أما أصل تعرفي عليه فقد كان صدفة، وقد عرفني عليه صديق لكلينا، فملت إليه لما أنست فيه من علم وتهذيب داخلي، بالرغم من سوء مظاهره وعكفه على المقامرة وقلة عمله أو عدمه؛ فقد كنت أحب الاجتماع به للمحادثة بأمور عديدة؛ فقد رأيته ملما بشئون كثيرة، يستطيع محادثه أن يخوض معه بمواضيع علمية وسياسية واقتصادية وغيرها، وما كنت أعلم كيف أن شابا بحالته ومعارفه يأبى أن يعمل ويترك ميدان النجاح لغيره ممن دونه مقدرة وتهذيبا، فيؤثر البقاء على آلامه على أن يقتاد لنفسه الراحة من وراء التحصيل والبلوغ إلى ما تطمح إليه النفس المهذبة الشابة. ولكني لما لم أكن أعرفه لم أقو على سؤاله، فكنت أتجاهل حاله؛ لأن ذلك لا يعنيني وأرافقه في معارفه وأخلاقه؛ لأن هذه تتصل بمعارفي وأخلاقي.
في يوم من الأيام كنت وسليما نشرب القهوة في إحدى القهاوي، وقد ضمني معه مجلس فكاهة أو كما يقولون «تقريق»، وبينا نحن نضحك إذا بصاحب القهوة صاعد على السلم وخلفه رجل متقدم في سنه بثياب بسيطة أقرب إلى أن تدعى رثة بلا طوق ولا ربطة، وفي رجليه حذاء غليظ كالمداس وعلى رأسه قبعة كبيرة الدائرة كثيرة الخدوش.
وعندما وصل صاحب القهوة إلى القهوة أشار للرجل الموصوف آنفا، دالا على سليم، وقال له: «هذا هو سليم الذي قضيت يومين تسأل عنه كل السوريين.»
وفي تلك الساعة أبرقت أسرة الرجل فابتسم ابتسامة عريضة، وأسرع خطاه إلى سليم فصافحه، وقد قارب لسانه أن يعقد من كثرة فرحه، ثم انحنى قليلا نحو يد سليم وأراد أن يلثمها، أما سليم فلم يعلم من هو الرجل، ولا ماذا يريد، ولكنه أعطاه يده مسايرة، ظانا أنه غلطان، ولما أراد ذلك الرجل أن يلثم له يده وقد شعر أنه في مهمة لثمها لانحنائه المتباطئ عليها سحب يده بسرعة، وأجلسه إلى كرسي وسأله: من العم؟ - أنا، أنا، ألم تعرفني يا معلمي؟ أنا أبو ريا مربيك وخادم أبيك؟ أنسيت أبا ريا يا معلمي سليم؟
عند هذا التعريف عاد سليم فهز يد الرجل هزا كثيرا، وأخذ الاثنان بالكلام فتساءلا وتجاوبا، وأفرغ كل جراب أخباره للآخر، وقد رأيت دمعة تتجمع في عين الشيخ وكادت تنهدر، فمسحها بطرف كمه، ولما أراد سليم أن يعرفني على ضيفه هززت يده، وقلت له إني أعرف شيئا عنه؛ لأن سليما كثيرا ما كان يذكره أمامي.
وعاد سليم إلى محادثته فقال له: أي، يا أبا ريا، لو كنت أعرف أين مقرك لكنت زرتك حيث كنت خلال هذه السنوات، والآن ما حالك؟
فأجابه قائلا: إن التقادير أرسلتني يا معلمي إلى أميركا، فاشتغلت فيها والحمد لله حصلت على النجاح أكثر مما أستحق، وها أنا ذاهب إلى سوريا لمشاهدة الأولاد والعيال، فلم يبق في سراج حياتي من الزيت إلا ما يكفي لأيام معدودة، سأقضيها بينهم. - خبرني كم ريالا آخذ معك من أميركا؟ - إيه، نحمده على كل حال، منحنا أكثر مما نستحق ومن فضله وكرمه في جزداني خمسة عشر ألف ريال.
عند هذا أجابه سليم: أنت معك خمسة عشر ألف ريال، وتأتي لتبوس يدي! كان يجب عليك أن تمد يدك من الباب لدى دخولك حتى أنا آتي لأقبلها.
وعاد أبو ريا إلى الوطن، فودعه سليم إلى الباخرة، وقد رافقته لاستطلع شيئا من حالة الاثنين، فساعدنا الشيخ بإيجاد محل له بين ركاب الدرجة الثالثة، وبعدما خرجنا من الباخرة قطعنا أربعة مربعات دون أن يكلم واحد الآخر، ثم شق سليم حجاب السكوت بقوله: ألا ترى أننا نحن لم نخلق لهذا العصر؟
فقلت: كيف؟
صفحه نامشخص