وحقيقة الحال أنه صدق بذهابه إلى نيويورك في تلك الليلة، وهذا كل ما صدق به من كلامه إلى التي كانت حبيبته قبل تلك الساعة، وقد تذكر قصة الابن الشاطر التي أوردها المسيح في الإنجيل، فوطن النية على أن يعود إلى حضن أبيه وأمه.
ولما عاد رفيق إلى بيت أهله احتفل به ذووه، ولما سألته أمه رأيه بالزواج وإذا كان يؤثر الأميركية على السورية قال لها: «يا أمي، مثلنا يقول: زوان بلادك ولا قمح الغريب. وأنا إذا أردت الزواج فيجب أن يكون رأيك بالعروس قبل رأيي، ويجب أن أتأكد أولا أنها تعبي أركيلتك قبلما تجلس بجانبي.»
ذو اللحية الطويلة
أميركا أوقيانوس عظيم، قليل هو المعروف منه، وما هو مجهول عن عالمه أكثر بكثير من الظاهر المعلوم، وهكذا هذه البلاد؛ فإن فيها من الأسرار في الحياة ما يعيي الفكر عن العد والحصر.
كثيرا ما يعجب المرء بحياة بعض الناس، فيقول في نفسه: عجبا والله! كيف يعيش هذا وذاك وذلك، وهم لم يأتوا عملا في حياتهم؟
ومع أن أميركا بلاد المادة، والمادة لا تأتي إلا بالعمل، العمل الحقيقي في ميدان واسع يتسابق فيه الخلائق تعدو عدوا؛ فإن تعب أحدهم سقط على الطريق، فداسه القوم في مسيرهم، وراح كأنه ما كان، وبالرغم من أن أميركا بلاد الجد والكدح لا تخلو من قوم عائشين كغيرهم لم تعمل أيديهم عملا، ولم تعرق جباههم يوما، ولم تتحرك أقدامهم في ذلك الميدان العملي ولا خطوة.
هؤلاء عائشون بين الخلائق المتزاحمة المتسابقة في الزحام وراء تنازع البقاء ووجودهم بينها هو من العجب بمكان.
كنت أتعجب مع المتعجبين في كيف يعيش مخائيل فلفل، ذلك الشاب الذي يلبس أفخر اللباس، ويتناول طعامه في أجمل النزل والمطاعم، ويصرف المال كأنه مرتكن على «بنك أوتومان»، أو كأنه ابن روكفلر أو مورغن أو استور! ومن أين يأتيه المعاش؟ لا أحد يعلم. وكيف يتمكن من البذخ والتبذير، وهو «شمام هواء قطاف ورد» في كل أيام حياته؟ لا أحد يعلم. مع أن الكثيرين يشتغلون الليل والنهار يعملون في اليقظة ويهدسون في الأحلام بالنجاح، ولا يحصلون على أود حياتهم إلا بالغصب.
مخائيل فلفل أعجوبة، ويوجد كثيرون أمثاله، لا أحد يعلم كيف استطاعوا أن يعيشوا كسالى في وسط لا تأتي اللقمة للمرء فيه إلا بالجد، مغموسة بدم القلب وعرق الجبين.
لما دخل مخائيل فلفل أرض أميركا لم يكن ذا ثروة ليعيش ترفا دون عمل، بل كان كغيره من المهاجرين الذين يصلون أميركا ومعهم زاد يوم واحد، ولكنه كان ذا ثروة طبيعية، وهي القوة على الاستنباط والإبداع بالحيل.
صفحه نامشخص