أما أنا (يقول الصديق الراوي) فقد بهت، وصار قلبي يرقص وقلت في نفسي: سبحان الخالق! إنه يخلق في الأرواح جاذبية لا تدل عليها المظاهر الخارجية. وكنت أنظر إلى الناس الجلوس، مستغربا تهافت أبصارهم إلى رفيقي سعيد علام، وكدت أشفق عليه لما يعانيه من رميات العيون الغوامز ورشقات الأفواه البواسم، لولا أن انتصب أمامنا رجل كهل، شبك يده بالحلقة التي يتعلق بها الواقفون، وانحنى إلى صديقي لناحيتي، فقال له إن رجل بنطلونه عالقة بضمامة جرابته، وطلب إليه أن ينزلها منعا للتشويش الذي يحدثه.»
وقال الصديق أيضا: «فتطلعت إلى سعيد علام فإذا بوجهه ممتلئ دما والخجل ملبس إياه وشاحا، وقد اقتصرنا النزهة على الوصول إلى الحديقة حيث افترقنا، فسار هو من جهة وأنا من جهة، وصرت إذا اجتمعت به مرة بعد مرة أهز يده، مذكرا إياه بتلك النكتة التي جرت له بحضرتي، فأضحك كثيرا ويبسم قليلا، وأحسن من هذا أني صرت إذا فاجأته في محضر من الأصحاب يحدثهم بأموره وغرائبها يحول الحديث في الحال من صورة إلى صورة.»
لا فرق بين الاثنتين
تلك كانت الزوجة الخامسة لبدر مشرق، وقد تزوج بها وهو ابن أربعين، أما نساؤه الأربع الأوليات؛ فقد طلقهن واحدة واحدة، وانتهى أمره بتزوجه الخامسة التي انتخبها لنفسه، وهي أميركية، تقابله عمرا، أرملة لها ابنة من زوجها الأول.
بعد شهرين من زواجه الخامس، صرح بدر مشرق أمام معارفه أن الزوجة الأميركية أفضل من السورية، وأقسم يمينا قاطعا ما عاد يتزوج في حياته سورية؛ لأن الأميركيات أفضل للحياة البيتية، وأكثر تهذيبا، وأحسن ترتيبا.
عندما أقسم ذلك القسم القاطع لم يظهر على وجهه إشارة إلى أنه يريد الهزل، بل لفظه كأنه مجزم بصحة الأمر يعني ما يقول، فهو لقد عقد النية على ألا يتزوج بامرأة سورية بعد هذه الأميركية، التي رأى منها ومن ذوقها وتهذيبها ما لم يره من السوريات الأربع اللواتي كن فيما سبق زوجات لحضرته.
في هذه المرة صار بدر لا يعنيه شيء من أمور نظام البيت، إلا أنه يدفع في آخر الأسبوع المبلغ المعين عليه من المال لقضاء الحاجات من دين السمان وأجرة البيت وقسط الأثاث إلى ما شاكل. أما يوم كان زوجا لإحدى السوريات؛ فقد كان يعتل السمانة من محال السوريين إلى البيت، فلا يصل إلا وصبره قد جاوز الحدود والسباب والشتائم والتجديفات تخرج من فيه كقنابل المدافع في حومة الوغى.
وصار على عهد الأميركية لا يحمل صرة برغل، ولا لحم ضأن ولا علبة بندورة، ولا سلة عنب؛ لأن الأميركية تطلب كل هذا بالتلفون، فيأتي الغلام بطلباته كمارد سليمان الحكيم.
الفرق عظيم بين الزوجة السورية والزوجة الأميركية، خاصة عنده في أول عهد زواجه الخامس؛ السورية إذا أرادت شك الإبرة تسأل زوجها أن يشكها لها. تحتار بأمرها في ما عساها تطبخ العشاء؛ فالبارحة كان العشاء كبة، وقبله كان كوسى محشيا، وقبله كان مجدرة، واليوم ماذا؟ تسأله رأيه قبل أن يذهب إلى شغله: ماذا تريد أن أطبخ لك؟ فماذا يجيب؟ يجيبها قائلا: سم الموت. ويخرج من البيت عابسا.
أما الأميركية فلا تسأله ولا تستشيره، ولا تطلب منه شيئا سوى دفع الثمن، وتودعه إلى شغله بقبلة، وتلاقيه عند الباب عائدا إلى البيت بأخرى، وتجلس إلى جانبه تقرأ معه الجرائد، فتحادثه بأمور كثيرة، تخوض عبابها عاملة فكرها وناظرة بكل حادثة وبكل موضوع. وإذا تكلمت معه تنهي عبارتها له بيا عزيزي ويا حبيبي ويا عسلي. بكل هدوء وكل نظام العشاء يحضر على المائدة الساعة السادسة من كل مساء، وكل شيء يلزم لمناولة الطعام حاضر، بينا السورية تعلل زوجها بقولها: إن اللحمة لم تنضج بعد، فتدق الساعة السابعة والنصف والزوج يتقلب على مقالي الانتظار بمعدة فارغة بعد تعبه كل النهار بالشغل، ثم لما ينضج الطعام، ويجلس مع زوجته للأكل لا تلبث أن تنهض لتأتي بالخبز، لاعنة الشيطان كيف أنها نسيته، ولا تكاد تستوي في كرسيها حتى تنهض ثانية لتأتي بالملح والفلفل، وثالثة لتحضر الفوطة، وتنهال مرة ثانية باللعنات على الشيطان؛ لأن العجلة منه، فلا ينتهي العشاء إلا بعد عناء وتلبك كثيرين.
صفحه نامشخص