ولكن هذه العقلة لا تطول، وذلك المهاجر الصامت بالأمس يصاب برد فعل، فينقلب إلى متكلم كثير الكلام؛ لأن زمن الذهول قد مر وجاء زمن أصبح فيه المهاجر يتطلع إلى مرامي العظمة كأنه راء أمام عينيه التنور عند مدخل داره في القرية، أو كأنه إذا تطلع إلى بناية وولورث ذات الطباق الثمانية والخمسين يشاهد كوخه في الكرم المؤلف من أربع قوائم شجرية بحيطان من قش. وإذا ركب قطار النفق تحت البحر لا يأخذه العجب كالأول كأنما هو راكب حماره تشارك رجلاه قوائم ذلك الحمار بالسحب على وجه الأرض.
أخبرني صديق أن أخاه ظل أسبوعا لا يحير كلاما، وقد خاف أن يكون قد أصيب ببكمة بادئ ذي بدء، ولكنه ما انتهى الأسبوع حتى صار ذلك الأخرس خطيبا من الطبقة الأولى، إذا جلس في حضرة كائن من كان يتناول الحديث من الألف إلى الياء، فيخلط عباسا على دباس، وإذا نهاه ناه لا يبالي به ولا بنهيه، فهو الضليع في كل فن وعلم وعمل بعد أن كان يمشي على سطح الصبويي فيتأمل كيف جعلوه من قطع زجاج، وقد صار كل صعب عنده من أهون الأمور، وله على ذلك تعاليل، هو ناسج بردها وحده لا شريك له. من ذلك أنه مرة كان جمهور في سهرة موضوعهم جسر بروكلن عندما كانت بلدية نيويورك مهتمة بمد جسر مانهتن، أما هو فتناول الموضوع، وعبثا كان يغمزه أخوه أن يختصر الحديث، وأن يعطي فرصة لغيره بالكلام، بل تابع تعاليله حتى انتهت السهرة. وقد أبان للقوم ألا حاجة إلى العجب في بناء الجسور العظيمة؛ فإن أمرها بسيط جدا؛ لأن الأساس يبنى على الفلين، إذ توضع صفائحه على وجه الماء، ويبنى فوقها فترسب رويدا رويدا حتى تصل القعر.
قال محدثي: ولا أعلم من أين جاء أخوه بمثل ذلك التعليل ، ولكن بالرغم من أنه يجهل حتى القراءة والكتابة يتجرأ على الخوض في جسام الأمور فيهون عنده جسر بروكلن ومانهتن وغيرهما.
عرفت سعد قمر في إحدى مدائن هذه الولايات، وهو كهل عتيق هاجر إلى أميركا عن طريق مصر، فمال لسانه إلى لغة الفراعنة، وظل في أميركا عشرين سنة، وهو يتكلم بلغة محمد عبده وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم.
وسعد قمر عانس لا يعرف الألف من الباء، ولكنه ذو لسان ذي حركة دائمة، لا توقفه إلا المنية، ولا أدري إذا كانت المنية قد أوقفته؛ فقد مات ووضع في قبره وحجبته عني ظلمات الأبدية؛ ولهذا لا أجزم بالأمر.
كان المرحوم إذا رأى حلقة مهما يكن نوعها ومن أي الناس كان أعضاؤها يجلس إلى ناحية قريبة، فيعطي أذنه أولا إلى حديثهم حتى يتمكن من جذب طرف من حديثهم إليه فيستلمه، ويبدأ ولا ينتهي حتى ينتهي الاجتماع ويتفرق الأحباب. وقد صار معروفا في التدخل بكل موضوع؛ فهو الطبيب، وهو الفيلسوف، وهو التاجر، وهو كل شيء بحديثه، ولكنه لا يدرك من هو في عالم الوجود، ومات ولا يعلم من أين، وإلى أين، ولماذا وجد على سطح الغبراء.
والمرحوم سعد كان يحب أميركا؛ لأنها، كما سمعته مرة يقول، تفتح قلب الأعمى؛ ففي بلادنا الأفندي والبك والمطران والخوري والأستاذ لا يعطون دورا لمثله بالكلام، وأما هنا في أميركا فكل إنسان حر بما يشاء أن يتكلم.
وكان القوم في تلك المدينة قد عرفوا طبيعة المرحوم سعد، فاستأنسوا بأحاديثه، وصاروا يرون بها تسلية ولذة بما يعلل به، ويبرهن ويسند إليه بصور مضحكة؛ «فيقرقون» عليه ويحمسونه حتى يغتاظ، وعند هذا تبدأ تسليتهم.
جمعتني الصدفة مرة في حلقة من هذا النوع في ذلك البلد، ولما شاهده أحدهم قادما من بعيد صاح بنا قائلا: ها هو سعد قادم، فافتحوا موضوعا ليستلمه، ويبسطنا قليلا من الوقت.
وكان الجميع يدخنون السكاير، فقال أحدهم: إن الذي اكتشف الدخان هو أميركي؛ فإن أميركا أم الدخان. «وعندها دخل سعد فحيى وجلس، وقد سمع آخر جملة من المتكلم: أميركا أم الدخان.»
صفحه نامشخص