أما أحوال خليل بعد الزواج فصارت على جانب من التوفيق؛ ولهذا اشترى بيتا جميلا لسكناه، وجعل في بنصر امرأته خاتما ثمنه ألفا ريال، وفي خزائنها ثيابا فاخرة تحسدها عليها كثيرات من العرائس.
ذات ليلة كان حمو خليل زائرا في بيت ابنته ماري، وكان وليم يدب على الأرض عند قدمي جده فيستند على رجليه ويد واحدة من يديه، وبالثانية يضرب قدم جده ضاحكا بملء شدقيه الصغيرين، فيرجع جده قدمه تظاهرا أمام الطفل بالخوف من ضربه ثم يقدمها بسرعة ويعود فيسحبها، وقد ظل يلاعب حفيده الملاك حتى أفعم قلبه حبا فنشله عن الأرض وأقامه على صدره يقبله ويشمه والطفل يضحك ويملأ البيت سرورا والقلب ابتهاجا.
ثم لاحت من الجد نظرة إلى الخاتم في يد ابنته التي كانت تغامز طفلها ليلاعب جده، وقلبها يرقص لكل حركة من حركاته، فقال لها: «أهذا هو الخاتم الذي أخبرتني عنه أمك، أريني إياه باقتراب.»
فنزعت ماري خاتمها وقدمته إلى أبيها، فتأمله دقيقة منحيا بيده الطفل قليلا، وهو ينظر إلى الخاتم بيده الثانية، فتنهد وقال لأول مرة، موجها الخطاب الجدي إلى ابنته: «يا ابنتي، ما كان أحلاك لو تصبرين إلى هذا الحين فتتزوجين بخليل، ونعمل لك عرسا ما صار مثله ولن يصير، فيرى الناس هذا الخاتم بإصبعك وأنت عروس!»
فأجابت ماري: «يا أبي، كل ظفر من أصابع وليم من يديه ورجليه يسوى كل الماسات في العالم، فلو صبرت إلى اليوم لبينما يستطيع خليل أن يشتري لي هذا الخاتم لما كان في الوجود هذا الملاك.»
وتطلع الجد إلى الطفل ثانية، فرآه واضعا يده في فيه يعلكها، وقد امحت من وجهه ابتسامته لميل جده عنه إلى الخاتم، فجذبه في الحال إلى صدره، وكاد يفترسه بقبلة من خده، ولما انتهى منها عاد الطفل يضحك ضحكته العميقة، ويحرك يديه ملاعبا جده.
في تلك اللحظة انضمت ماري إلى الطفل وجده، ولكي تشترك بالدور الذي يمثلانه أعطت الخاتم إلى وليم لعله يؤخذ بلمعان ماسته، ولكنه عندما قبض عليه ورآه رمى به إلى الأرض بعنف، واستأنف اللعب مع جده، فنظرت أمه وأبوها إلى ما عمل الطفل، ولما التقى ناظراهما قال لها أبوها: «الحق معه.»
المتشرعان
يعرف كل من جبرة غبريل وداود واصف بالمتشرع، وكلاهما يجهلان القراءة والكتابة حتى بلغتهما العربية، إلا أن اللقب الذي أحرزاه هو نتيجة حوادث عديدة لهما بالمماحكة والمحاجة، بل هو صفة لأخلاق الرجلين التي عرفها القوم، فمنحوهما لقب متشرع، وصار كل منهما معروفا بهذا اللقب.
الأول: جبرة غبريل، عامل في أحد المصانع، والآخر: داود واصف، وكيل على أملاك، يؤجر منها منازل لمواطنيه، والأول ساكن في أحد المنازل التي يؤجرها الثاني، وهناك كل البلاء؛ لأن هذه السكنى تجعل البطلين - بطلي الشريعة - يلتقيان كل صباح ومساء كأنهما جبلان، وليس على طالب فرجة في مسارح إلا أن يترصد اجتماع هذين المتشرعين، فيشاهد منهما من الأدوار التي يمثلانها ما يغنيه عن ألف دور هزلي في الملاعب.
صفحه نامشخص