيله دماغي من فوق.» الملك قاللو: «طيب والتفاحة اللي كلت نصها.» قاللو: «الحقيقة يا ملك أنا تشككت في أن التفاحة دي تكون مسمومة، وقلت لنفسي: أنا أكون فدا الملك وخدت منها قطمة.» الملك قاللو: «ولما ضربت بنتي وطفحتها الدم؟» قاللوا: «دا واحنا مع بعض، بصيت لقيت الأوضة مليانة جواهر، جيت ألحق وأجمعها قبل ما تروح، منعتني، دفعتها، إيدي جت في وشها وما طلتش إلا جوهرة واحدة أهي.» وحط إيده في جيبه، الملك خطفها منه وقاللو: «يا أخي مش كنت تجيب منها كبشة.» وخدوا بعض بالحضن.
السعد والبركة قابلوا العقل بعد كدة، وقالولو: «براوه عليك.»
17
البخت
واحد عربي غلبه الزمن، فات أهله وبيته، ومشي في السكة هاجج، أول ما دخل الجبال وجد حفرة في الأرض، وفيها واحد مكفي على وشه، قرب منه وسأله: «يا عم إنت راقد كدة ليه؟» اللي في الحفرة رد عليه وقاللو: «أنا بختك وانت لازم تطاوعني وتسمع اللي حاقولك عليه.» العربي قاللو: «قول.» قاللو: «ارجع بيتك، موت الكلبة اللي عندك، وطلق مراتك، وبيع البقرة اللي عندك بالتمن اللي يتقالك عليه أول مرة.»
الراجل رجع موت الكلبة وطلق مراته، وخد البقرة وراح عشان يبيعها في السوق، قابله واحد قراد ماسك قرد، قاللو: «يا عم إنت رايح تبيع البقرة دي؟»
قاللو: «أيوة.» قاللو: «طيب خد القرد ده، واديني البقرة.» عطاه البقرة، وسحب القرد ومشي، ولما الليل نزل عليه وهو في السكة ربط القرد في شجرة وراح يدور على حاجة ياكلها مالقيش، رجع تاني للقرد لقي القرد قلع الحديدة وزحزح الصخرة، بص وجد تحتيها زلعة مال، خدها ورجع على بلده، اشترى سراية وأطيان وعاش مبسوط.
السعد والفقر
واحد صرماتي
18
قاعد يشتغل قدام دكانه، وفات عليه السعد والفقر رموا عليه السلام، قام عزم عليهم: «اتفضلوا.» قالوا: «نتفضل فين؟!» وقعدوا جنبه، فقام عمل شاي وسقاهم، سألوه: «معاك مال والا استلفت؟» قاللهم: «لما ترزق أسد حقه.»
الفقر عطا للراجل حوالي 20 جنيه يتساعد بهم ومشوا، الراجل خد العشرين جنيه وروح حطهم في بلاص ردة وشالهم،
19
ورجع يشتغل في دكانته.
فايت راجل بيشتري ردة مراته باعت له الردة اللي في البلاص بتلاتة صاغ، وراحوا العشرين جنيه اللي في الردة.
لما الراجل رجع وعرف الحكاية ومالقيش الفلوس حزن.
وبعد مدة فات عليه تاني السعد والفقر، سلموا عليه وقعدوا معاه، الفقر سأله: «عملت إيه بالعشرين جنيه اللي خدتهم مني.» فحكى له الحكاية، وبعد ما قعدوا السعد عطالو 20 جنيه تانيين ومشوا.
خد العشرين جنيه اللي عطاهم له السعد، وراح يشتري جلود وعمر الدكانة، ومشي الحال وبقى من أثرياء البلد.
وزاره تاني السعد والفقر، ولما الفقر سأل عن حاله، الراجل قاللو: «يا أخي من آمن بك كفر، والمتداري فيك عريان، شوف العشرين جنيه بتوعك من بتوع السعد.» وشاورلهم علي العز اللي صبح فيه.
المال والعضم والتراب
كان فيه راجل طيب مخلف تلات أولاد، وكان مربي أولاده على الغالي، ولما المرض مسكه جمع أولاده التلاتة،
الراجل قاللهم: «أنا عندي هنا أوضه ما تعرفوش اللي فيها، فيها تلات صناديق، لكل واحد منكم صندوق له مفتاح، وأنا حارمي التلات مفاتيح، وكل واحد منكم ياخد نصيبه.»
الأب رمى التلات مفاتيح على طول دراعه، وأولاده جروا كل واحد خد مفتاح، وبعد شوية الأب مات.
الأخ الكبير فتح سحارته لقيها مليانة مال.
والأخ الوسطاني فتح سحارته لقيها مليانة تراب، والأخ الصغير فتح سحارته لقيها مليانة عضم.
الأخين اللي طلع من نصيبهم التراب والعضم اختلفوا مع أخوهم الكبير، فالأخ الكبير قاللهم: «أبونا قبل ما يموت قال: الورث ما يتردش.» قالولو: «طيب إحنا عايزين نروح لعرب العربة، يشير علينا عن الورث، واللي حايقولو حايسري علينا إحنا التلاتة.»
مشي التلات إخوة في الطريق رايحين لعرب العربة، وفي السكة وجدوا جمل كبير مربوط على حجارة وزلط، ومشوا شوية شوية لقوا جمل ضعيف هزلان مربوط على ربيع وبرسيم أخضر، ومشوا شوية كمان لقوا شجرة مالهاش ضل.
اتعجب التلات إخوات من التلات حاجات اللي صادفوهم.
ولما رسوا على عرب العربة لقوهم أربع إخوات، سلموا عليهم وأول ما سألوهم، سألوهم على التلات حاجات اللي صادفوهم في السكة، فقالوا لهم: «الجمل الأولاني القوي اللي مربوط على زلط، دا راجل فقير كريم، إيده سخية، والجمل التاني الهزيل المربوط على ربيع، دا راجل غني وبخيل، والشجرة اللي مالهاش ضل، معناها الدنيا مالهاش أمان.»
ولما سأل الإخوة التلاتة عرب العربة عن الورث، قالو لهم: «أبوكم ورثكم ورث ما يتردش تاني.» وفسروا لهم مغزى الورث، قاللو: «اللي خد الصندوق اللي مليان مال، دا ماله ومحدش يشاركه فيه، واللي خد الصندوق المليان تراب، خد جميع الأرض اللي تزرع، واللي خد الصندوق المليان عضم، خد جميع المواشي اللي في البر، ودي قسمة أبوكم .»
الإخوة اقتنعوا ورجعوا بيوتهم.
وأخوهم الكبير اللي طلعلو المال، راح اشترى بالمال أرض قد أرض أخوه اللي طلع من نصيبه التراب.
ملك الأسد وقطع دراع الكاتب
كان الملك الأسد أغنى ملك في الدنيا، وكان لا يوجد في مملكته لا بيع ولا شرا ولا مقايضة، اللي عايز حاجة ياخدها بالصلاة على النبي.
إلى أن جاء الهاتف في ليلة للملك الأسد وهو نايم، وقال له: «يا ملك، الدنيا حاتزول عنك.»
قام الملك الأسد الصبح ملك أولاده مكانه، وركب حصانه وساب المملكة ومشي أرض الله لخلق الله، وفي السكة لقي بحر، الحصان نزل فيه، وكان الحصان ابن ملك البحر، فضل الحصان عايم بالملك، وفي وسط البحر، غطس والملك مسك عرف الحصان، فطلع في إيده شعرتين من عرف الحصان، وقال: «لما تروح تقطع السلاسل، ولما تيجي على زبيبة.»
20
وصبح الملك الأسد فقير لا فوقيه ولا تحتيه، مشي شوية لقي واحد بيضرب طوب ولابس شوال، الطواب قلعلو الشوال اللي لابسه، والملك خد الشوال لبسه، ودخل المدينة واشتغل عند راجل فطاطري، يولع النار تحت صينية الفطير ...
وفي يوم دخل واحد ملك ياكل فطير، نزل من على الحصان اللي كان راكبه وسابه - الصبي الفطاطري - فالحصان شخ عليه، فقال: «أقبلت لما باض الحمام على الوتد، وأدبرت لما شخ الحصان على الملك الأسد.»
الملك اللي بياكل، اللقمة وقفت في زوره، فنادى على الصبي ولما سأله حكايته، قاللو: «أنا ملك الأسد، والدنيا زايلة عني.»
الملك أكل ودفع ديته وخده معاه، ولما حاول يساعده ويلبسه لبس ملوكي مارضيش، وقاللو: «الدنيا زايلة عني.»
مرات الملك مكنتش بتخلف، ولما خلفت ولد وعملوا احتفال وكل الملوك حضرت الهدايا للمولود، والملك الأسد راح وقف في وسط الملوك بشواله، وقال للكاتب: «اكتب يا كاتب، إذا رجعت الدنيا زي ما كانت، وهبت للمولود عشرين بعير
21
وعشرين جراب دهب وعشرين ...»
الكاتب اللي بيكتب اتضايق ورمى القلم، ولما الملك الأسد سأله: «ليه ما كتبتش؟» الملك صاحب الحفلة تدخل وأمر الكاتب أنه يكتب، فالملك قاللو: «اكتب: إذا عادت الدنيا مثل ما كانت، يكون قطع دراع الكاتب.» •••
راحت ليام وجت ليام، وفضل الملك الأسد، ماشي في السكة بشواله، لحد ما راح مملكته، ومشي على باب الله، أول ما راح عند البحر، لقي شعر بيقدف على وش المية، ولما نزل البحر، وشد الشعر، طلع حصانه وهدومه وكل المهومات بتاعه، فقلع الشوال اللي كان لابسه، ولبس هدومه من تاني، ودخل على مملكته، لقي البيع والشرا بالنقدية،
22
واتلغى العهد الأولاني.
دخل على المملكة، وركب كرسيه من أول وجديد، ودور منادي ينادي: «يا سير من كان في المدينة، ملك الأسد رجع تاني، والبيع والشرا بالصلاة على النبي.»
ولما اتملك بعت للملك اللي كان عنده، وحمله نقوط ابنه زي ما هو مكتوب، وكان السياف واقف ورا الكاتب وهو بيقرا المكتوب، لحد ما قرا: «وإذا رجعت الدنيا زي ما كانت، يكون قطع دراع الكاتب.»
فالسياف قطع دراع الكاتب.
جلد الكلبة
رجل عنده تلات أولاد وتلات أوض، قبل ما يموت جمعهم وعطا كل واحد منهم مفتاح أوضة: الأول فتح أوضته وجدها مليانة طوب أحمر، والثاني فتح أوضته وجدها مليانة دهب، والتالت فتح أوضته وجدها مليانة جلة ناشفة.
وبعد كده التلات إخوات اتفرقوا، واحد مات، والتاني راح قصر الغيلان، وزعق من غلبه قال: «يا هوه.» قصر الغيلان انفتح، فدخل لقي دهب مالوش آخر، قلع عبايته وملاها مال، وروح على بيته، بعت بنته تجيب الكيلة، وبعد ما كيلو المال ورجعوا الكيلة، بيت أخوه عرفوا إنهم كانوا بيكيلو دهب، أخوه جاله البيت بالليل، وسأله عن الدهب اللي عتر فيه، جابه منين، فقاللو على قصر الغيلان، فرجع قال لمراته: «أنا حاروح أسرق قصر الغيلان.» وقبل ما يروح أخوه قاللو: «بلاش أحسن الغيلان تقتلك.» رجع على بيته، فمراته شحتته،
23
وقالتلو: «روح هات دهب من قصر الغيلان زي أخوك، وما تدخلش فاضي علية.» راح دخل قصر الغيلان كانوا نصبوا له فخ واصطادوه.
أخوه دري وراح مشي دخل قصر الغيلان وفك جتته وخدها ورجع.
ولما الغيلان رجعت وما وجدتش الجتة عملوا نفسهم جماعة عرب، ولحقوه في السكة، واستفسروا منه على الميت، وبعد كده راحوا عزوه، وطلبوا يناسبوه، واحد منهم قاللو: «جوزني بنتك.» فجوزهاله، والغيلان خدوها على القصر، سابوا العروسة للغول الصغير، وراحوا يصطادوا في الجبل.
العروسة عطت للغول الصغير كحكة من كحك العرس، ولما أكلها قاللها: «هاتي كمان كحكة.» ولما خلصها قاللها: «هاتي كحكة وأنا أقولك.» البنت قالتلو: «قوللي وأنا أديلك سبت الكحك كله.» الغول الصغير قاللها: «اللي اتجوزك دا هو الغول اللي قتل عمك.» وعطاها الغول الصغير جلد كلبه وقاللها: «روحي قبل ما يرجعوا ويقتلوك، ولما تلبسي الجلد تبقي كلبة، ولما تقلعيه تبقي بني آدمة.»
لبست جلد الكلب فبقت كلب ومشيت في السكة لحد ما وجدت قصر عالي قعدت جنبه واتمسحت فيه بهيئة كلبة، ابن الملك شافها دخلها القصر، والبنت عاشت جوا القصر زي كلبة، بالنهار تسمعهم يتكلموا على الخبيز، تقعد تخبز طول الليل، يقوموا الصبح يلاقوا العجين عيش.
يتكلموا في النهار على الغسيل، يصبحوا يلقوا الهدوم مغسولة ومنشورة.
ابن الملك قال: «أنا لازم أعرف الحكاية.» ونصب بندقيته وتخبى في أوضة الفرن لحد ما جا الليل ووجدها تخبز، ظهر لها وقاللها: «انتي إنس ولا جن.» قالتلو: «أنا إنس.» بصلها لقاها جميلة جدا، وعرف إنها الكلبة، والصبح قال لأهله: «أنا حاتجوز الكلبة اللي عندنا.» ودخل عليها واتجوزها.
وفي يوم شافت أبوها جي يزورها، ندهتلو، وكل واحد قال حكايته، ولحقته قبل ما يروح قصر الغيلان.
الحرات والزانية والحرامية والفتانة
الملك والوزير طلعوا يتفسحوا في الخلا، فوجدوا راجل حرات بيحرت وحده في غيطه ويغني في بطن الغيط ويرقص رقصة، وفي صدرها يرقص رقصة.
الملك والوزير اتخبوا ورا نخلتين، وقعدوا يتفرجوا على الحرات المحظوظ لحد الضهر ما كسر وجا أوان العدا، فبصوا لقوا تلات نسوان جايين للحرات: واحدة شايلة قلة مية على إيدها، والتانية شايلة مشنة العيش، والتالتة شايلة طبق الغموس، وقعدوا قدام الحرات يضحكوا والحرات ياكل من إدين التلاتة.
وبعد ما كل غسلولو إديه ومسحوا وشه، ورجعوا بعد ما تركوه يحرت ويرقص ويغني.
الملك تعجب وخد الوزير وراح للراجل الحرات وأمره: «ابعت يا راجل هات التلات ستات دول، وإن ما جبتهومشي حاقطع راسك بالسيف.»
الحرات بعت جاب نسوانه التلاتة، والملك خدهم وبعت جابله تلات نسوان بدلهم وسابهمله ومشي. •••
الحرات خد التلات نسوان، ومشي روح على بيته، وجه عند بحر غويط وخد أول ست منهم شالها على كتفه عشان يعدي بها، وجابها في وسط البحر، وقاللها: «إن ما قولتليش بالحق، إنت كان صفتك إيه عند الملك حاغرقك.» الست خافت وقالتلو: «أقولك، أنا كنت حرامية.» فشالها الحرات وعداها على البر التاني.
ورجع شال التانية، وجابها في وسط البحر، وقاللها زي ما قال للأولنية، فقالتلو: «أنا كنت عند الملك زناوية.» (زانية) شالها الحرات عداها للبر التاني.
ورجع للتالتة جابها في وسط البحر وطلب منها زي اللي قبلها، فقالتلو: «أنا كنت عند الملك فتانة.» (نمامة) فنزلها عن كتفه وخنقها وغرقها في وسط البحر، وسابها وطلع.
خد الست الحرامية والزانية وروح على بيته.
أول ما دخلهم بيته خد مفاتيح البيت وعطاهم للحرامية، وفتح للزانية كل أبواب وشبابيك البيت، وقاللهم: «اعملوا اللي انتوا عايزينو.»
بعد شوية أيام، الزوجتين اجتمعوا مع بعض وقالوا: «دا سابلنا كل حاجة احنا لازم نتوب.» ولتنين تابوا.
واتعودوا بعد كده يروحوا للحرات الضهر بالأكل، ورجع هو يرقص في بطن الغيط رقصة، وفي صدرها رقصة. •••
وفي يوم رجع الملك تاني وفات على الحرات، فوجده بيرقص ويغني زي الأول فخبى نفسه، والضهر بص الملك لقي اتنين ستات: واحدة شايلة قلة، والتانية شايلة أكل، وبعد ما الحرات كل وروحوا، الملك راح للحرات وقاللو: «إنت عملت فيهم إيه، دول كانوا تاعبيني قوي.» الحرات حكاله على اللي حصل، والملك تعجب وطلب من الحرات إنه يبادله عليهم
24
بنسوانه الأولنيين اللي بعد ما خدهم الملك منه تعبوه، فالحرات مارضيش.
نعناعة
كان فيه واحد قاضي، متعود يروح الترب بالليل، في مرة عثر على جمجمة بتقول: «ياما عملت في دنياتي، ولسه يا ما حاعمل في أخراتي.»
القاضي أخد الجمجمة تحت باطه وراح البيت جاب هون وقع صحنها
25
ودراها في الهوا ...
بنت القاضي البنوت
26
سمعت الدق في الهون، فقالت: «أشوف أبويا بيصحن سكر ويسفه وحده فوق.» وميلت على الهون خدت لحسة بلسانها،
27
حبلت، أتمت سبع شهور وبطنها عليت وصبحت حامل.
واحدة ست شافتها، راحت قالت لبوها: «إنت عمتك بيضة طول عمرك، والنهاردة بنتك بقالها سبع شهور حامل.»
القاضي فضل سهران، وفي التلت الأخير من الليل صحا
28
بنته من النوم وقاللها: «تعالي يا بنتي وضيني برا جنب البحر.» وعند البحر سحب سكينة مسنونة ودبحها وسابها ومشي والعيل بيعيط في بطنها.
واحد فايت من جنب البحر الصبح بدري، شاف الجتة والطفل بيعيط، شالهم رماهم في غيط نعناع بتاع الملك.
الملك مر الصبح لقي الجتة والطفلة، خد الجتة ودفنها، وشال الطفلة أداها لأمه، وقاللها: «خدي ربيها وسميها نعناعة.»
البنت كبرت وحفظت كل العلوم، ولما شافها الملك انبسط وأحبها وقال: «أنا حاتجوزها.»
جابو القاضي مهرها
29
عشان ماكنشي لها أب ولا أم، والملك كتب عليها واتجوزها، وخلف منها تلات شطار
30
على تلات سنين، ورابع سنة جا للملك هاتف زاره بالليل وقالوا: «قوم اسعى يا ملك انت حاتفتقر سبع سنين.» الملك خد الهجين
31
بتاعه، وجزء من أمواله وساب المملكة للوزير بتاعه، وركب الهجين بتاعه ومشي، الهجين جه عند بحر وغطس، قعد الملك يشد في اللجام لحد ما طلع اللجام في إيده، وهية غطست راحت.
يرجع مرجوعنا للوزير، فضل يعمل في ملاعيب عشان يتصل بالست نعناعة مرات الملك، أول ليلة قاللها: «مش ناقصك حاجة؟» قالتلو: «عندي اللي يكفيني.» تاني ليلة راح لها، قالتلوا: «ماتجنيش.» تالت ليلة الوزير قاللها: «بك واللا بابنك البكري؟»
32
قالتلو: «بابني البكري.» خده موته، رابع ليلة قاللها: «بك ولا بابنك الوسطاني؟» قالتلو: «بابني الوسطاني.» خده موته، خامس ليلة راحلها وقاللها: «بك والا بابنك الصغير؟» قالتلو: «بابني الصغير.» خده موته، ساتت ليلة قاللها: «بك والا بنفسك؟» قالتلو: «بنفسي.» ضربها بالسيف طير بزازها ووراكها، وحطها في قفة، وخدها رماها في الجبل، وهو بيحدفها إيدها هبشت في الرمل لقيت خاتم الملك، قالتلو: «شبيك.» خادم الخاتم قاللها : «لبيك.» قالتلو: «عايزة أرجع زي ما كنت.» تف
33
القطب في بزازها، رجعت زي ما كانت، وجدت نفسها واقفة في الجبل زي ماهية، طلبت من الخاتم سراية زي سراية الملك جنب سراية الملك:
سراية حوليها بستان
وأشجار ترمي على غير أوان
وبرج حمام ملوش عددان
وحوليها داير منداير بستان
أم الملك
34
سحرت نفسها بهيئة نعناعة، بعد السبع سنين ما انقضوا، والملك رجع، والملك نام مع أمه على السرير، فاكرها مراته نعناعة وحبلت واتوحمت على تفاحة، في أوان التفاح، وقالت للملك: «نفسي يا جوزي يا حبيبي في تفاحة من جنينة الست صاحبة الحمام اللي جنبنا.» الملك بعت العبد بتاعه لنعناعة يقوللها، العبد راح قاللها: «يا ست يا ستنا، ياللي قصرك جنب قصرنا،
وحمامك بيحوم على سطحنا، ادينا تفاحة للوحمة اللي عندنا.»
طلعت قالتلو: «هيا يا عبد هيا، وحمة أمك ما جتشي إلا علية،
يا مقص قص من طرف لسانه شوية،
لا العبد يرجع يخبص علية.»
العبد رجع يرطن وبقى أخرس، الملك شافه ما فهمشي حاجة منه، راح حاطط شاله على كتفه، وراح بنفسه البستان يطلب التفاحة من صاحبته، قاللها: «يا ست يا ستنا،
ياللي قصرك جنبنا،
وحمامك بيحوم على سطحنا،
ادينا تفاحة للوحمة اللي عندنا.»
طلعتله وقالتلو: «هيا يا ملك هيا،
وحمة أمك ما جتشي إلا علية،
يا مقص قص من طرف شاله شوية،
دا كان في الأول غالي علية.»
وفتحت بيبان السراية على آخرها، وحضنت الملك وبقت تحب فيه من فوق ومن تحت وهوا مش عارفها، وهية تقوللو: «أنا مراتك نعناعة.» الملك قاللها: «نعناعة اللي في سرايتي وحضني!»
قالتلو: «اللي في حضنك دي أمك.» وحكتله على الحكاية، واللي حصل من الوزير ومن أمه. الملك رجع طير رقبة الوزير وطير رقبة أمه، ورجع الست نعناعة ملكة.
عبيد الغالبة
35
عبيد الغالبة كان ملك سخي وكريم، كل ما يرسي عليه ضيوف يقدملهم كل اللي يمتلكه، لما ما خلاش حاجة أبدا عنده غير ناقة واحدة، وكان الشعرا متعودين يزوروه من الحول للحول، في السنة دي ما لقيش حاجة يقدمها لهم، فدبحلهم الناقة الوحيدة اللي حيلته، وبيتهم في المكان اللي بينام فيه، وقال لهم: «بكره الصبح اللي يصبلكم على إديكم يكون من نصيبكم.»
وقام الصبح طلى نفسه بنفسه بلون أسود، وراح صب للشعرا على إديهم، فالشعرا سألوه: «سيدك اللي بعتك لنا يا عبد؟» قاللهم: «أنا عبدكم.» ومشي وراهم في هيئة عبد لحد الشعرا ما عدوا البر التاني، ودخلو مملكة خال عبيد الغالبة الملك العون.
الملك العون قال للشعرا حزر عشان يجلوه، قاللهم: «الجودة من الموجود، والا من الأعود؟» الشعرا ما عرفوش يحلو الحزر، ورجعوا على العبد ضربوه وقالولو: «إنت وشك أسود ووحش.»
عبيد الغالبة قاللهم: «روحوا للملك العون وقلولو، عبدنا جا يحل الحزر.» راح الشعرا قالوا للملك العون، فالعون طلبه وهو حل الحزر، وقال قدام العون: «الجودة من الموجود.»
العون عرفه، واشتراه من الشعرا، ودفع دينه، وخده دخله الحمام، ولبسه لبس ملوك، وقاللو: «تعالى يا ابن أختي.»
عبيد الغالبة قاللو: «سلم عليه العون ورخى خوامسه،
36
شرط الفتى بعد السلام يجود.
تحرم عليه يا عون وتحرم مضايفك،
ما عدت أجيلك ولا أخش لك في بيوت.»
وساب خاله وطلع جري، نزل أرض الشام لقي خيمة منصوبة في الجبل، طلع منها شيخ عرب وسأله: «إنت من عبيد مين؟» قاللو: «من عبيد الغالبة.» شيخ العرب سأله: «الغالبة مسابشي حد يورثه؟» قاللو: «أنا الغالبة.» ولما العربي عرفه قاللو: «كل المال والغنايم والعبيد دي ورثتك من أهلك.» وعطالو الورث، والغالبة ساق السعي والأموال ومشي في الجبل.
وكان عبيد الغالبة متجوز اتنين ستات، أول ست رسي عليها بماله وسعيه، أول ما قالو لها: «عبيد الغالبة جه.» طلعت طردت الثروة والسعي بعمود البيت، وتقول: «أنا ما عرفتش عبيد وأبو عبيد.» وطردتهم.
ولما حود على مراته التانية، وقالولها: «عبيد جه.» طلعت بمقشتها تدخل في السعي والعبيد، وتقول: «يا مرحب يا مرحب.» وعملتلهم الغدا وأكرمتهم، فعبيد الغالبة غنى وقال: «يا من عملني حاكم البيض كلهم،
لاحكم بخوف الله وأزيح الظلايم،
أدي الهريمة
37
للهريم اللي زيها،
وأدي الفصيحة للرجال الفصايح.
الله يآتيك يا صباغ التياب بنايبه،
ياللي صبغت الشين والزين في دن واحد،
عشان كتر الدراهم
فيهم من تسوى تسعين شايله،
38
وفيهم من لا تسوى جلد أعود.
فيهم من تطرد الغنا بعمود،
وفيهم من تدخل الخير بمقشة،
وفيهم من تجيب لهوة تقيله لبعلها،
لا هو بيفنى ولا هية تموت.»
وراح عبيد الغالبة طلق مراته الردية، وعطا كل ماله وثروته وعبيده لمراته التانية الكريمة السخية.
القاتل والمقتول وموسى
في مرة فارس بيميل يسقي الحصان بتاعه من بحر، وقع منه 100 جنيه، وبعد ما الفارس سقى حصانه ومشي.
جه واحد غنام بيسقي غنمه، لقي الميت جنيه خدهم ومشي.
رجع الفارس يدور على فلوسه، لقي واحد تالت قالع هدومه وبيستحمه، الفارس ظن إن اللي بيستحمه دا هوه اللي لقي فلوسه وناكرها، فاتهور عليه وقتله وركب حصانه ومشي.
سيدنا موسى كان موجود في الحتة دي، وشايف اللي بيحصل، فراح جبل الملاغاة، ونادى قال: «يا رب جيت أسألك.» ربنا ظهرلو، وقاللو: «اسأل يا موسى.» موسى قاللو: «الفارس وقع منه ميت جنيه، لقاهم اللي بيسقي الغنم وأخدهم، فالفارس قتل اللي بيستحمه.»
ربنا قاللو: «أبو الفارس كان قبل كدة ظلم أبو الغنام، وأبو اللي بيستحمه قتل أبو الفارس.»
موسى اقتنع.
عشر سنين عسر
سيدنا موسى فايت في يوم رايح يقابل ربنا، واحد فقير استناه في السكة وقاللو: «يا سيدنا موسى اسأللي ربنا، فلان ابن فلانة ملوش عندك رزق أكتر من كدة؟»
موسى راح قابل ربنا، وافتكر سؤال الراجل، وسأله ربنا، ربنا قاللوا: «فلان ابن فلانة له عندي عشر سنين عز، وأنا باقيهم له وشايلهمله للكبر.»
تاني مرة الراجل قعد استنى موسى، وقاللو: «سألت؟» قاللو: «أيوة.» الراجل قاللو: «أنا عاوزهم من دلوقتي.» موسى راح قال لربنا، ربنا قاللو: «ياخدهم.»
الراجل اتسعد وراح تاجر والخير جاله من كل حتة وعاش في العز.
بعد العشر سنين ما انتهوا، موسى فات لقي الراجل لسة في العز، سابه ورجعله بعد عشر سنين تانية، لقيه لسه في العز.
راح سأل ربنا : «العشر سنين بتوع فلان ابن فلانة انتهوا من زمان.» ربنا قاللو: «دا راجل صالح، ولو قلل من الحمد، أنا حا أقلل من الرزق، لكن طول ما هو صالح، يفضل في نعيم للممات.»
موسى وقارون
كان قارون - صاحب بركة قارون دي والقصر
39
اللي جنبها - راجل فقير على باب الله، اتجوز واحدة ست تقرب لسيدنا موسى، وكانت الحرمة دي عندها علم بكار الكيميا، فعلمتوا شغلة الكيميا دي، وهو مشي فيها وكون منها ثروة ومال كتير، علو الجبل، يسد عين الشمس، وكان سبب زولان الملك عنه إنه خلى موسى واقف بيوعظ في الناس وسط سوق، يقول: الزاني يتجلد زي الزانية، ويحرم القتل والكذب والنجاسة.
قارون لما سمع كلام موسى، راح اتفق مع واحدة زانية حامل وقاللها: «اعمليلي فتنة في موسى، وإن نجحتي حاديكي كيلة مال.» قالتلو: «طيب.» قاللها: «أنا حاخليه واقف بيوعظ في الناس ويقطع في نفسه، وأواجهه وأقوللو: «إنت بتوعظ الناس وتقوللهم ما تزنوش، والست الفلانية حامل منك يا موسى.» وأجيبك تأمني على كلامي وتعيطي وتعري بطنك قدام الناس وتوريهم.»
راح وجده في عز الخطبة وقاطعه وواجهه قدام الناس، موسى بصله وصرخ في وشه: «كداب.» قارون قاللو: «أنا موش كداب، والست أهي، أجيبها قدامك.» الناس قالت: «هاتها هاتها.» ولما أحضرها موسى حط عينه في عينها وقاللها: «انطقي بالحق.» فقالت على الفتنة من أولها لآخرها، وقارون حزن وخزي قدام الناس، وحط وشه في الأرض ومشي.
سيدنا موسى شكا قارون لربنا، فربنا إدالو الإذن، وقاللو: «يا موسى، الأرض بتطاوعك وتسمع كلامك.» خد بعضه ودخل على قارون سرايته جنب بركة قارون، قاللو: «تتهمني وتدعي علية إني زاني ومفسد يا قارون؟!» ولعنوا: «يا أرض خديه.» قارون يزعق ويتوسل: «ارحمني يا موسى.» الأرض خدته وتاوته لحد وسطه، قاللو في جيرتك يا موسى، في عرضك، الأرض خدته لحد رقبته، وبعد كدة رأسه.
موسى والعبد
كان فيه ملك من بتوع زمان، عنده عبد مطيع، لكن الملك كان قلبه قاسي على العبد، وكان رابطه في هودية (طاحونة) ويعذب فيه ليل نهار.
سيدنا موسى فات على العبد، اتصعب على الغلب اللي هو فيه، موسى مشي للملك وقاللو: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.»
الملك ما ردش (لم يرد) على سيدنا موسى، والعبد قال لموسى: «سيبه كله حايزول.» موسى خد بعضه ومشي.
غاب موسى سنة، ورجع يشوف العبد لقي الملك مات، والعبد تولى الملك من بعده؛ لأن بتوع زمان كانوا يختاروا سبعة تمن رجالة ويقعدوهم في حلقة، ويطيروا فوق رءوسهم طير مكسي بالزمرد وفيه خيط دهب، ويسيبوا الطير يطير ويحوم، واللي ينزل على رأسه، هو اللي يتولى الملك، ويبقى الملك.
ولما كان العبد موجود مع الموجودين، الطير نزل على رأسه، قالوا للطير: «يا طير ارحل، دا غريب يا طير، ارحل.» الطير طار ونزل تاني على العبد، فبعد ما كان العبد خدام صبح ملك.
موسى وهو فايت قابل بنتين بيملوا مية، ولما سألهم عن العبد، قالولو: «اسكت مش الطير نزل على العبد، وبقى هوا الملك.» موسى تخفى ودخل على الملك العبد وقاللو: «مبروك عليك المملكة.» العبد قاللو: «كله حايزول.» موسى مشي.
تالت سنة موسى فات على العبد لقاه مات، فراح القبر بتاعه وقالو: «السلام عليكم يا ولي الله.» العبد نادمه من جوه القبر، قالو: «وعليكم السلام يا نبي الله.» موسى سأله: «وإزي حالتك هنا؟»
قاللو: «حالتي في نعيم لا يزول أبدا.»
إبليس وفرعون
قبل ما إبليس ينطرد من رحمة الله كان ناصح ومتعبد، وربنا طردوا عشان استكبر وما رضيش يسجد لأبونا آدم.
وفرعون انطرد من رحمة الله عشان طغا وعمل نفسه إله، وادعى الألوهية.
وفي مرة إبليس دخل على فرعون، وقاللو: «أنت ادعيت الألوهية وأنا تكبرت، ما تيجي نتنازل لله؟»
فرعون ما رضيش، وقال لإبليس: «إنت عايز قومي يسخروا مني ويهزءوني؟!» إبليس تركه ومشي.
وتاني يوم راح لفرعون، وخبط على بابه، ففرعون رد عليه وقال: «مين على الباب »؟ إبليس قاللو: «إخص عليك إله، ما يعرفشي اللي على بابه مين؟»
موسى والزانية
بنت بكر، بنت ناس طيبين، حملت في الحرام، وراحت وضعت في خلا الجبال، وحرقت المولود ودرته في الهواء.
وتاني يوم طلعت الصبح بدري، وقعدت في خلا الجبال، تنتظر سيدنا موسى، ولما شافته سألته: «رايح فين؟» موسى قاللها: «رايح أقابل ربنا، عندي ميعاد معاه.» قالتلو: «طيب لما تقابل ربنا اسأله: البنت اللي حملت في الحرام وولدت، وحرقت ابنها، ودرته في الهواء، تعمل إيه؟» موسى قاللها: «حاضر حاقوللو.» وراح قابل ربنا واتكلم معاه ونسي حكاية البنت دي. تاني يوم سألته البنت، قاللها: «نسيت.» قالتلو: «طيب ما تنساش النهاردة تسأله.» قاللها: «حاضر.» وبعد ما قابل ربنا ورجع انتظرته وسألته، قاللها: «نسيت.» قالتلو: «طيب ماتنساش بكرة.»
تالت مرة ربنا قاللو: «يا موسى لما بني آدم يحملك أمانة توصلها إلي ليه ما بتوصلهاش؟» موسى قاللو: «اختشيت يا رب.» ربنا قاللو: «إنت اختشيت من البنت الزانية دي، وهي ذنبها أخف من ذنب أمك.» موسى سأله: «ليه؟» ربنا قاللو: «يعني نهار أبوك ما مات، بقت دايرة تصوت وتقطع في نفسها، وتقول: «فايت موسى لمين
40
يا أبو بكر.» ونسيتني أنا ربها.»
موسى وفرعون
والد فرعون
41
كان اسمه مصعب وكان راعي بقر وغنم، وفي يوم وهو بيرعى بقره وغنمه نطقت بقرة وقالت له: «يا مصعب أنت حايخرج من صلبك ولد يبقى من أهل جهنم.»
الراجل خد كلام البقرة وحط الخوف في قلبه وروح خايف ومضطرب على مراته حكالها على الحكاية، واستحسنها في الليلة دي ونام معاها، فحملت منه في فرعون، ولما وضعت وضعت ولد سمته عون.
ولما عون كبر كان شقي، وكل ما أبوه مصعب يوديه صنعة ما يفلحش فيها، وفضل لما اتعلم لعب القمار، وحاز من القمار مال كتير، فالملك فرعون حاكم المملكة قبض عليه ورماه في السجن، ففادى نفسه بكل ماله، والملك أفرج عنه وسابه، فعون قال للملك: «يا ملك أنا ما عنديش حاجة أشتغلها، أشتغل إيه؟» الملك قال له: «أي شغلانة يا عون ما عدا لعب القمار.»
راح قعد في الترب - المقابر - وكل ما حد يموت له ميت ياخد عليه فردة
42
بالغصب والرضا، والناس كانت تراضيه .
وفي يوم ماتت بنت الملك وجم يدفنوها، العون طلع لهم من التربة وقال لهم: «هاتوا العوايد.»
قالولو: «يا عون دي بنت الملك.» قال: «لازم آخد من الملك.» راحوا قالوا للملك، فالملك بعت خده وقاللو: «إنت ليه عملت كده؟» قاللو: «مجبر يا ملك عايز آكل وأعيش.» الملك قاللو: «تعالي أوظفك غفير في المملكة.» قاللو: «موافق لكن ما يكونشي فيه غفير في مصر غيري أبدا، وأقوم بالعمل لوحدي، وبعد صلاة العشا اللي أطوله وأقتله مالوش دية عندي.»
خده عليه الشروطات واستلم البلد، بعد العشا يمر يلقى كل البيوت مسكرة فيلزم حتته. •••
وفي ليلة شاف الملك رؤية وهو نايم: تعبان أسود حنش فاتح حنكه وجي يلهف الملك. صحي خايف من النوم، وطلع جري في السكك ملهوف عشان يجمع السحرة والمنجمين يفسروا له حلمه دا قبل النهار ما يطلع، لحد ما عتر فيه عون وزعق فيه: «مين اللي ماشي؟» قاللو: «أنا الملك.» وحكاله على الرؤية اللي شافها، فالعون قاللو: «لازم تسمعوا هو فيه تعبان أسود غيري.» وسحب السيف وطير رقبته وقلعه هدومه وتيجانه ولبسهم عون وصبح الملك فرعون.
وصبحت الوزرا يصبحوا على الملك بصوا لقوه الراجل الشقي، راح مطلع لهم رأس الملك فرعون وهددهم بها وقال: «لازم تسمعوا الكلام، شايفين.» قالوا: «طيب يا سيدي، اللي يتجوز ستي يبقى سيدي.» وكلهم عظموه.
ومرت سنة بعد سنة، قال لهم: «أنا ربكم الأعلى، لازم تسجدوا لي والأنهار والبحور دي بتاعتي.» وطلع في الكفر والكبر.
وفي يوم شاف رؤية، واحد بيضربوا بعصايا ويقوللو: «ويلك يا فرعون.» مشي يجري يفسر الحلم عند المعبرين، قالولو: «حايظهر ولد يطاعنك في دينك، وهوا دا سبب الخراب.» قال: «لازم الولد دا ما يظهرشي ولا يكون له خبر، لو انطبقت السما على الأرض.» وأصدر أمر بقتل كل ولد يتولد لحد ما قتل عشرين ألف طفل.
سيدنا موسى كان أبوه عمران، وكان عمران دا وزير فرعون وما يفارقشي فرعون أبدا، فلما آن الأوان، أم سيدنا موسى ماكنتشي حامل فيه، وجالها سيدنا جبريل وشالها وداها عند جوزها عمران وزير فرعون، وفرعون كان لسه نايم.
عمران قام على
43
مراته ونام معاها، ولما حملت شالها وداها تاني، وفرعون نايم.
حملت وولدت سيدنا موسى، والسحرة قالت لفرعون: «الولد اللي اتولد في الليلادي هوا اللي حايقتلك.» فرعون أمر جيوشه هجمت على جميع بيوت المدينة ما لقيوش حاجة، ولما جم عند بيت الوزير عمران قالوا لبعض: «لكن دا بيت الوزير.» وبعدين دخلوا على أم موسى وهية قاعدة تخبز، فراحت رامية
44
الطفل في شروقة الفرن في النار، وقالتلهم: «تعالوا فتشوا.» دخلوا ما لقيوش حاجة، مشوا وهية طلعته من النار وهو بيضحك.
ربنا قاللها: «ارمي ابنك في البحر وأنا حاردهولك تاني ومحدش حايمسه.» لما سمعت الندا جابت نجار عمل صندوق على أده ورمته في النيل.
فرعون كان عامل نهر نيل ماشي من داخل قصره، عشان كان عنده بنت عيانة والحكما قالوا: «ما تخفش
45
إلا لما تتغسل في بحر النيل كل يوم.» والصندوق فضل عايم على المية لما دخل في النيل من جوا السراية، بنت فرعون شافت الصندوق فتحته لقت الطفل نايم فيه، أول ما لمسته زال مرضها البرص اللي فيها. طلعت تجري على الست آسيا (مرات أبوها) مرات فرعون.
وآسيا مرات فرعون كانت مسلمة،
46
وكان كل ما فرعون يزورها وبيجي ينام معاها، ربنا يمثله جنية زيها بالظبط وينومه معاها.
البنت لما وجدت الصندوق أخبرت آسيا مرات أبوها، قالت لها: «هاتي الصندوق.» ولما موسى شافها ضحك لها، فراحت قالت لفرعون: «نربيه ونخليه ابننا.»
كان فرعون يسمع كلامها، فقال فرعون: «طيب عايزين له مرضعة.» فجمعوا كل المراضع اللي في البلد، ما قبلشي ولا مرضعة منهم، قالوا: «نجيب مرات الوزير عمران ما فيش إلا هية اللي ما جبنهاش.» بعتوا جابوها وأول ما شافته عرفته، واللبن نزل من بزازها، وبقت رايحة جية في السراية، وفرعون فرح وبقى يلاعبه ويهشتكه،
47
ولما كبر ابن سنة، فرعون جا يلاعبه زي عوايده، فنتش شعره من دقنه، ففرعون زعل وجا يقتله وقال: «الواد اللي حايقتلني.»
الست آسيا ردت وقالت: «دا طفل ما يعرفشي التمرة من الجمرة.» وجابت طشت فيه جمرة وتمرة ... موسى جا ياخد التمرة، ربنا خلاه مسك الجمرة وحطها على حنكه (فمه) فلسعت بقه، وفرعون سكت وفضل يربيه لما بقى سنه تلات سنين، وكان ينيمه جنبه على السرير.
وفي ليلة صحي موسى وضرب السرير قسمه نصين وفرعون وقع على الأرض وقال: «هو دا عدوي اللي حايقتلني.»
الست آسيا حايلته وقالتلو: «بكرة يكبر وينفعك.» موسى قعد لما بلغ من العمر 12 سنة.
وكانت طقة فرعون جمل بكامله محمر، قعد في يوم هو وموسى ياكلوا الجمل المشوي المحمر فموسى قال للجمل: «انت مستني لما ياكلك، قوم على حيلك.» فالجمل قام على حيله هايج وساب الصينية وجري.
فرعون قال: «دا اللي حايقتلني تمام.» وموسى هرب من قدامه.
فرعون دور منادين، ينادوا: «اللي يصادف موسى يقتله.»
وفي مرة وموسى طفشان من وش فرعون لقي اتنين بيعاركو بعض، جه يسلكهم من بعض، زق واحد غصب عنه فنزل ميت، قال: «يا رب أنا ظلمت نفسي اغفر لي.» ربنا غفر له، وجالو واحد قاللو: «يا موسى فرعون دور منادي ينادي إن اللي يصادفك يموتك، وأنا بانصحك اطلع من مصر.» فطلع من مصر هاجج، وفضل ماشي ماشي لحد ما راح بلد اسمها مدين،
48
جنب جبل الطور، وكان فيها سيدنا شعيب، ولقي بير فشرب وقعد جنبها، وكانت البير دي متغطية بحجر يشيلوه أربعين راجل، فجم بنتين أولاد سيدنا شعيب ومعاهم المواشي مواشيهم، وقعدوا جنب البير يستنظروا لما الناس تيجي تسقي مواشيهم ويكتمل عدد لربعين راجل اللي حايشيلو حجر البير، موسى سألهم: «انتوا مستنيين حد؟» قالوله: «مستنيين لربعين راجل اللي حايشيلو غطا البير.» راح على الحجر ورفعه بإديه لتنين وسقاهم، والبنتين رجعوا لأبوهم ولما سألهم: «جيتو بدري ليه؟» قالولو على اللي حصل، سيدنا شعيب بعت البنت تندهلو، راحت قالتلو: «تعالى كلم أبويا.» قاللها: «طيب أنا حامشي قدامك وإنت تمشي ورايا.» ولما دخلوا البيت سلم على سيدنا شعيب وكان عجوز وكفيف
49
بصر، وحكاله على كل اللي حصل مع فرعون.
البنت قالت لبوها: «اكريه
50
يا بويا يرعى لنا المواشي.» فقاللو: «أنا عايز أجوزك بنتي.» موسى قاللو: «أنا فقير ومطرود وما أقدرشي أدفع مهر.» قاللو: «مش عايز منك مهر، تسرحلي بالغنم تمن سنين.» موسى وافق واستلم الغنم، اتناشر ألف رأس، واتفقوا مع بعض على خلفة الغنم شعيب يأخذ الدكرة (الذكور) وموسى يأخذ النتي (الإناث)، والبركة طرحت والدنيا اتملت غنم.
سيدنا شعيب كان عنده أوضة ضلمة فيها عصي جميع الأنبياء، قاللو: «ادخل خد لك عصا يا موسى.» دخل خد عصاية وطلع، قاللو: «دخلها وخد غيرها.» يدخلها وييجي يأخذ غيرها تطلع له هية العصا الأولانية.
وبعدين شعيب قاللو: «دي عصاية آدم اللي جبريل نزلو بها من الجنة، حافظ عليها يا موسى، دي بالليل تغنيك وتسليك وتنور لك طريقك وتنصرك على عدوك.»
ولما موسى تم مدته قال لشعيب: «أنا سايب أخويا هارون وأهلي وحشوني.» قاللو: «خد مراتك وروح.» خدها ومشي، وهية كانت حامل، وجنب جبل الطور جالها الطلق، قعدت في الأرض علشان تلد، وموسى ما كنشي عارف يعمل حاجة، ومفيش لا مية ولا نار، شاف نور من بعيد سابها ومشي في الجبال، والجن جت عملتلها الأكل وولدتها.
موسى كل ما يقرب من النور يلقى النور محاوطه من كل حتة، وسمع اللي بيندهله: «يا موسى أنا ربك، اخلع مداسك،
51
وأنا حابعتك لعبد من عبيدي، عصاني وتكبر علية، روح ادعيه للطاعة، وإذا ما سمعشي الكلام، أنا حا أقتله.»
موسى كان بيلدغ
52
من يوم ما حط جمرة النار في حنكه
53
زمان، فقاللو: «ابعت معايا هارون أخويا، وحللي عقدة لساني.» ربنا قاللو: «طيب.» وسأله عن اللي في إيده، قاللو: «دي عصاية بسوق بها الغنم.» ربنا قاللو: «ارميها.» رماها فبقت حية كبيرة، وموسى خاف وفزع وجري، فسيدنا جبريل قاللو: «تهرب من ربنا وهو بيكلمك؟» وربنا قاللو: «خدها ما تخفشي.» فمد إيده وخد العصاية.
ورجع على مراته، خدها ورجع وداها عند أبوها وقاللو: «أنا جتني الرسالة، خد بنتك.» وطلع بالليل على مصر، خبط بالعصاية اللي في إيده على بيبان قصر فرعون، اتفتحت ودخل على فرعون نص الليل لقيه نايم، هارون أخوه سهران جنبه، قاللو: «أنا جتني الرسالة يا هارون وأنت معايا.» هارون قاللو: «طيب بس بالنهار.» رجع على بيته.
وبالنهار رجع تاني ودخل على فرعون، فرعون أول ما شافه قاللو: «إزيك يا موسى، إنت نسيت نعمتي عليك.» موسى قاللو: «النعمة نعمة ربنا.» فرعون زعل وقاللو: «هوا فيه رب غيري؟» موسى قاللو: «أنت مخلوق زيي زيك، ربنا خلقني وخلقك، وأنا جتني الرسالة.» فرعون سأله: «فين الإثبات؟» راح رامي العصاية اللي في إيده، ففرعون خاف وجري وقعد يزعق: «ساحر ساحر ساحر.» والمملكة جريت وراه.
فرعون كان عنده سبعين ساحر، جمعهم كلهم وكان كبيرهم أعمى وقاللهم: «إن غلبتوا موسى خدوا اللي انتوا عايزينو، وإن غلبكم حاقطع رقابكم وأعلقكم على البوابات.» واتلمو جميعا قدام فرعون وكل ساحر رمى عصاته، وتقلبت العصى دي حيات وتعابين وسرحت ملت الأرض، وهجمت كلها من كل حتة نوبة واحدة على موسى، موسى خاف فربنا شجعه وقاللو: «ارمي العصا اللي في إيدك.» رماها اتقلبت حية لها اتناشر حنك (فم) وهجمت بلعتهم كلهم، وبعد ما انفض الجمع كبيرهم زعقلهم وقاللهم: «عصاية واحدة تغلبكم.» وعشان هو كفيف بصر سألهم: «هية منفوخة والا ممدودة؟» قالوا: «مش منفوخة.» قال: «يبقى مش فعل ساحر، دا نبي.» وخدهم كبيرهم وخلاهم آمنوا بيه.
فرعون عرف وهددهم: «حا أقطع إديكم ورجليكم وأصلبكم.» وقطع إديهم ورجليم وصلبهم وماتوا على الإسلام.
السيدة آسيا مرات فرعون، وماشطتها، زعلوا على صلب السحرة، وهي قالتلو: «ليه يا ملك بتقتل السحرة والكهنة اللي آمنوا بالله؟» قال فرعون: «وانتي منهم.» وأمر جابولو صندوق مليان زيت، وضع فيه الست آسيا وأولادها وماشطتها وغلاهم في الزيت لما ماتوا، وهمه يقولوا: «آمنا بالله.»
ونزل سيدنا جبريل بشر آسيا وأولادها إنها حاتكون مرات النبي يوم القيامة، وهية قالت: «الحمد لله، ربنا نجاني من فرعون.»
وربنا لما غضب على فرعون، بعت طوفان نازل من السما ليل نهار، ففرعون استجار بموسى وقاللو: «ابعد العذاب دا واحنا نآمن بالله.» موسى طلب من ربنا، رفع عنهم الطوفان ، ولما راح العذاب رجعوا تاني، فسلط عليهم الجراد، وفرعون استجار بموسى، موسى طلب من ربنا يبعد الجراد، أول ما راح كفروا تاني زيادة، بعتلهم الضفدع، بقى ينزل في أكلهم وميتهم وشربهم، قالولو: «غيتنا شيل عند الضفدع.» شاله، رجعوا للكفر، قلبلهم البحر دم، المؤمن يشرب يلقى المية مية صافية، والكافر يشرب يلقى دم، غرقوا تاني في الكفر، ولما آن الأوان سيدنا جبريل جه لفرعون في صورة راجل، فرعون قاللو: «إيش تطلب؟» قالو: «يا ملك أنا جي أشكيلك عبد من عبيدك ربيته وهو صغير، ولما كبر عصاني.» فرعون رد عليه وقاللو: «جزاء العبد العاصي الغرق.» سيدنا جبريل خلاه مضالو
54
على الشرط ده، وجبريل خد الشرط وعطاه لموسى وقاللو: «آن الأوان نغرق فرعون. خد إنت بقى ناسك
55
وجيشك واهرب، ففرعون حايتبعك ويقول دا هربان، اضرب البحر بالعصاية اللي في إيدك، يبقى طريق تفوت منه إنت وجيشك، وفرعون ييجي يفوت وراك يغرق.»
موسى نادى على الرحيل، اتلم وراه سبعين تمنين ألف، تبعوه ومشوا وراه، وفرعون ماكدبشي خبر، جمع جيشه وطلع وراه، موسى جه عند البحر وضرب البحر بالعصا، صبح اتناشر
56
سكة، فات موسى وجيشه فيه، جا فرعون وجيشه يمشي ورا موسى، فسيدنا جبريل عمل نفسه فارس خيال من جيش فرعون وخوض وسط البحر المالح قدام فرعون وجيشه، وفي نص البحر انقلب عليهم البحر، فرعون يصرخ ويقول: «آمنت بالله، ارحمني يا رب إسرائيل وموسى.»
سيدنا جبريل ناداه وقاللو: «أنت عصيت والنهارده أنا حانجيك بزورك وأنت اللي طلبت ومضيت على أنك تغرق وآدي صحيفتك آهي.» وبعتله ريح رصراص، فضلت تدفع وتزوف فيه لحد ما رمته
57
على الشط، وصبح عبرة لكل واحد من الناس يفوت عليه، يقول: «آدي الإله اللي كان عامل نفسه إله.» ويتركه ويمشي في سكته.
تربية موسى عند فرعون، والخروج
أبو سيدنا موسى كان راجل عبيط، ولما موسى اتولد كان عايز ياخده يسلمه للملك فرعون اللي كان بيدبح الأطفال.
أم موسى خدت الولد أخفته في جحر في الجبل، ولما كانت تروح تزوره وتطل عليه تلقاه بيرضع في صوابعه، صباع يرضع منه لبن، والتاني عسل، والتالت ميه.
وجوزها كل ما كان يشوفها رايحاله في الجحر أو جياله، يقوللها: «حاتودي الطفل لفرعون والا أروح أقوللو؟» فكانت تصرخ وتقوللو: «يا كشر انكسف.»
ولما خافت جابت صندوق وحطت فيه جواهر، ووضعت فيه الطفل موسى، وبرشمته ووقفت قدامه وقالتلو: يا ضنايا أنا استعوضتك لرب البرايا،
ابني من لحمي عرضي وهنايا،
اكشف بذات عيني لا قدامي ولا ورايا،
حياة رب البرايا تحرسهلي يا الله،
وهو ولدي موسى إنشالله،
إن كان ابني ومن صلبي،
ومن روح التجلي،
أرد إليه ويرد ليه،
لبن الدفاتي يرد ليه،
دا ابني ليه،
وساقت إليه لبن الحنية.
فالصندوق بقى يرتعش قدامها، وانكتبت الكلمة في السما: حياة صاحب الطلعة البهية.
فقسمت الليل نصين.
الأم شالت الصندوق على صدرها يا عين،
وفيه الروح الزكية.
ولما رمت الصندوق قدامها في البحر، الصندوق وقف قبالها وما تحركشي، والتيار شديد، فقالتلو: رايح فين يا أمين؟
اصبر ولا تقلق يا صدري،
دا ابني، ابني طول ما الماء في صدري،
ويا مين يطمني على غياب العزيز ولدي.
وقفت ساعتين والصندوق لم يتحرك،
ووجدت النهار انكشف والفجر شقشق،
وقالت: يا صاحب العزلان،
يا من عزلت الليل عن النهار،
تطمني حياة فجرك اللي من الشرق شقشق. •••
وسابت أم موسى الصندوق وقالتلو: مع السلامة يا بيت العطا،
تحت منك شهد،
وكلمة بسم الله الرحمن الرحيم،
فراش لك وغطا.
يا موسى يا ولدي لا بعتك ولا اشتريتك،
قادر يخلصني من الظالم اللي ساقني حتى رميتك،
من كلمة الرعب وخوض جبتك وراميتك ...
يا دمع عيني خف عني بقه،
جفوني شققت وبان الظل فيها،
وطول ما اللبن يجري في صدري،
عيوني تلاغيها.
ولما رجعت بيتها، فزعت في راجلها قالتلو: أنا رميته.
رميت الدوا اللي بكرة للناس ينعاز،
ويبقى حكمه يسير على كل الناس،
ويبقى منه الدوا ينعاز. •••
جوزها قاللها: ما تتعينيش يا مرة، بكرة يجي غيره.
بكرة يزول الحكم،
وييجي حكم لنا ينعاز.
قالتلو: وأحلم بضهري وساعة القمر يطلع ،
أسلملو أنا صدري.
قاللها: دا انتي فرحتيني عشان ما يطلعلي سيرة لينا،
نتبهدل أنا وانتي ويلعب العيال بينا.
قالتلو: جاش
58
ييجي يوم،
ونشوف قوم،
يغيروا اللوم.
ابني ولدتو رميتو ع الكوم،
رميت ولدي حشاشات كبدي،
أسلمته في وقت والخلق نيام،
ويشهد عليه فجر الصباح.
قادر ما غيرك قادر،
ترد ولدي إلى صدري،
حياة حي على الفلاح. •••
مشي الصندوق في البحر، ووصل بقوة الحق لقصر فرعون، وقصر فرعون كان مبني في وسط البحر.
ولما فرعون شاف الصندوق بنفسه نده لمراته (ستنا آسيا) وقال: يا آسيا عجبك عليه بشير،
لك 360 ضفيرة يعجبو العايقين،
لقيتلك لقية عجيبة تدهش الغايبين.
فآسيا قالتلو: إيه هيه يا عدو الله يا ظالم؟
فشاور لها فرعون وقال: أهي واقفة في المية مرمية.
انزلي وهاتيها.
وكان للبحر 80 سلم، نزلت الست آسيا لحد ما حصلت الصندوق، وفجت عليه الريحة من الصندوق، كيف العطر والمسك.
فبشرت بالماء وقالت: ما أنت؟ ما أنت؟ ما أنت؟
فسمعت لغة في ودنها بيقوللها: أنا صاحب الحفلة اللي إنتي تعلمي بيها.
لا يخفيك شوري ولا قولي.
أنا موسى.
فرفعته على صدرها شجيعة؛
لأنها كانت صاحبة قوة ومليحة.
رفعت آسيا الصندوق وقالت: «يا فرعون احذر من الأمانة دي، دي أمانة حلوة قوي.»
وكان فرعون متجوز ست تانية غير ستنا آسيا، وكان مخلف منها بنية سنها سبع سنين، وكانت عاجزة رجلين وإدين، ومبلية بالبراص.
ولما جابو الصندوق وفتحوه قدام البنت بقدرة قادر زال عنها البراص، وصبحت سليمة، على وش الطفل الصغير.
ولما شافت آسيا إن البراص زال عن البنت، قالت لفرعون: يا ظالم إنت جمعت كل الأطبة،
حتى اللي دار دار،
لم شفوها ولم بروها،
وعلى الوجه المليح اتبرت بنتك.
فرعون قاللها: ما رأيك يا آسيا أحلى من دا ظلام.
أنا ادتهلك يا آسيا وأنتي تفكري بهذا الكلام.
آسيا قالتلو: نهار عيد ساعة أشوف دا ابني.
بس مفيش غدا (غداء) في صدري ينفعلو.
قاللها: أمال المدله عندك.
قالتلو: أحضر لي جميع المراضع،
اللي يشرب منها تستنه عندنا.
ولما يشرب وينام تروح وتصبح عندنا.
بعتوا لجميع المراضع جابوها،
اتعرض على كل المراضع ما قبل منهم.
آسيا قالتلو: الولد مش قابل حد.
فرعون قاللها: قصي الملك كله ما تخلي منه حد. •••
آخر سنة جت الأميرة أمه،
بعتوا جابوها.
قالت أم موسى: يا دمع عيني اختشي،
ما ينزل منك شيء،
ويا نهر اجري في صدري.
راحوا العرب من قبل مني،
عزموا العرب بغذاهم،
ما قبل منهم شيء،
جينا لوقت الحق،
إلهي يا رب ما تكسفني،
وعدتني وفيت طلبك،
وآديني جيت لك. •••
نظر فرعون بعينه لقي الولد مش قابل بز أي مخلوقة على وجه الأرض، فقال لآسيا: أمال حانسقيه منين المشيطن ده.
آسيا قالتلو: صلي صلي صلي،
دا وهبة من الله،
وجت ع الأرض.
فرعون قاللها: ما احنا قدمنالو كل المراضع،
مش قابل ولا واحدة،
جت ع الأرض.
آسيا قالتلو: فيه ست برا آخر التصافي،
إن ما قبلش بزتها،
يبقى لنا تصاريف في الأرض. •••
أول ما دخلت العزيزة أمه،
رفع بعينه وعاز يقوم ع الأرض. •••
جريت بنت فرعون اللي كانت مريضة،
راقدة في الأرض.
يا ست الغلام،
وسلمته لأمه.
تشهد بذلك ملائكة الأرض،
جر من بز أمه في أمان الله.
ضحكت آسيا وقالت: يا ما أنت كريم يا رب،
أتانا الخبر من عندك،
وإنت اللي عالم يا رب.
راحت لفرعون وقالتلو: مبروك.
قبلت العناية من عند رب البرايا،
الفرحة تمت وبان الهداية. •••
فرعون ملهي في بنته،
ولا يعلم إن دا موسى ابن عمران،
لكن آسيا تعلم وحق الواحد الجبار.
قالت آسيا: يا رب تنتقملي من الظالم فرعون،
ويجعل عمرك طويل يا موسى يا ابن عمران،
قعدت في هنا وعدل.
فرعون قاللها: إنتي تنامي على كل الدلع والهنا،
وتحرص ع الغلام روح العز والعنا.
قالت بنت فرعون: يابا أنا أقدرش أنام،
إلا جار الطفل بس،
يحلالي المنام بابا وانجلى.
ريحته ذكية يابا،
ومنه القلب ينجلي.
ولما الفجر بيحوم،
ألقاه قاعد جاري يصحيني،
يضحك معايا يابا،
واعي وبيسليني،
وعلى كل حاجه يوريني.
قام فرعون بنفسه شال الولد حبه،
أيم الولد بإيده اليمين لدقن فرعون،
وهبش خصلة من الشعر طلعها بالدم،
وكان الولد عنده من السن سبع سنين.
صرخ فرعون في آسيا وقاللها: الحقي يا آسيا غيتيني، دا موسى ابن عمران.
آسيا قالتلو: تعرض عليه الجمرة والتمرة.
وراحت آسيا لبست واتزينت وبلغت فرعون وقالتلو: تتشطر على غلام آسيا مربياه،
عشان ما انت ليك ست بالمستقر،
لها بنيه تجوز الملك كله وحديها.
وحضنت فرعون لصدرها. •••
قالت أم موسى لستنا آسيا: ما حالك يا آسيا بين العرب؟
قالت آسيا: ما بين الجلسة والجلسة الدم مني هرب.
إني خلقت لعلاج موسى،
علشان منه أكتسب.
قالت أم موسى: ولما كبر موسى، وعمل عمايله مع فرعون، فرعون عرف إن دا موسى ابن عمران اللي حايقتله. لحقت ستنا آسيا وقالت لموسى: اخفا يا موسى لا تبان.
وفرعون قال: أأتوني بعساكري وقومي،
يجيبولي موسى بأكبر سراع.
فقالت آسيا لفرعون: ابعد يا فرعون عن موسى،
واترك العشم منه.
دا موسى قوي العزم،
ولا فيش رجال منه.
اسأل بنتك يا فرعون،
تقولك ع اللي حصل منه. •••
وفرعون طلع عساكره وجنده تدور على موسى وتجيبه، لو كان في حضن أمه.
وموسى راح جبل الملاغاة،
ونادى على باب الجبل وقال: يا من خلقتني وأنت أعلم بحالي،
وما قصدتك إلا وإنت قبالي،
تقويني على أعدائك من الشركاء،
وفيهم العدو الغالي،
فرعون اللي بيفعل ولا يبالي،
يفرد بطون الحوامل،
ويقتل الأطفال،
ومنك لا يبالي.
دا أنا كنت من ضمن الضحايا،
وإنت أعلم بحالي،
فلا تخيب رجائي،
يا رب قويني. •••
دوروا على موسى في كل حتة ما وجدوهش، وموسى كان عدى وراح عند بني سهل، عند أخوه هارون، فوجده سارح بالغنم وحكاله على اللي حصل مع فرعون.
يوسف وزليخة
سيدنا يعقوب كان عنده من الخلفة والذرية عشرة غير يوسف وأخوه شقيقه بنيامين.
وكان يحب يوسف قوي ويعزه ويقوللو: أنت نور عيني.
وفي يوم اتشاور إخواته وغاروا من يوسف وقالوا: احنا نشقى ونسرح بالغنم، وأبونا ما يحبش حد إلا يوسف . احنا لازم نتخلص منه ونموته.
وكان لهم يوم يدخلوا فيه على أبوهم يعقوب، فدخلوا عليه في اليوم دا من غير استئذان.
يعقوب قاللهم: ليه داخلين عليه كلكم من غير استئذان.
قالوا: أبدا يابونا، طلع علينا ديب واحنا سارحين بالغنم وهجم علينا، وخطف السعي منا، ولو كنا احنا لتناشر مع بعضنا ما كنش الديب هجم علينا.
يعقوب استعجب وقاللهم: وعايزين إيه؟
قالوا له: عايزين أخونا يوسف معانا.
قاللهم: لا.
قالوا له: خليه ييجي معانا، واحنا نحافظ عليه زي عنينا.
وبعدين يوسف حلم حلم، إخواته الحداشر ساجدين له، وإخواته زعلوا وقالولو: إنت عايزنا نسجد لك؟!
وبعد كدة حلم حلم تاني، شاف فيه أبوه مع إخواته ساجدين قدامه.
ولما حكاه ليعقوب أبوه شتمه وزعقله.
وأبوه عمله قميص جديد ملون، وغزله على إيده ولبسه ومنطقه، وخلاه مشي مع إخواته.
وإخواته خدوه في حتة مقطوعة فيها جب ودبروا له شورة، وواحد منهم ضربه وحاول يموته، فأخوه شقيقه من الأم ابن أمه وأبوه حاش عنهم وقاللهم: بلاش تضربوه وتموتوه، ملطوه ملط زلط وارموه في الجب.
ملطوه من قميصه ورموه في الجب، وجبريل جاله ورفعه على صخرة على وش الميه.
وكان فيه في الجب عقارب وتعابين وحيات، وسيدنا جبريل كان بينزله أكله طقة بطقة، لحد ما فات تلات تيام، وجم إخواته يشوفوه فواحد قاللو: إنت ميت والا صاحي؟
يوسف نادمه من الجب وقاللو: لا صاحي.
وجم يضربوه بالصخرة ويسدوا الجب عليه، فأخوه شقيقه قاللهم: لا، بلاش.
جابوا عنزة ودبحوها، وغرقوا قميصه بالدم، واصطادوا ديب عجوز، حاوطوه ومسكوه، ورجعوا على أبوهم يعيطوا ويندبوا ويقطعوا في هدومهم ويقولوا: أخونا يوسف أكله الديب منا، وآدي قميصه وآدي الديب.
يعقوب خد القميص وقلب فيه، ما لقيش فيه ولا قطع.
جاب الديب وسأله وقرره، فالديب قال: أنا مكلتوش.
قام نظر يعقوب غاب وصبح أعمى.
ويوسف فضل جوا الجب لحد ما جا جماعة عرب رحل عشان يشربوا من البير، فلقوه.
قالولو: إنس والا جن؟
قاللهم: إنس من خيار الإنس.
فطلعوه لقوه جميل الصورة ، قالوا: نبيعه للملك بتاع مصر العزيز.
وخدوه وجم على مصر، ونزلوا بسوق الدلالة، والعزيز اشتراه منهم، وروح قال لزليخة مراته: اكرمي الولد دا.
وفضل العزيز يربي فيه لحد ما كبر وكان جميل الصورة، فزليخة استحسنته وعشقته وطلبت منه أن ينام معاها، وفضلت تعافر معاه كل يوم عشان يفعل فيها، لحد ما هم إنه يفعل، فسيدنا جبريل نزله في صورة أبوه يعقوب وشيبته، وقاللو: إياك يا يوسف إياك.
ففلت منها وطلع يجري وهيه وراه بالمشوار، تمسك فيه وتشد فيه، ومن كثرة المعافرة قطعت القميص من ورا ضهره.
ولما جا العزيز عيطت وقالتلو: العبد اللي ربيته في بيتك، هجم علية وطلب مني أن يفعل فية.
الراجل زعل وقاللو: كدة يا يوسف!
يوسف نكر وقال: دي هية اللي طلبت. وقاللو: حتى اسأل الطفل الصغير اللي بيرضع ده، ابن الدادة، اللي سنه سبع تيام.
الطفل نطق وقال: شوف قميصه، إذا كان اتمزع من قدام يبقى هوا اللي عايز، وإذا كان من ورا يبقى هية.
العزيز شاف القميص لقي القطع من ورا وعرف.
زليخة صممت في نفسها إنها لازم تمشي اللي في بالها مع يوسف.
والكلام والحديث ملا المدينة: إن زليخة عاشقة يوسف. وهية زعلت واتقهرت وانذلت في نفسها، وبعتت لجميع الستات الزوات اللي في المدينة، وكانوا ستة وتلاتين، وقعدتهم وأدت لكل واحدة سكينة وتفاحة.
ودخلت لبست يوسف وهيئته وزوقته، وقالتلو: أنت ما طوعتنيش في نفسك، لكن لازم تطاوعني في اللي أقولك عليه. اطلع على الستات اللي برا بالزينة دي.
ولما اتفتحت لبواب وطلع عليهم، كلهم بصولو وبقوا ياكلو في نفسهم، وبدل ما يقطعوا التفاح اللي في إديهم بالسكاكين عشان ياكلوه، كانوا يقطعوا في إديهم وصوابعهم ودمهم يشر، ويصرخوا ويقولوا: يوسف يوسف.
بكت زليخة وقالت: عشت في الذل لمتوني.
في حب يوسف بن يعقوب
لمتوني.
إلا وجولها البيض في أوان عصر ومالوا وقالولها: فين يا زليخة اللي عليه البيبان سكين؟
59
ما فتحت لهم زليخة الباب.
ما خرطت يدهم سكين.
قالتلهم: أهو يا مساكين اللي عليه
لمتوني.
زليخة قالت لنفسها: إن ما كنتش حانول اللي في بالي حاسجنه.
وبعد كدة دخل السجن.
وفي السجن لقي طباخ الملك والسقا الخصوصي بتاعه، كانوا عاملين فتنة ويحطوا السم في أكل الملك وشربه ويموتوه.
وبعد ما اتفقوا، كل واحد منهم قال لنفسه: أنا أروح أحذر الملك وأكبر في عنيه.
وجت دخلتهم على الملك مع بعض، الطباخ قال: حاسب يا ملك السقا حايسمك.
والسقا قال: حاسب من طباخك يا ملك.
إبراهيم والملك النمرود
كان سيدنا إبراهيم بن آزر، أبوه آزر على مدة الملك النمرود، وكان النمرود ملك ظالم كافر، في مرة وهو نائم حلم حلم شاف فيه إن ولد حيتولد وحيقتله، فأصدر أمر بقتل كل ولد ذكر يتولد، لما بلغ اللي قتلوهم من الأطفال عشرين ألف طفل.
إبراهيم كانت أمه حامل فيه وآزر أبوه كان خدام عند الملك يعبد الأصنام، أمه وهي حامل فيه، خافت عليه وراحت ولدته جوا غار، وسدت عليه باب الغار وتراعيه من بعيد لبعيد عشان ترضعه، فكان يكبر في اليوم مقدار شهر، وفي يوم دخلت عليه الغار وجدته بيرضع صباعه، مسكت إيده لقت إن فيه صباع بينزل لبن، وصباع بينزل عسل، وصباع بينزل مية.
ولما كبر سأل أمه قاللها: «أماه ربي مين؟» قالتلو: «ربك أمك أنا.» قاللها: «ورب أمي مين؟» قالتلو: «ربي أبوك.» قاللها: «ورب أبويا مين؟» قالتلو: «رب أبوك الملك النمرود.» سألها: «ورب النمرود مين؟» قالتلو: «رب النمرود الأصنام.» قاللها: «ورب الأصنام مين؟» قالتلو: «اسكت أحسن النمرود يبعت يموتنا.»
ولما كان ابن سنة شاف النجوم بتنور في السماء قال: «دا ربي.» غابت، قال: «لا دا مش رب.» القمر طلع قال: «دا ربي.» غاب قال: «لا دا مش رب.» الشمس طلعت بدري ونورت السما، قال: «دا ربي.» آخر النهار غابت، قال: «لا، ربي لا يتحول ولا يزول.»
طلع من الغار، وجبريل مشي قدامه ودله على بيت أمه وأبوه، دفع الباب ودخل عليهم، أبوه قام واقف، وقال: «مين ده؟» أمه قالت: «دا إبراهيم ابنك، وأنا كنت خايفة من النمرود أحسن يقتله.»
وهو أول ما دخل على أبوه عرفه وقاللو: «يابا مين ربك؟» أبوه قاللو: «النمرود ربي.» قاللو: «ومين رب النمرود؟»
أبوه خاف وطلع يجري، دخل على الملك النمرود، وحكاله على اللي حصل من ابنه إبراهيم، وطلب منه الأمان، والنمرود بعت جابه وسأله: «يا إبراهيم مين ربك؟» قاللو: «الله.» قاللو: «وفيه رب غيري، اسجد لي يا إبراهيم.» قاللو: «لا ينبغي السجود لغير ربي المعبود.» النمرود زعل وصقف طلب اثنين، وقاللو: «أنا أقدر أحيي وأموت.» ساب واحد وسيف رقبة التاني، وإبراهيم قاللو: «الشمس بتطلع من الشرق، هاتها من الغرب.» النمرود زعل وقاللو: «يا آزر خد ابنك وامشي.» خده وطلع، وهو تاني يوم راح اشترى شوية أصنام، ودار ينادي بيها في البلد: «يا مين يشتري اللي لا ينفع ولا بيضر؟» •••
النمرود كان عامل قصر كبير، وحاطط فيه أصنام، وكل سنة يعملو عيد كبير للأصنام ويدبحوا دبايح، ويمدوا الأكل والطبالي، والنمرود طلب من آزر إنه يحضر العيد ويجيب ابنه معاه، راح إبراهيم مع أبوه، لقيهم حاطين الدبايح قدام الأصنام، والشياطين تدخل بطونهم وتاكل أكلهم، وهمه يقوموا يسجدوا ويصلوا قدام الأصنام، لحد ما خلصت الحفلة وناموا.
إبراهيم جاب فاس ونزل تكسير في الأصنام، وبعد كدة علق الفاس في رقبة الصنم الكبير فيهم.
همه جم الصبح زعلوا واتحسروا، وقالوا: «مين اللي عمل كده؟» واحد منهم قاللهم: «دي عملة إبراهيم.» جابوه وسألوه: «ليه عملت كدة؟» قاللهم: «اسألوهم.» قالولو: «هيه الحجارة بتنطق.» قاللهم: «يبقى اللي عمل دا كبيرهم.» •••
ودي كانت أول مرة يكذب فيها سيدنا إبراهيم، وعشان ما قالشي الحق، وعشان كدة ما قدرش يقابل ربنا.
والكفار اتشاوروا مع بعض، وقالوا: «إحنا لازم نحرقه.» ولموا الخشب والحجارة، وعملوا حريقة عالية في السماء، ومسكوا إبراهيم وقلعوه ملط زلط، ورموه في وسط النار، وهو عمال يضحك ويقولهم: «أنا بردان.» وهمه لما شافوه طالع من النار زي ما هوه، مسكوه من إيديه لتنين وطلعوه م البلد.
مشي راح أرض مكة، واتجوز ستنا سارة، وبعد كدة هاجر، وبنى الكعبة والحرم . وبعد كدة كبر وشاب، والغلا والقحط ملا البلاد، الناس كانت بتاكل لحم بعضها.
والملك النمرود كان يدي للي يسجدلو، وراح سيدنا إبراهيم يجيب غلة من النمرود وقاللو: «اسجد لي وأنا أديك.» قاللو: «السجود لربي المعبود.» النمرود قاللو: «طب روح خللي ربنا يديك غلة.» وقاللو: «يا إبراهيم خللي ربنا بتاعك ييجي يحاربني.» وقام النمرود على حيله عمل له تابوت خشب، وكان مربي عنده أربع نسور شديدة معلوفة عال، والتابوت كان عامل زي البيت، فدخل وقعد فيه وحوليه الوزرا بتوعو، وربط النسور في التابوت، وأمرهم بالطيران، طارت النسور في الجو بالتابوت في السما فوق، والنمرود سمع نداء من فوق: «رايح فين يا عدو الله، وبينك وبين السما خمسميت عام؟»
النمرود افتكر أن دا رب إبراهيم، سحب الحربة بتاعته، وضربها في الجو، جت في سمكة كبيرة، والسما نطرت دم، فالنمرود فرح وهلل: «افرحوا قتلت رب إبراهيم ودمه أهو في كفي.»
سيدنا جبريل صرخ صرخة فالنسور داخت، والتابوت وقع بيهم في البحر، الوزرا ماتت من الخوف، والنمرود طلع من التابوت وسط البحر شايب وشعره أبيض، بعت جاب إبراهيم وقاللو: «هاتلي ربك قدامي هنا يا يغلبني يا أغلبه.» ربنا قال لسيدنا إبراهيم: «اطلب من النمرود يختار أي حاجة تحاربه حتى الطيور.»
النمرود قال: «أنا أختار الناموس.»
ربنا بعتله الناموس، وبقى الناموس طاير في الجو وفرحان، وكل ناموسة تقول للتانية: «الحقي عندنا فرح النهارده عند النمرود.»
والنمرود لم جيوشه وصفهم وضرب في النفير والحرب اشتغلت، الجيوش تحت والناموس فوق يقرص الواحد منهم القرصة يطب ميت مكان ما هو واقف، لما كل لحمهم وهضمهم.
النمرود واقف وحديه، وجت ناموسة ضعيفة جناحها مكسور، وراحت داخله مناخيره، وفضلت تنخب في مناخيره، لحد ما طلعت على فوق على مخه، فهو بقي زي المجنون، والناموسة بتاكل في مخه، وخلى الخدم اتلموا عليه، واللي في رجله صرمة والا جزمة قلعها ونزلوا ضرب على دماغه لما فلقوا دماغه واترمى في الأرض، وهو بيموت طلعت الناموسة من دماغه وقالتلو: «فتك بعافية.» ومات النمرود.
وملك سيدنا إبراهيم الكعبة، وهو وابنه البكري وإسماعيل.
العنقاء وسيدنا سليمان
سيدنا سليمان كان مكشوف عنه الحجاب، شاف إن بنت ملك حاتتولد الليلة دي، وحايفعل فيها ابن وزير الملك في الحرام.
جمع الطيور والوحوش وقاللهم حزر: «هل الحذر يمنع القدر؟» فجميع الطيور والحيوانات والريح والصجر قالوا: «لا.» فيما عدا العنقاء اللي قالت: «أيوة الحذر يمنع القدر.»
ولما العنقاء اتمسكت برأيها دون عن الجميع، سيدنا سليمان قال للعنقاء: «طيب، نشوف.» •••
مرات الملك ولدت البنت في الليلة دي، وعملوا الفرح ودبحوا الدبايح، ولما العزومة خلصت دخلت العنقاء من شباك السراية شالت بنت الملك المولودة بلفتها، وراحت حطتها في أعلى شجرة عالية في الجبل اللي برا المدينة، وبنت لها عش كبير، وبقت تأكلها وتسقيها والبنت تكبر، وكل يوم تنتظرها زي أمها اللي ولدتها، لحد ما كبرت وبقت عروسة جميلة، ولا نزلتش أبدا من على الشجرة. •••
ولما ابن الوزير كبر، ركب الحصان وطلع يصطاد في الجبل، الحصان عطش فراح يسقيه من بحر صغير تحت الصجرة دي، وميل يسقي الحصان، شاف في الميه الرايقة بنت جميلة قوي، رفع راسه لقاها فوق الصجرة عمالة تطل عليه وتشاورلو، قال: «إيه اللي طلع البنت الحلوة دي فوق الصجرة العالية دي؟!» وسألها: «مين اللي طلعك فوق؟» قالتلو: «أنا فتحت عنية لقيتني هنا.» قاللها: «وإنتي بنت مين؟» قالتلو: «بنت أمي.» قاللها: «أمك مين؟» قالتلو: «العنقاء.»
ولما البنت عجبته، قاللها: «طيب أنا عايز أتصل بيك وأنام معاك.» قالتلو: «طيب ادبح الحصان واسلخ جلده، وخيط الجلد وادخل جواه، وأنا أخللي أمي العنقاء، تجيبك عندي وتتصل بية.»
راح الولد عمل زي ما قالتلو، ولما رجعت العنقاء للبنت وجدتها بتعيط وتقطع في شعرها الطويل، وتقول: «أنا وحيدة، وحافضل طول عمري وحيدة.» العنقاء قالتلها: «طيب وإيه اللي أقدر أعمله.» البنت قالتلها: «عايزة جلد الحصان المرمي تحت الصجرة ده، يونسني وألعب بيه.» طارت العنقاء ، ونزلت على الجلد، رفعته وابن الوزير فيه، وحطته جنب البنت على الصجرة، وهية طارت من هنا، والولد طلع من الجلد، ونام مع البنت وخد بكارتها. •••
جمع سيدنا سليمان الطيور والوحوش، وكرر عليهم الحزر: «هل الحذر يمنع القدر؟» جميع الطيور والحيوانات ردت قالت: «لا.» والعنقاء اتمسكت وقالت: «أيوة.» سيدنا سليمان طلب منها وقاللها: «طيب روحي هاتي الأمانة.» راحت العنقاء جابت البنت وجلد الحصان اللي فيه ابن الوزير، وحطت لتنين قدام سيدنا سليمان.
نادى سليمان على البنت والولد، البنت قامت واقفة ولقوها حامل بطنها لقدام، والولد فتح جلد الحصان وطلع منه ووقف ساكت جنب البنت.
العنقاء انكشفت وقالت: «صحيح الحذر لا يمنع القدر.» ومن يومها سابت العنقاء مسكن أعلى الشجر وسكنت الجبال.
داود وأوريه
سيدنا داود كان متجوز واحدة ست، اسمها مأمورة بنت هنداوي، خلف منها أربعين ملك.
ولما لربعين ملك دول اتجوزوا أربعين زوجة وعملوا الفرح، كانت كل الناس مبسوطة وفرحانة، ما عدا الست مأمورة أمهم كانت مغمومة وحزنانة، وتقول: «يا رب دا حلم والا علم؟»
واللي شافته الأم لقيته تاني يوم الفرح الصبح، راحت تصحي أولادها من النوم، لقيتهم كلهم متمددين مسبلين ميتين.
الأم زغردت وجريت فرحانة على جوزها داود، وقالتلو: «قوم صاحب العوض موجود.» داود صحي من النوم وسألها: «فيه إيه؟» قالتلو: «لربعين عريس ولربعين عروسة ماتوا.» داود قام طل في وشوشهم وجسدهم لقيهم مغسلين ومكفنين.
واجتمع المسلمون من كل حتة عشان يشوفوا إيه اللي حصل، وحضر القطب المتولي وأولياء الله، شالوا الميتين دفنوهم في ترب سيدي إسماعين.
وقت دفن الميتين حضرت الملوك اللي داود كان مناسبهم ومجوز بناتهم لأولاده، وطلبوا من داود إنهم يأخذوا جثث بناتهم الميتين، داوود قاللهم: «يعني إنتوا حاتخدوهم تصحوهم؟» سابوا الجثث مشيت ورا بعض، والصبر عم الجميع.
الأم طلبت من ربنا شوية صبر، فنزل جبريل وصبر داود ومراته على البلوة اللي لا حصلت ولا حاتحصل بعد كدة.
لكن شوف لتنين تحملوها،
فرقوها على بعض وشالوها.
ولما جت الناس تعزي داود، قاللهم: «إيش يعمل الحاسد في الرازق؟»
ربنا بعد كدة عوض على داود بسليمان، يطيعه أهل الأرض والجن والريح والطير، وكانت لبساه عافية أهل السماء وأهل الأرض.
ولما كبر سليمان وأمه سألته: «ليكش حد في الدنيا يا سليمان؟» قاللها: «لية، التمانين إخواتي ونسوان إخواتي.»
وفي يوم شاف سليمان ملك الموت رايح لأبوه داود يسأله: «على بيت مين رايح يا أمير؟» قاللو: «رايح بيتكم ضيف يا سليمان.»
سليمان راح قال لأمه: «أبويا عاوز يزور إخواتي، ساعته
60
مش زعلان.»
سليمان راح قال لأمه: «أبويا عاوز يزور إخواتي، ساعته جت.»
أمه قالت: «يا رب كفاية اللي راح، ما بقي إلا جملي.»
61
ولما داود مات، أخفت الأم نفسها، وما شفتش مشهده أبدا، وخافت لتغلط وتعيط.
وطلع أهل الأرض والجن والبهايم والوحوش يحضروا دفنة الملك داود صفوف صفوف.
سليمان حط نعش أبوه الميت ما رضيش يخللي حد يدفنه، فالأرض من نفسها تحركت وطبقت عليه.
وما رضيش سليمان ياخد عزا في أبوه، وقاللهم: حبيب قابل حبيبه يا أهلي افرحولو،
ممنوع البكا ومد الإيد ولحبيبكم افرحولو.
الخضر والصياد
راجل كبير واقف يصطاد بالليل سمك من البحر، وكل ما يرمي الشبكة في البحر ويطلعها تطلع فاضية.
رجل تاني عجوز شافه بيصطاد بالليل، فوقف وراه يتفرج عليه، وبعدين جه جنبه وقاللو: «يا عم حد يصطاد سمك نص الليل؟!»
الصياد قاللو: «امشي في سكتك.»
قاللو: «يا عم قوللي على حكايتك.» الصياد قاللو: «أنا لفيت الدنيا حتة حتة، أدور لي على صاحب، مالقيتليش صاحب في البر، فبدور في البحر على صاحب.»
الراجل قاللو: «طيب، نصاحب بعض.» الصياد لم شبكته ومشوا سوا، طلعوا الجبل، عطشوا وجاعوا مع بعض، ولما الليل دخل عليهم، قالوا: «واحد ينام والتاني يحرسه.»
الصياد نام، والراجل التاني قعد صاحي عطشان وجعان، شاف واحدة ست بيضة جميلة جاية عليه، شايلة قلة مية على إيد، وعلى الإيد التانية صينية فيها كل ما تشتهي النفس، وتحت باطها سيف، وقربت منه.
الراجل الصاحي قاللها: «يا ست قربي شوية واسقيني.» قالتلو: «أنا كلي لك، جسمي لك، والأكل دا كله لك، والمية الباردة لك، بس عايزة منك حاجة بسيطة تعملها لي، تاخد السيف دا وتقتل صاحبك اللي نايم جنبك.» أعطت له السيف ، هو سحب منها السيف، وقام وراها، وجا يضربها بالسيف، السيف فات فيها، وبص مالقيهاش ولا لقي السيف.
ولما اللي كان بيدور على صاحبه في البحر استكفى وقام من النوم والتاني نام.
الصاحي بص في الظلمة لقي الست البيضا الجميلة جاية عليه، على إديها الأكل والشرب، ولما قاللها: «اديني بق مية.» وقالتلو: «أنا كلي لك.» وطلبت منه إنه يقتل صاحبه بالسيف، وعطته السيف، واتلفت عشان يضرب صاحبه اللي نايم، قام اللي نايم ومسك دراعه وصرخ في وشه: «بص وراك.» بص ما لقيش حد أبدا.
اللي نايم قاللو: «غررت بك.»
62
الصاحي سأله: «مين؟» قاللو: «الدنيا.» الراجل اللي كان بيدور على صاحب في البحر، قال: «دي الدنيا.» قاللو: «أيوة.» قاللو: «وأنت مين؟» قاللو: «أنا الخضر.»
واللي كان بيدور على صاحبه في البحر بص لقي نفسه وحديه في وسع الجبل.
خطية داود
سيدنا داود كان متجوز تسعة وتسعين واحدة ست، وربنا أداله الملك وعلمه صنعة الحديد، وكان جعل الحكم تلات أيام في الأسبوع: يوم للحكم، ويوم لاجتماع الحريم، ويوم للعبادة، ويوم للحكم، ويوم لاجتماع الحريم، ويوم للعبادة، ويوم للحكم.
وفي يوم وهوا بيتعبد دخلت عليه المعبد حمامة، وكان القائد بتاعه «أوريه» متجوز واحدة ست حلوة، فداود بعته الحرب، وفي اليوم دا كانت الست مرات أوريه بتستحمه وتسرح شعرها، فداود شافها وقال: «لازم أطولها وأنام معاها.»
أوريه فتح المدينة اللي بيحارب فيها وبعت قاللو: «خلاص انتصرت يا سيدنا الملك.» رد عليه وقاللو: «اتقدم قدام الجيش وشيل الراية وافتح مدينة غيرها.» وفضل كدة لحد ما أوريه مات في الحرب، وتدفن في المدينة البعيدة اللي مات فيها، وداود اتجوز مراته ودخل عليها، فربنا استمحنه،
63
بعتله جوز ملايكة في هيئة رجلين متعاركين مع بعض، دخلوا عليه وشتموا بعض وعاركوا بعض، وقالوا: «احكم بينا يا ملك.»
الأول قال: «أخويا دا عنده 99 نعجة وأنا عندي نعجة واحدة ، فأخويا يصح ياخدها؟»
داود زعل وحكم بأن دا ظلم، وإن اللي خد النعجة يجلد من قمعه لضفره ويتقتل.
فالملاك قاللو الحكم دا يسري عليك، وإنت اللي لازم تنقتل.
داوود لما سمع كدة فضل يعيط لحد ما نبت العشب من دمعه، وربنا سمعو بينهنه ويعيط قاللو: «اطلب السماح من أوريه وأنا أسامحك.»
داود قال: «لكن دي المدينة اللي مات فيها أوريه بعيدة في آخر الدنيا.»
وراح لحد هناك على رجليه وقعد على قبره وقاللو: «سامحني يا أوريه.» أوريه نادمه من جوا القبر: «مين اللي بينده؟»
قاللو: «أنا داود عايزك تسامحني عشان أنا قتلتك.» قاللو: «دا أنت دخلتني الجنة وأنا سامحتك.»
داود اكتفى بكده وما قدرش يقوللو أنا اتجوزت مراتك، ورجع تاني على المملكة.
ربنا ظهر له تاني وسأله: «عملت إيه يا داود؟»
وربنا سأله: «أخبرته إنك موته عشان تتجوز مراته؟»
قاللو: «لا ما قولتش.»
قاللو: «ارجع تاني لأوريه وقوللو على اللي عملته فيه.»
فرجع تاني وقعد على قبر أوريه وقاللو: «يا أوريه أنا تعمدت موتك علشان أتجوز مراتك.»
أوريه سكت وما ردش عليه، فقعد يعيط ويعيط سبع سنين على قبر أوريه ليل نهار.
وربنا ظهر له وقاللو: «قضيتك يوم القيامة قدام أوريه يا داود، وإذا أوريه سامحك أنا حاسامحك.»
قاللو: «يا رب انقشلي خطين على كفي.» فربنا نقشهاله، وكان كل ما ييجي يعمل حاجة يشوف خطيته في كفه ويعيط.
وخلف من الست مرات أوريه اللي اتجوزها سيدنا سليمان. •••
وسليمان بعد أبوه ما مات تولى الملك بعديه، وطلب قال: «يا رب اوهب لي ملك ما يكونش لحد من بعدي.»
وربنا سخر له الإنس والجن والعفاريت وحيتان البحر والهوا والنار والطير والنمل، كله تحت إيده، والطيور تخليه قاعد وتيجي من فوق رأسه وتضللو، وهو كان يعرف اللي حاضر من اللي غايب، وفي يوم بص على الهدهد ما وجدوش، سأل: «فين الهدهد؟» قاللو: «مش موجود.» قال: «إذا ما جاش الهدهد حا أدبحه وأعذبه.» وهو في القول ومتله بص لقي الهدهد جي، سأله: «كنت فين ؟» الهدهد قاللو: «يا سليمان أنا جيتك من سبأ بنبأ. أنا كنت في بلاد اليمن وشفت هناك ملكة اسمها بلقيس بتحكم على اتناشر مملكة ، وبتعبد الشمس من دون الله.»
سليمان قاللو: «أنا حا أكتبلك مكتوب يا هدهد وروح ويه لها، إن آمنت بالله آمنت، وإن رفضت حاحاربها.»
كتب المكتوب وأداه للهدهد وقاللو: «استخبى واسمع الكلام وتعالى قوللي.» الهدهد خد المكتوب وراح وجدها نايمة أسقط المكتوب عليها، ولما قامت وقرأته، جمعت الوزرا وقرأته عليهم: «من الملك سليمان، ما تعدوش علية وتعالوا مسلمين.» وسألتهم: «نعمل إيه؟» فقالوا: «نحارب وراك.» وبعدين قالت: «أنا حاروح أشوف بنفسي.» والهدهد سمع الكلام وراح قال لسليمان، فسليمان قال: «ما دامت جيه بجيشها واحد يروح يجيب قصرها لحد هنا.» جني قاللو: «قبل ما تقوم من مطرحك يا سيدنا يكون القصر هنا.» سليمان قال: «لا، أسرع من كدة.» جني ثاني قاللو: «قبل ما تغمض عنيك.» غمض عنيه وفتحهم لقي قصرها جنب قصره، وأمر الجن تفحت خندق حوالين قصرها وعمل الخندق بالإزاز.
وهيه أول ما دخلت بجيوشها المدينة عمل لها التكريم اللازم، وأمر جيوشه إنها تدخلها قصرها تتفرج عليه.
دخلت القصر وجدت مملكتها هيه هيه، اتعجبت وقالت: «دا قصري، هوه بعينه.» وقالت: «أنا أسلمت على إديك أنا وجيشي.» قال لها: «أنا حاتجوزك.» وبص في رجلها لقيها كلها مشعرة،
64
فالجن عملت له بودرة لحلق الشعر، ودخل عليها في الحمام.
صفحه نامشخص