9- كتاب الحجاب
صفحه ۵۶۳
[1- مقدمة]
أطال الله بقاءك، وجعلني من كل سوء فداءك، وأسعدك بطاعته وتولاك بكرامته، ووالى إليك مزيده.
إنه يقال- أكرمك الله- «إن السعيد من وعظ بغيره، وأن الحكيم من أحكمته تجاربه» . وقد قيل: «كفاك أدبا لنفسك ما كرهت من غيرك» وقيل: «كفاك من سوء سماعه» ، وقيل: «إن يقظة الفهم للواعظ مما يدعو النفس إلى الحذر من الخطأ، والعقل إلى تصفيته من القذى» .
وكانت الملوك إذا أتت ما يجل عن المعاتبة عليه ضربت لها الأمثال، وعرض لها بالحديث. وقال الشاعر:
العبد يقرع بالعصا
والحر تكفيه الملامة
وقال آخر:
ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها
وقال عبد المسيح المتلمس:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
وما علم الإنسان إلا ليعلما
وقال بعضهم: «في خفي التعريض ما أغنى عن شنيع التصريح» .
صفحه ۵۶۵
وقد جمعت في كتابي هذا ما جاء في الحجاب من خبر وشعر، ومعاتبة وعذر، وتصريح وتعريض، وفيه ما كفى. وبالله التوفيق:
وقد قلت:
كفى أدبا لنفسك ما تراه
لغيرك شائنا بين الأنام
[2- النهي عن الحجاب]
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث من كن فيه من الولاة اضطلع بأمانته وأمره: إذا عدل في حكمه، ولم يحتجب دون غيره، وأقام كتاب الله في القريب والبعيد» .
وروي عنه عليه السلام أنه وجه علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى بعض الوجوه، فقال له فيما أوصاه به: «إني قد بعثتك وأنا بك ضنين فابرز للناس، وقدم الوضيع على الشريف، والضعيف على القوي، والنساء قبل الرجال، ولا تدخلن أحدا يغلبك على أمرك، وشاور القرآن فإنه إمامك» .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا استعمل عاملا شرط عليه أربعا: لا يركب برذونا، ولا يتخذ حاجبا، ولا يلبس كتانا، ولا يأكل درمكا.
ويوصي عماله فيقول: إياكم والحجاب، وأظهروا أمركم بالبراز، وخذوا الذي لكم وأعطوا الذي عليكم، فإن امرأ ظلم حقه مضطر حتى يغدو به مع الغادين.
وكتب عمر رضوان الله عليه إلى معاوية وهو عامله على الشام:
صفحه ۵۶۶
«أما بعد فإني لم آلك في كتابي إليك ونفسي خيرا. إياك والاحتجاب دون الناس، وأذن للضعيف وأدنه حتى ينبسط لسانه، ويجترىء قلبه، وتعهد الغريب فإنه إذا طال حبسه وضاق إذنه ترك حقه، وضعف قلبه، وإنما أثوى حقه من حبسه. واحرص على الصلح بين الناس ما لم يستبن لك القضاء. وإذا حضرك الخصمان بالبينة العادلة والأيمان القاطعة فأمض الحكم. والسلام» .
وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري:
«آس بين الناس في نظرك وحجابك وإذنك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. وأعلم أن أسعد الناس عند الله تعالى يوم القيامة من سعد به الناس، وأشقاهم من شقوا به» .
وروى الهيثم بن عدي عن ابن عباس قال: قال لي عبيد الله بن أبي المخارق القيني:
استعملني الحجاج على الفلوجة العليا، فقلت: أما هاهنا دهقان يعاش بعقله ورأيه؟ فقيل لي: بلى، هاهنا جميل بن بصهرى. فقلت: علي به. فأتاني فقلت: إن الحجاج استعملني على غير قرابة ولا دالة ولا وسيلة، فأشر علي. قال:
لا يكون لك بواب حتى إذا تذكر الرجل من أهل عملك بابك لم يخف حجابك، وإذا حضرك شريف لم يتأخر عن لقائك ولم يحكم على شرفك حاجبك. وليطل جلوسك لأهل عملك يهبك عمالك، ويبقى مكانك ولا يختلف لك حكم على شريف ولا وضيع، ليكن حكمك واحدا على الجميع، يثق الناس بعقلك. ولا تقبل من أحد هدية فإن صاحبها لا يرضى بأضعافها مع ما فيها من الشهرة.
قال موسى الهادي لحاجبه: لا تحجب الناس عني، فإن ذلك يزيل التزكية، ولا تلق إلي أمرا إذا كشفته وجدته باطلا، فإن ذلك يوتغ المملكة.
صفحه ۵۶۷
وقال بعض الخلفاء لحاجبه: إذا جلست فأذن للناس جميعا علي، وأبرز لهم وجهي، وسكن عنهم الأحراس، واخفض لهم الجناح، وأطب لهم بشرك، وألن لهم في المسألة والمنطق، وارفع لهم الحوائج، وسو بينهم في المراتب، وقدمهم على الكفاية والغناء، لا على الميل والهوى.
[3- واجبات الحاجب]
وقال آخر لحاجبه: إنك عيني التي أنظر بها، وجنة أستنيم إليها، وقد وليتك بابي فما تراك صانعا برعيتي؟
قال: أنظر إليهم بعينك، وأحملهم على قدر منازلهم عندك، وأضعهم لك في إبطائهم عن بابك ولزومهم خدمتك مواضع استحقاقهم، وأرتبهم حيث وضعهم ترتيبك، وأحسن إبلاغك عنهم وإبلاغهم عنك.
قال: قد وفيت بما عليك ولك قولا، إن وفيت به فعلا. والله ولي كفايتك ومعونتك.
وعهد أمير إلى حاجبه فقال: إن أداء الأمانة في الأعراض أوجب منها في الأموال، وذلك أن الأموال وقاية للأعراض، وليست الأعراض بوقاية للأموال. وقد ائتمنتك على أعراض الغاشين لبابي، وإنما أعراضهم أقدارهم، فصنها لهم، ووفرها عليهم. وصن بذلك عرضي، فلعمري إن صيانتك أعراضهم صيانة لعرضي، ووقايتك أقدارهم وقاية لقدري؛ إذ كنت الحظي بزين إنصافهم إن أنصفوا، والمبتلى بشين ظلمهم إن ظلموا في غشيانهم بابي، وحضورهم فنائي.
صفحه ۵۶۸
أوف كل أمرىء قدره، ولا تجاوز به حده، وتوق الجور في ذلك التوقي كله. أقبل على من تحجب بإبداء البشر وحلاوة العذر، وطلاقة الوجه ولين القول، وإظهار الود، حتى يكون رضاه عنك لما يرى من بشاشتك به وطلاقتك له، كرضا من تأذن له عنك لما يمنحه من التكريم، ويحويه من التعظيم؛ فإن المنع عند الممنوع في لين المقالة يكاد يكون كالنيل عند العظماء في نفع المنالة.
أنه إلي حالات كل من يغشى بابي من وجيه وخامل، وذي هيئة وأخي رثاثة، فيما يحضرون له بابي، ويتعلقون به من إتياني.
لا تحتقرن من تقتحمه العيون لرثاثة ثوب أو لدمامة وجه، احتقارا يخفى علي أثره، فربما بذ مثله بمخبره من يروق العيون منظره.
إنك إن نقصت الكريم ما يستحقه من مال لم يغضب بعد أن تستوهبه منه، وإن نقصته من قدره أسخطته أشد الإسخاط، إذ كان يريد دنياه ليصون بها قدره، ولا يريد قدره ليبقي به دنياه. فكن لتحيف عرضه أشد توقيا منك لتحيف ماله.
إن المحجوب وإن كان عدلنا في حجابه كعدلنا على المأذون له في إذنه، يتداخله انكسار إذا حجب ورأى غيره قد أذن له. فاختصه لذلك من بشاشتك به، وطلاقتك له، بما يتحلل به عنه انكساره. فلعمري لو عرف أن صوابنا في حجابه كصوابنا في الإذن لمن نأذن له، ما احتجنا إلى ما أوصيناك به من اختصاصه بالبشر دون المأذون له.
إن اجتمع الأعلون والأوسطون والأدنون، فدعوت بواحد منهم دون من يعلوه في القدر، لأمر لا بد من الدعاء به له، فأظهر العذر في ذلك لئلا تخبث نفس من علاه؛ فإن الناس يتغالب لمثل ذلك عليهم سوء الظنون. والواجب على من ساسهم التوقي على نفسه سوء ظنونهم، وعليهم تقويم نفوسهم؛ إذ هو كالرأس يألم لألم الأعضاء، وهم كالأعضاء يألمون لألم الرأس.
المدائني قال: قال زياد ابن أبيه لحاجبه:
صفحه ۵۶۹
يا عجلان: قد وليتك بابي، وعزلتك عن أربعة: طارق ليل؛ فشر ما جاء به أو خير. ورسول صاحب الثغر؛ فإنه إن تأخر ساعة بطل به؟؟؟ عمل سنة. وهذا المنادي بالصلاة. وصاحب الطعام؛ فإن الطعام إذا ترك برد، وإذا أعيد عليه التسخين فسد.
الهيثم بن عدي قال: قال خالد بن عبد الله القسري لحاجبه: لا تحجبن عني أحدا إذا أخذت مجلسي؛ فإن الوالي لا يحتجب إلا عن ثلاث: إما رجل عيي يكره أن يطلع على عيه، وإما رجل مشتمل على سوءة، أو رجل بخيل يكره أن يدخل عليه إنسان يسأله شيئا.
أنشدني محمود الوراق لنفسه في هذا المعنى:
إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه
ورد ذوي الحاجات دون حجابه
وأنشدني بعض المحدثين في ابن المدبر:
لولا مقارفة الريب
ما كنت ممن يحتجب
أولا فعي منك أو
بخل على أهل الطلب
فاكشف لنا وجه الحجا
ب ولا تبال من عتب
[4- شروط الحاجب]
صفحه ۵۷۰
قال المنصور للمهدي: لا ينبغي أن يكون الحاجب جهولا، ولا غبيا، ولا عييا، ولا ذهولا ولا متشاغلا، ولا خاملا ولا محتقرا، ولا جهما ولا عبوسا. فإنه إن كان جهولا أدخل على صاحبه الضرر من حيث يقدر المنفعة، وإن كان عييا لم يؤد إلى صاحبه ولم يؤد عنه، وإن كان غبيا جهل مكان الشريف فأحله غير منزلته، وحطه عن مرتبته، وقدم الوضيع عليه، وجهل ما عليه وماله. وإن كان ذهولا متشاغلا أخل بما يحتاج إليه صاحبه في وقته، وأضاع حقوق الغاشين لبابه، واستدعى الذم من الناس له، وأذن عليه لمن لا يحتاج إلى لقائه ولا ينتفع بمكانه. وإذا كان خاملا محتقرا أحل الناس صاحبه في محله وقضوا عليه به. وإذا كان جهما عبوسا تلقى كل طبقة من الناس بالمكروه، فترك أهل النصائح نصائحهم. وأخل بذوي الحاجات في حوائجهم، وقلت الغاشية لباب صاحبه، فرارا من لقائه.
الهيثم بن عدي عن مجالد عن الشعبي، أن عبد الملك بن مروان قال لأخيه عبد العزيز بن مروان، حين ولاه مصر:
إن الناس قد أكثروا عليك، ولعلك لا تحفظ، فاحفظ عني ثلاثا.
قال: قل يا أمير المؤمنين.
قال: انظر من تجعل حاجبك، ولا تجعله إلا عاقلا فهما مفهما، صدوقا لا يورد عليك كذبا، يحسن الأداء إليك والأداء عنك. ومره ألا يقف ببابك أحد من الأحرار إلا أخبرك، حتى تكون أنت الآذان له أو المانع؛ فإنه إن لم يفعل كان هو الأمير وأنت الحاجب. وإذا خرجت إلى أصحابك فسلم عليهم يأنسوا بك. وإذا هممت بعقوبة فتأن فيها؛ فإنك على استدراكها قبل فوتها أقدر منك على انتزاعها بعد فوتها.
وقال سهل بن هارون للفضل بن سهل:
إن الحاجب أحد وجهي الملك، يعتبر عليه برأفته، ويلحقه ما كان في غلظته وفظاظته. فاتخذ حاجبك سهل الطبيعة، معروفا بالرأفة، مألوفا منه البر والرحمة. وليكن جميل الهيئة حسن البسطة، ذا قصد في نيته وصالح أفعاله. ومره فليضع الناس على مراتبهم، وليأذن لهم في تفاضل منازلهم، وليعط كلا بقسطه من وجهه، ويستعطف قلوب الجميع إليه، حتى لا يغشى الباب أحد وهو يخاف أن يقصر به عن مرتبته، ولا أن يمنع في مدخل أو مجلس أو موضع إذن شيئا يستحقه، ولا أن يمنع أحدا مرتبته. وليضع كلا عندك على منزلته. وتعهده فإن قصر مقصر قام بحسن خلافته وتزيين أمره.
وقال كسرى أنوشروان في كتابه المسمى «شاهيني» :
صفحه ۵۷۱
ينبغى أن يكون صاحب إذن الخاصة رجلا شريف البيت، بعيد الهمة، بارغ الكرم، متواضعا طلقا، معتدل الجسم بهي المنظر، لين الجانب، ليس ببذخ ولا بطر ولا مرح، لين الكلام، طالبا للذكر الحسن، مشتاقا إلى محادثة العلماء ومجالسة الصلحاء، محبا لكل ما زين عمله، معاندا للسعاة، مجانبا للكذابين، صدوقا إذا حدث، وفيا إذا وعد، متفهما إذا خوطب، مجيبا بالصواب إذا روجع، منصفا إذا عامل، آنسا مؤنسا، محبا للأخيار، شديد الحنو على المملكة، أديبا له لطافة في الخدمة، وذكاء في الفهم، وبسطة في المنطق، ورفق في المحاورة، وعلم بأقدار الرجال وأخطارها.
وقال في حاجب العامة:
ينبغي أن يكون حاجب العامة رجلا عبد الطاعة، دائم الحراسة للملك، مخوف اليد، خشن الكلام مروعا، غير باطش إلا بالحق، ولا أنيسا ولا مأنوسا، دائم العبوس، شديدا على المريب، غير مستخف بخاصة الملك ومن يهوى ويقر، من بطانته.
قال عبد الملك لأخيه عبد العزيز، حين وجهه إلى مصر:
اعرف حاجبك، وجليسك، وكاتبك. فإن الغائب يخبره عنك كاتبك، والمتوسم يعرفك بحاجبك، والخارج من عندك يعرفك بجليسك.
وقال يزيد بن المهلب لابنه مخلد حين ولاه جرجان: استطرف كاتبك، واستعقل حاجبك.
وقال الحجاج: حاجب الرجل وجهه، وكاتبه كله.
وقال ابن أبي زرعة: [قال] رجل من أهل الشام، لأبي الخطاب لحسن بن محمد الطائي يعاتبه [في حجابه] :
هذا أبو الخطاب بدر طالع
من دون مطلعه حجاب مظلم
ويقال وجه المرء حاجبه كما
بلسان كاتبه الفتى يتكلم
أدنيت من قبل اللقاء، وبعده
أقصيت، هل يرضى بذا من يفهم
صفحه ۵۷۲
وإذا رأيت من الكريم فظاظة
فإليه من أخلاقه أتظلم
وقال الفضل بن يحيى: إن حاجب الرجل عامله على عرضه، وإنه لا عوض لحر من نفسه، ولا قيمة عنده لحريته وقدره.
وأنشدني ابن أبي كامل في هذا المعنى:
واعلمن إن كنت تجهله
أن عرض المرء حاجبه
فبه تبدو محاسنه
وبه تبدو معايبه
[5- أخبار وأشعار عتاب وهجاء ومديح في الحجاب]
إسحاق الموصلي عن ابن كناسة قال:
خبرت أن هانىء بن قبيصة وفد على يزيد بن معاوية، فاحتجب عنه أياما، ثم إن يزيد ركب يوما يتصيد فتلقاه هانيء فقال: يا يزيد، إن الخليفة ليس بالمحتجب المتخلي، ولا المتطرف المتنحي، ولا الذي ينزل على الغدران والفلوات، ويخلو للذات والشهوات. وقد وليت أمرنا فأقم بين أظهرنا، وسهل إذننا، واعمل بكتاب الله فينا. فإن كنت قد عجزت عما هنا فاردد علينا بيعتنا نبايع من يعمل بذلك فينا، ويقيمه لنا. ثم عليك بخلواتك وصيدك وكلابك.
قال: فغضب يزيد وقال: والله لولا أن أسن بالشام سنة العراق لأقمت أودك.
ثم انصرف وما هاجه بشيء، وأذن له، ولم تتغير منزلته عنده، وترك كثيرا مما كان عليه.
الموصلي قال: كان سعيد بن سلم واليا على أرمينية، فورد عليه أبو دهمان الغلابي، فلم يصل إليه إلا بعد حين، فلما وصل قال- وقد مثل بين السماطين-:
صفحه ۵۷۳
والله إني لأعرف أقواما لو علموا أن سف التراب يقيم من أود أصلابهم لجعلوه مسكة لأرماقهم، إيثارا للتنزه عن العيش الرقيق الحواشي. والله إني لبعيد الوثبة، بطيء العطفة إنه والله ما يثنيني عليك إلا مثل ما يصرفني عنك، ولأن اكون مملقا مقربا أحب إلي من أن أكون مكثرا مبعدا. والله ما نسأل عملا لا نضبطه ولا مالا إلا ونحن أكثر منه، وإن الذي صار في يدك قد كان في يد غيرك، فأمسوا والله حديثا، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا. فتحبب إلى عباد الله بحسن البشر، ولين الحجاب؛ فإن حب عباد الله موصول بحب الله، وهم شهداء الله على خلقه، وأمناؤه على من اعوج عن سبيله.
إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال:
استبطأني جعفر بن يحيى، وشكا ذلك إلى أبي، فدخلت عليه- وكان شديد الحجاب- فاعتذرت إليه وأعلمته أني أتيته مرارا للسلام فحجبني نافذ غلامه. فقال لي وهو مازح: متى حجبك فنكه. فأتيته بعد ذلك للسلام فحجبني، فكتبت إليه رقعة فيها:
جعلت فداءك من كل سوء
إلى حسن رأيك أشكو أناسا
يحولون بيني وبين السلام
فما إن أسلم إلا اختلاسا
وأنفذت رأيك في نافذ
فما زاده ذاك إلا شماسا
وسألت نافذا أن يوصلها ففعل، فلما قرأها ضحك حتى فحص برجليه وقال: لا تحجبه أي وقت جاء. فصرت لا أحجب.
وحجب أحمد بن أبي طاهر ببا بعض الكتاب فكتب إليه:
ليس لحر من نفسه عوض، ولا من قدره خطر، ولا لبذل حريته ثمن. وكل ممنوع فمستغنى عنه بغيره، وكل مانع ما عنده ففي الأرض عوض منه، ومندوحة عنه. وقد قيل: أرخص ما يكون الشيء عند غلائه.
صفحه ۵۷۴
وقال بشار:
والدر يترك من غلائه
ونحن نعوذ بالله من المطامع الدنية، والهمة القصيرة، ومن ابتذال الحرية، فإن نفسي والله أبية، ما سقطت وراء همة، ولا خذلها ناصر عند نازلة، ولا استرقها طمع، ولا طبعت على طبع. وقد رأيتك وليت عرضك من لا يصونه، ووكلت ببابك من يشينه، وجعلت ترجمان كرمك من يكثر من أعدائك، وينقص من أوليائك، ويسيء العبارة عن معروفك، ويوجه وفود الذم إليك، ويضغن قلوب إخوانك عليه؛ إذ كان لا يعرف لشريف قدرا، ولا لصديق منزلة، ويزيل المراتب عن جهاتها ودرجاتها، فيحط العلي إلى مرتبة الوضيع، ويرفع الدني إلى مرتبة الرفيع، ويقبل الرشى، ويقدم على الهوى. وذلك إليك منسوب، وبرأسك معصوب، يلزمك ذنبه، ويحل عليك تقصيره.
وقد أنشدني أبو علي البصير:
كم من فتى تحمد أخلاقه
وتسكن الأحرار في ذمته
قد كثر الحاجب أعداءه
وأحقد الناس على نعمته
وأنشدت لبعضهم:
يدل على سرو الفتى واحتماله
إذا كان سهلا دونه إذن حاجبه
وقد قيل ما البواب إلا كربه
إذا كان سهلا كان سهلا كصاحبه
وقال الطائي:
حشم الصديق عيونهم بحاثة
لصديقه عن صدقه ونفاقه
فلينظرن المرء من غلمانه
فهم خلائفه على أخلاقه
وقال آخر:
اعرف مكانك من أخي
ك ومن صديقك بالحشم
صفحه ۵۷۵
وقال ابن أبي عيينة:
إن وجه الغلام يخبر عما
في ضمير المولى من الكتمان
فإذا ما جهلت ود صديق
فامتحن ما أردت بالغلمان
وقال آخر:
ومحنة الزائرين بينة
تعرف قبل اللقاء بالحشم
وأنشدني عبد الله بن أحمد المهزمي في علي بن الجهم:
أعلي دونك يا علي حجاب
يدنى البعيد وتحجب الأصحاب
هذا بإذنك أم برأيك أم رأى
هذا عليك العبد والبواب
إن الشريف إذا أمور عبيده
غلبت عليه فأمره مرتاب
وأخذه من قول الطائي:
أبا جعفر وأصول الفتى
تدل عليه بأغصانه
أليس عجيبا بأن أمرأ
رجاك لحادث أزمانه
فتأمر أنت بإعطائه
ويأمر فتح بحرمانه
ولست أحب الشريف الظريف
يكون غلاما لغلمانه
وحجب ابن أبي طاهر بباب بعض الكتاب، فكتب إليه:
«إنه من لم يرفعه الإذن لم يضعه الحجاب، وأنا أرفعك عن هذه المنزلة، وأربأ بعدوك عن هذه الخليقة، وما أحد أقام في منزله- عظم أو صغر قدره- إلا ولو حاول حجاب الخليفة عنه لأمكنه. فتأمل هذه الحال وانظر إليها بعين النصفة، ترها في أقبح صورة، وأدنى منزلة. وقد قلت:
إذا كنت تأتي المرء تعظم حقه
ويجهل منك الحق فالهجر أوسع
ففي الناس أبدال وفي العز راحة
وفي اليأس عمن لا يواتيك مقنع
وإن امرأ يرضى الهوان لنفسه
حري بجدع الأنف والجدع أشنع
فدع عنك أفعالا يشينك فعلها
وسهل حجابا إذنه ليس ينفع
صفحه ۵۷۶
وحدثني عبد الله بن أبي مروان الفارسي قال:
ركبت مع ثمامة بن أشرس إلى أبي عباد الكاتب، في حوائج كتب إلي فيها أهل إرمينية من المعتزلة والشيعة، فأتيناه فأعظم ثمامة وأقعده في صدر المجلس وجلس قبالته، وعنده جماعة من الوجوه، فتحدثنا ساعة ثم كلمه ثمامة في حاجتي، وأخرجت كتب القوم فقرأها، وقد كانوا كتبوا إلى أبي عباد كتبا، وكانوا أصدقاءه أيام كونه بإرمينية، فقال لي: بكر إلي غدا حتى أكتب جواباتها إن شاء الله. فقلت: جعلني الله فداك، تأمر الحاجب إذا جئت أن يأذن لي. فغضب من قولي واستشاط وقال: ومتى حجبت أنا، أولي حاجب، أو لأحد علي حجاب!.
قال عبد الله: وقد كنت أتيته فحجبني بعض غلمانه، فحلف بالأيمان المغلظة أن يقلع عيني من حجبني، ثم قال: يا غلام، لا يبق في الدار غلام ولا منقطع إلينا إلا أحضرتمونيه الساعة! قال: فأتى بغلمانه وهم نحو من ثلاثمائة، فقال: أشر إلى من شئت فيهم. فغمزني ثمامة فقلت: جعلت فداك لا أعرف الغلام بعينه. فقال: ما كان لي حاجب قط، ولا احتجبت، وذلك لأنه سبق مني قول، لأني كنت وأنا بالري وقد مات أبي وخلف لي بها ضياعا فاحتجب إلى ملاقاة الرجال والسلطان فيما كان لنا، فكنت أنظر إلى الناس يدخلون ويصلون وأحجب أنا وأقصى، فتتقاصر إلي نفسي، ويضيق صدري، فآليت على نفسي إن صرت إلى أمر من السلطان ألا أحتجب أبدا.
وحدثني الزبير بن بكار قال:
استأذن نافع بن جبير بن مطعم على معاوية، فمنعه الحاجب فدق أنفه، فغضب معاوية وكان جبير عنده، فقال معاوية: يا نفاع، أتفعل هذا بحاجبي؟ قال: وما يمنعني منه وقد أساء أدبه وأسأت اختياره؟! ثم أنا بالمكان الذي أنا به منك. فقال جبير: فض الله فاك، ألا تقول: وأنا بالمكان الذي أنا به من عبد مناف؟! قال: فتبسم معاوية وأعرض عنه.
صفحه ۵۷۷
قال: وفد رجل من الأكاسرة على بعض ملوكهم، فأقام ببابه حولا لا يصل إليه، فكلم الحاجب فأوصل له رقعة فيها أربعة أسطر:
السطر الأول فيه: الأمل والضرورة أقدماني إليك.
وفي الثاني: ليس على العديم صبر على المطالبة.
وفي الثالث: الرجوع بلا فائدة شماتة العدو والقريب.
وفي الرابع: إما «نعم» مثمرة، وإما «لا» مؤيسة، ولا معنى للحجاب بينهما.
فوقع تحت كل سطر منها: «زه» .
وأنشد الوليد بن عبيد البحتري في ابن المدبر يهجو غلامه بشرا:
وكم جئت مشتاقا على بعد غاية
إلى غير مشتاق وكم ردني بشر
وما باله يأبى دخولي وقد رأى
خروجي من أبوابه ويدي صفر
وأنشدت لبعضهم:
لعمري لئن حجبتني العبيد
ببابك ما يحجبوا القافيه
سأرمي بها من وراء الحجاب
جزاء قروض لكم وافيه
تصم السميع وتعمي البصير
ويسأل من أجلها العافية
وأنشدني أحمد بن أبي فنن، في محمد بن حمدون بن إسماعيل:
ولقد رأيت بباب دارك جفوة
فيها لحسن صنيعة تكدير
ما بال دارك حين تدخل جنة
وبباب دارك منكر ونكير
وأنشدني أبو علي الدرهمي اليمامي في أبي الحسن علي بن يحيى:
لا يشبه الرجل الكريم نجاره
ذا اللب غير بشاشة الحجاب
وبباب دارك من إذا حييته
جعل التبرم والعبوس ثوابي
أوصيته بالإذن لي فكأنما
أوصيته متعمدا لحجابي
وأنشدني أبو علي البصير في أبي الحسن علي بن يحيى:
صفحه ۵۷۸
في كل يوم لي ببابك وقفة
أطوى إليها سائر الأبواب
فإذا حضرت وغبت عنك فإنه
ذنب عقوبته على البواب
وأنشدني أبو علي اليمامي، وعاتب بعض أهل العسكر في حاجبه، فلم يأذن له الحاجب بعد ذلك، فكتب إليه:
صار العتاب يزيدني بعدا
ويزيد من عاتبته صدا
وإذا شكوت إليه حاجبه
أغراه ذاك فزادني ردا
وأنشدني العجيني في بعض أهل العسكر، يعاتبه في حجابه ويهجو حاجبه:
إنما يحسن المديح إذا ما
أنشد المادح الفتى الممدوحا
وأراني بباب دارك عمر
ت طويلا مقصى مهانا طريحا
إن بالباب حاجبا لك أمسى
منكر عنده ظريفا مليحا
ما سألناه عنك قط وإلا
رد من بغضه مردا قبيحا
وأنشدت لبعضهم في هجاء حاجب:
سأترك بابا أنت تملك إذنه
ولو كنت أعمى عن جميع المسالك
فلو كنت بواب الجنان تركتها
وحولت رحلي مسرعا نحو مالك
وكتب بعض الكتاب إلى الحسن بن وهب، في بوابه:
قد كنت أحسب أن طرفك ملني
ورميت منك بجفوة وعذاب
فإذا هواك على الذي قد كان لي
وإذا بليتنا من البواب
فاعلم- جعلت فداك- غير معلم
أن الأديب مؤدب الحجاب
وقال رزين العروضي لجعفر بن محمد بن الأشعث:
إن كنت تحجبني للذئب مزدهيا
فقد لعمري أبوكم كلم الذيبا
فكيف لو كلم الليث الهصور إذا
تركتم الناس مأمولا ومشروبا
صفحه ۵۷۹
هذا السنيدي ما ساوى إتاوته
يكلم الفيل تصعيدا وتصويبا
اذهب إليك فما آسى عليك وما
ألقى ببابك طلابا ومطلوبا
المدائني قال: كان يزيد بن عمر الأسيدي على شرطة البصرة، فأتاه الفرزدق في جماعة فوقف ببابه، فأبطأ عليه إذنه، فقال- وكان [ابن] عمر يلقب الوقاح-:
ألم يك من نكس الزمان على استه
وقوفي على باب الوقاح أسائله
فإن تك شرطيا فإني لغالب
إذا نزلت أركان فخ منازله
وقال أبو علي البصير، وحجبه محمد بن غسان، بعد أنس كان بينهما:
قد أتينا للوعد صدر النهار
فدفعنا من دون باب الدار
وسمعنا، من غير قصد لأن نس
مع، صوت الغناء والأوتار
فأحطنا بكل ما غاب من شأ
نك عنا خبرا بلا استخبار
فإذا أنت قد وصلت صبوحا
بغبوق ودلجة بابتكار
وإذا نحن لا تخاطبنا الغل
مان إلا بالجحد والإنكار
فانصرفنا وطالما قد تلقو
نا بأنس منهم وباستبشار
ذاك إذ كان مرة لك فينا
وطر فانقضى من الأوطار
حين كنا المقدمين على النا
س وكنا الشعار دون الدثار
كم تأنيت وانتظرت فأفني
ت تأني كله وانتظاري
فعليك السلام كنا من الأه
ل فصرنا كسائر الزوار
وله إليه أيضا:
قد أطلنا بالباب أمس القعودا
وجفينا به جفاء شديدا
وذممنا العبيد حتى إذا نح
ن بلونا المولى عذرنا العبيدا
وعلى موعد أتيناك معلو
م وأمر مؤكد تأكيدا
فأقمنا لا الإذن جاء ولا جا
ء رسول قال انصرف مطرودا
صفحه ۵۸۰
وصبرنا حتى رأينا قبيل ال
ظهر برذون بعضهم مردودا
واستقر المكان بالقوم والغل
مان في ذاك يمنحونا صدودا
ويشيرون بالمضي فلما
أحرجوا جردوا لنا تجريدا
فانصرفنا في ساعة لو طرحت ال
لحم فيها نيا كفيت الوقودا
فلعمري لو كنت تعتد لي ذن
با عظيما وكنت فظا حقودا
وطلبت المزيد لي في عذاب
فوق هذا لما وجدت مزيدا
كان ظني بك الجميل فألفي
تك من كل ما ظننت بعيدا
فعليك السلام تسليم من لا
يضمن الدهر بعدها أن يعودا
وله في أحمد بن داود السيبي وقصد إليه بكتاب إسحاق بن سعد الكاتب:
يا ابن سعد إن العقوبة لا تل
زم إلا من ناله الإعذار
وابن داود مستخف وقدوا
فته مشحوذة عليه الشفار
فاهده للتي يكون له من
ها مفر ما دام ينجي الفرار
سامنى أحمد بن داود أمرا
ما على مثله لدي اصطبار
لي إليه في كل يوم جديد
روحة ما أغبها وابتكار
ووقوف ببابه أمنع الإذ
ن عليه ويدخل الزوار
خطة من يقم عليها من النا
س ففيها ذل له وصغار
لو ينال الغنى لما كان في ذ
لك حظ يناله مختار
عزب الرأي في عنه وعزت
ه أناة طويلة وانتظار
ضو حجب بباب بعض الكتاب فكتب إليه:
أقمت ببابك في جفوة
يلون لي قوله الحاجب
فيطمعني تارة في الوصول
وربتما قال لي: راكب
فأعلم عند اختلاف الكلام
وتخليطه أنه كاذب
وأعزم عزما فيأبى عل
ي إمضاءه رأيي الثاقب
صفحه ۵۸۱
وإني أراقب حتى يثو
ب للحر من رأيه ثائب
فإن تعتذر تلفني عاذرا
صفوحا وذاك هو الواجب
وإلا فإني إذا ما الحبا
ل رثت قواها، لها قاضب
وقال لعلي بن يعقوب الكاتب وحجب ببابه:
قد أتيناك للسلام فصادف
نا على غير ما عهدنا الغلاما
وسألناه عنك فاعتل بالنو
م وما كان منكرا أن تناما
غير أن الجواب كان جوابا
سيئا يعقب الصديق احتشاما
فانصرفنا نوجه العذر إلا
أن في مضمر القلوب اضطراما
يا ابن يعقوب لا يلومن إلا
نفسه بعد هذه من ألاما
وقال لعلي بن يحيى المنجم، وحجبه غلامه:
ليس يرضى الحر الكريم ولو أق
طعته الأرض أن يذل لعبد
فعليك السلام إلا على الطر
ق وحبي كما علمت وودي
وقال أبو هفان لعلي بن يحيى، يعاتبه في حجابه:
أبا حسن وفنا حقنا
بحق مكارمك الوافية
أأحجب دونك شر الحجاب
ويدخل دوني بنو العافية
أعوذ بفضلك من أن أساء
وأسأل ربي لك العافية
فإني امرؤ تتقيني الملوك
وتدخل في حلقي الضافيه
كتبت على نفس من رامني
ببعض الأذى للردى صافيه
وأنشدت لبرقوق الأخطل وحجب بباب بعض الكتاب:
قد حجبنا وكان خطبا جليلا
وقليل الجفاء ليس قليلا
لم أكن قبلها ثقيلا وهل يث
قل من خاف أن يكون ثقيلا
غير أني أظن لا زال ذاك ال
ظن ينقاد أن يكون ملولا
وأخذه من قول الآخر:
صفحه ۵۸۲
لما تحاجبت وقد خفت أن
تدنو من ودك بالمقبل
أقللت إتيانكم إنه
من خاف أن ينقل لم يثقل
وأنشدني أبو عبد الرحمن العطوي:
لأبي بكر خليلي
حسن رأي في الحجاب
يا أبا بكر سقاك الل
ه من صوب السحاب
لن تراني بعدها من
بعدها قارع باب
إن ينب خطب ففي الرس
ل بلاغ والكتاب
ولخالد الكاتب في جعفر بن محمود:
احتجب الكاتب في دهرنا
وكان لا يحتجب الكاتب
القوم يخلون لحجابهم
فينكح المحجوب والحاجب
ولأبي سعد المخزومي في الحسن بن سهل:
ترهب بعدك الحسن بن سهل
فأغلق بابه دون المديح
كذبت له ولم أكذب عليه
كما كذب النصارى للمسيح
وأنشدني البلاذري في بعض كتاب أهل العسكر:
أيحجبني من ليس من دون عرسه
حجاب ولا من دون وجعائه ستر
ومن لو أمات الله أهون خلقه
عليه لأضحى قد تضمنه قبر
وأنشدني حبيب بن أوس، في موسى بن إبراهيم، أبي المغيث:
أمويس لا يغني اعتذارك طالبا
ودي فما بعد الهجاء عتاب
هب من له شيء يريد حجابه
ما بال لا شيء عليه حجاب
ما إن سمعت ولا أراني سامعا
يوما بصحراء عليها باب
من كان مفقود الحياء فوجهه
من غير بواب له بواب
ولآخر:
صفحه ۵۸۳