معالم الدين:
فصل الفقه في اللغة: الفهم وفي الاصطلاح هو: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية. فخرج بالتقييد بالأحكام العلم بالذوات كزيد مثلا، وبالصفات ككرمه وشجاعته، وبالأفعال ككتابته وخياطته.
وخرج بالشرعية غيرها كالعقلية المحضة واللغوية. وخرج بالفرعية الأصولية. وبقولنا: " عن أدلتها " علم الله سبحانه، وعلم الملائكة والأنبياء، وخرج بالتفصيلية علم المقلد في المسائل الفقهية، فإنه مأخوذ من دليل إجمالي مطرد في جميع المسائل، وذلك لأنه إذا علم أن هذا الحكم المعين قد أفتى به المفتي، وعلم أن كلما أفتى به المفتي، فهو حكم الله تعالى في حقه، يعلم بالضرورة أن ذلك الحكم المعين هو حكم الله سبحانه في حقه. وهكذا يفعل في كل حكم يرد عليه.
وقد أورد على هذا الحد: أنه إن كان المراد بالأحكام البعض لم يطرد، لدخول المقلد إذا عرف بعض الأحكام كذلك، لأنا لا نريد به العامي، بل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد. وقد يكون عالما متمكنا من تحصيل ذلك، لعلو رتبته في العلم، مع أنه ليس بفقيه في الاصطلاح.
وإن كان المراد بها الكل لم ينعكس، لخروج أكثر الفقهاء عنه، إن لم يكن كلهم، لأنهم لا يعلمون جميع الأحكام، بل بعضها أو أكثرها.
صفحه ۴۹
ثم إن الفقه أكثره من باب الظن، لابتنائه غالبا على ما هو ظني الدلالة أو السند. فكيف أطلق عليه العلم.
والجواب: أما عن سؤال الأحكام، فبأنا نختار أولا: أن المراد البعض. قولكم: " لا يطرد لدخول المقلد فيه "، قلنا: ممنوع، أما على القول بعدم تجزي الاجتهاد، فظاهر، إذ لا يتصور على هذا التقدير، انفكاك العلم ببعض الأحكام كذلك عن الاجتهاد، فلا يحصل للمقلد، وإن بلغ من العلم ما بلغ. وأما على القول بالتجزي، فالعلم المذكور داخل في الفقه، ولا ضير فيه، لصدقه عليه حقيقة وكون العالم بذلك فقيها بالنسبة إلى ذلك المعلوم اصطلاحا وإن صدق عليه عنوان التقليد بالإضافة إلى ما عداه.
ثم نختار ثانيا: أن المراد بها الكل - كما هو الظاهر، لكونها جمعا محلى باللام، ولا ريب أنه حقيقة في العموم - قولكم: " لا ينعكس لخروج أكثر الفقهاء عنه "، قلنا: ممنوع، إذ المراد بالعلم بالجميع التهيؤ له، وهو أن يكون عنده ما يكفيه في استعلامه من المآخذ والشرائط، بأن يرجع إليه، فيحكم. وإطلاق " العلم " على مثل هذا التهيؤ شايع في العرف، فإنه يقال في العرف: " فلان يعلم النحو " مثلا، ولا يراد أن مسائله حاضرة عنده على التفصيل. وحينئذ فعدم العلم بالحكم في الحال الحاضر لا ينافيه.
واما عن سؤال الظن، فبحمل " العلم " على معناه الأعم، أعني ترجيح أحد الطرفين، وإن لم يمنع من النقيض، وحينئذ فيتناول الظن.
وهذا المعنى شايع في الاستعمال، سيما في الأحكام الشرعية.
وما يقال في الجواب أيضا - من أن الظن في طريق الحكم، لا فيه نفسه، وظنية الطريق لا تنافى علمية الحكم - فضعفه ظاهر عندنا. وأما عند المصوبة القائلين بأن كل مجتهد مصيب - كما سيأتي الكلام فيه، إن شاء الله تعالى، في بحث الاجتهاد - فله وجه. وكأنه لهم. وتبعهم فيه من لا يوافقهم على هذا الأصل، غفلة عن حقيقة الحال.
صفحه ۵۰
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد وعترته الأطائب الأكرمين.
قوله: * (الفقه في اللغة: الفهم) * كما نص عليه الجوهري وغيره، قال الله تعالى: " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " (1) وخصه بعضهم بفهم غرض المتكلم من كلامه، وآخر بفهم الأشياء الدقيقة. وفي مفردات الراغب: أنه التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد.
والفهم مطلق الإدراك، ولذا فسره الجوهري بالعلم. وقيل: هو جودة الذهن من حيث استعداده لاكتساب المطالب وسرعة انتقاله من المبادئ إلى المقاصد.
والظاهر ثبوت الإطلاقين، وكأن الأول هو الأصل في معناه والثاني مأخوذ منه.
وكيف كان، فالظاهر هنا هو الأول، إذ إطلاق الفقه على الثاني بعيد جدا، وعلى فرضه فالظاهر أنه مجاز فيه، كما لا يخفى.
قوله: * (وفي الاصطلاح) * الظاهر أن ذلك من مصطلحات الفقهاء، وليس معنى شرعيا ليكون حقيقة شرعية فيه بناء على القول بثبوتها. نعم قد أطلق التفقه في الدين على معرفة أحكام
صفحه ۵۱
الشرع في الآية الشريفة (1)، وكذا في الأخبار المأثورة. والظاهر أن المراد به مجرد العلم بالأحكام الشرعية، فاستعماله في الآية فيما عدا المعنى اللغوي غير معلوم، وكذا في عدة من الأخبار المسوقة سوق الآية. إلا أن الظاهر شيوع إطلاقه على خصوص المعرفة بالأحكام الشرعية بعد شيوع الاسلام في أعصار الأئمة (عليهم السلام)، غير أن استعماله في خصوص المعنى المشهور غير معلوم، فقد يكون المراد به مطلق المعرفة بالأحكام الشرعية، سواء كانت بطريق النظر أو الضرورة على وجه السماع من المعصوم أو غيره على سبيل الاجتهاد أو التقليد، كما في قوله (عليه السلام):
" الفقه ثم المتجر " (2) فإن الظاهر أن المراد به معرفة أحكام التجارة ولو بطريق التقليد، حتى أن إطلاقه على علومهم (عليهم السلام) بالمسائل الفقهية غير بعيد. وإطلاق " الفقيه " على الكاظم (عليه السلام) معروف في كلام الرواة.
وكان يطلق أيضا في الصدر الأول على علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال ومصلحاتها وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع على نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب، نص على ذلك بعض أفاضل المتأخرين (3) وقال: إن اسم الفقه في العصر الأول إنما كان يطلق على ذلك، وجعل آية التفقه شاهدة عليه.
ويظهر من كلام بعض المحدثين كون المعنى الأول من المعاني الشرعية، ولذا ناقش في المقام في اخراج الضروريات عن الفقه بالمعنى المذكور قائلا:
بأن الاجماع على بعض الأحكام من فرق الاسلام كلها لا يخرجها عن كونها مسألة فقهية بحسب إطلاق الشرع، ألا ترى أن كثيرا من الفرعيات مما قد انعقد إجماع المسلمين عليها مع أنها دونت في الكتب، وذكروا مدارك أحكامها. ونص بأن الفقهاء لم يزعموا أن هذا الاصطلاح اخترعوه من عند أنفسهم، بل قالوا:
صفحه ۵۲
إنه مفهوم من الأخبار وكلام الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، ومن تتبع كلامهم لم يختلجه شك ولا ريب في ذلك.
وأنت خبير بأن ما ادعاه في المقام غير ظاهر، أقصى الأمر إطلاق الفقه في الكتاب والأخبار على العلم بالأحكام الشرعية في الجملة، وبمجرد ذلك لا يثبت كون ذلك من المعاني الشرعية، بل يمكن حمل عدة منها - بل كلها - على المعنى اللغوي، ويكون إطلاقها على علم الشريعة من قبيل إطلاق الكلي على الفرد، وليس في كلامهم ما يفيد كون ذلك معنى شرعيا، ولا ادعوه في المقام، كيف!
والتعبير عنه بالاصطلاح - كما في الكتاب وسائر تعبيرات الأصحاب - شاهد على خلافه.
وقد احتمله المحدث المذكور في بعض رسائله وقطع به في موضع آخر، ونص على أن ذلك معنى جديد بين المجتهدين، قال: وإطلاقه المتكثر في الأخبار هو البصيرة في أمر الدين. وعلى هذا فلا وجه للمناقشة المذكورة، إذ لا مشاحة في الاصطلاح.
نعم، قد أنكر بعض فضلاء المتأخرين كون المعنى المذكور من المعاني الاصطلاحية الطارئة، لئلا يحمل عليه إطلاق الشارع، ونص على أن إطلاق الفقه والتفقه على معرفة الأحكام عن أدلتها غير عزيز في الأخبار، مشهور في الصدر السابق.
وظاهر كلامه يومئ إلى دعوى الحقيقة الشرعية فيه. ثم إنه ذكر أخبارا كثيرة ذكر فيها لفظ " الفقه " أو " التفقه " مستشهدا بها على ذلك، وليس في شئ منها صراحة في إرادة خصوص المعنى المذكور، بل المنساق من كثير منها هو المعرفة بأحكام الدين كما أشرنا إليه. ثم إنه شدد النكير على جماعة من الأعلام حيث ادعوا أن اسم الفقه في الصدر السابق إنما يطلق على علم الآخرة... إلى آخر ما مر.
قلت: إن أراد الجماعة انحصار إطلاقه المعروف في الصدر السابق في ذلك
صفحه ۵۳
فالظاهر وهنه كما أشار إليه الفاضل المذكور، وليس هناك قرينة على إطلاقه في آية التفقه على ذلك كما ادعاه بعضهم. وإن أرادوا أنه كان إطلاقا معروفا في ذلك العصر في الجملة فليس بالبعيد، وفي غير واحد من الأخبار شهادة عليه، كقوله (عليه السلام): " لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله تعالى، وحتى يرى للقرآن وجوها كثيرة، ثم يقبل على نفسه، فيكون لها أشد مقتا " (1).
وكيف كان، فثبوت الحقيقة الشرعية في أحد المعاني المذكورة غير معلوم حتى يتعين حمل إطلاق الكتاب والأخبار عليه، بل واستعماله في خصوص المعنى المصطلح غير معلوم أيضا. نعم قد يستظهر إطلاقه عليه من بعض الروايات.
ثم إنه بعد انتشار علم الفقه وتدوينه في الكتب في عصر الصادقين (عليهما السلام) لا يبعد القول بحصول النقل في الجملة.
ثم إنه قد فرع المحدث المتقدم على ما مر ذكره مسألة النذر والوصية فيما لو نذر أو أوصى لمن تكلم في مسألة فقهية، فإن قلنا بخروج الضروريات عن الفقه لم يثبت ذلك لمن تكلم في إحدى تلك المسائل، وإلا ثبت له ذلك.
وفيه: أن الإطلاقات العرفية إنما تنصرف إلى معانيها المتداولة في المحاورات الجارية دون الاصطلاحات العلمية، سواء كانت مأخوذة عن الأئمة (عليهم السلام) أو لا، وإنما يتم ما ذكره على فرض اتحاد معناه الاصطلاحي والمعنى العرفي الشائع بين الناس، لكنه محل تأمل.
قوله: * (هو العلم بالأحكام) * قد شاع إطلاق العلم على أمور: خصوص التصديق اليقيني، ومطلق الإدراك الشامل له وللتصور، ونفس المسائل المبينة في العلوم، أي: المعلومات بالعلوم التصديقية وهي النسب التامة المغايرة للتصديقات بالاعتبار - كما بين في محله - وعلى الملكة التي يقتدر بها على استنباط المسائل.
ويطلق الحكم على التصديق، وعلى النسبة التامة الخبرية، وعلى خطاب الله
صفحه ۵۴
المتعلق بأفعال المكلفين، وعلى ما يعم الأحكام الخمسة الشرعية، وعلى ما يعمها والوضعية التي منها: السببية والشرطية والمانعية والصحة والبطلان، وإذا لوحظت وجوه العلم مع وجوه الأحكام ارتقى الاحتمالات إلى عشرين، والصحيح منها وجوه عديدة.
وتوضيح الحال: أن الأول والثاني من وجوه العلم لا مانع من إرادته في المقام، وأما الثالث فلا يرتبط بالأحكام، وأما الرابع فهو وإن صح ارتباطه بالأحكام إلا أنه لا يلائم الظرف الواقع بعده، إذ الملكة إنما تحصل من المزاولة والممارسة، ولا تحصل من الأدلة التفصيلية. ويمكن أن يصحح ذلك بجعل الظرف من متعلقات الأحكام أو التصديق المتعلق للملكة المذكورة حسبما يأتي الإشارة إليه.
وأما وجوه الأحكام فلا يصح إرادة الأول منها في المقام، إذ لا يرتبط به العلم بأحد المعاني المذكورة، ضرورة أنه لا محصل للتصديق بالتصديقات ولا لملكة التصديق بالتصديقات، وكذا لو أريد به مطلق الإدراك أو ملكته، على أن مرجعه إلى التصديق .
فما ذكره المحقق الشريف وتبعه بعض الأفاضل من تفسير الأحكام بالتصديقات ليس على ما ينبغي. ويمكن تصحيحه بحمل " العلم " على مطلق الملكة المجردة عن التصديق، فيصح تعلقه بالتصديقات.
ويبعده: أن المعروف في حمل " العلم " على الملكة هو إرادة ملكة العلم منه تنزيلا للقوة القريبة منزلة الفعل، لا الملكة المطلقة ليعلم تعلقها بالعلم من متعلقها، إلا أن الظاهر أن إطلاق " العلم " على مجرد الملكة وارد في الاستعمالات أيضا، كما يقال: فلان عالم بالصياغة أو الحياكة أو النجارة (1)، ويراد به حصول تلك الملكة له، فالظاهر صحة إطلاقه عليها، سيما إذا كان ما أطلق عليه من ملكات
صفحه ۵۵
العلوم وإن كان بعيدا عن ظاهر الإطلاق، فحينئذ يتعين أن يكون الظرف من متعلقات الأحكام.
فما ذكراه من تعلق الظرف بالعلم غير متجه، وكأنهما أرادا بالتصديق المصدق به، لشيوع إطلاقه عليه، فيرجع إلى الوجه الآتي.
وكيف كان، فالوجه المذكور وإن أمكن تصحيحه إلا أن فيه من التعسف والركاكة ما لا يخفى.
وأما الثاني فهو أظهر الوجوه في المقام، وعدم كونه من مصطلحات الأصوليين والفقهاء لا يبعد الحمل عليه، سيما قبل بيان الاصطلاح، مضافا إلى قيام بعض الشواهد المبعدة للحمل على المصطلح، كما ستعرف.
وأما الثالث فلا يصح إرادته في المقام، إذ ليس العلم بنفس الخطابات فقها، سواء فسر الخطاب بتوجيه الكلام نحو الغير أو الكلام الموجه نحوه، وأيضا لا معنى لتعلق الأدلة بها، إذ من جملة الأدلة الكتاب والسنة وهما عين الخطاب على الثاني، فيتحد المدلول والدليل، وقد وقع الخطاب بهما على الأول فلا يكونان دليلين عليه.
وقد أجاب الأشاعرة عن ذلك - بناء على ما ذهبوا إليه من القول بالكلام النفسي - بحمل الأحكام على الخطابات النفسية وما عد في الأدلة من اللفظية، فجعلوا الثانية أدلة على الأولى.
وأورد عليه بعض أفاضل العصر: بأن الكلام اللفظي حينئذ كاشف عن المدعى لا أنه مثبت للدعوى، فلا يكون دليلا عليه بحسب الاصطلاح.
ويدفعه: أنه إنما يتم لو فسر الكلام النفسي بمدلول الكلام اللفظي، أعني نفس ما دل عليه اللفظ من حيث إنه مدلوله، إذ من الواضح عدم كون اللفظ دليلا على معناه في الاصطلاح وإن كان دالا عليه.
وأما إذا فسر بالكلام القائم بالذات الأزلية المدلول عليه بالخطاب اللفظي - كما هو الظاهر من مذهبهم حيث يذهبون إلى كونه من الصفات القديمة -
صفحه ۵۶
فالخطاب اللفظي دليل عليه بحسب الاصطلاح، إذ كما يدل اللفظ على مدلوله الخارجي يدل على كونه مطابقا لما في نفس المتكلم، فينتظم في المقام قياس بهذه الصورة: هذا ما دل الخطاب اللفظي على قيامه بالذات الأزلية، وكل ما دل عليه خطابه اللفظي فهو مطابق للحقيقة، فينتج أن خطابه النفسي هو ذلك.
وقد علل (رحمه الله) في الحاشية عدم كون الخطاب اللفظي دليلا على الخطاب النفسي بحسب الاصطلاح بأنه: لابد في الدليل الاصطلاحي من تصور المدلول قبل الدليل والعلم به على سبيل الاجمال، وهو غير حاصل في المقام، إذ الخطابات النفسية إنما تعلم بعد ملاحظة الخطابات اللفظية من غير علم بها قبل ذلك أصلا لا إجمالا ولا تفصيلا.
وأنت خبير بعدم وضوح ما ذكره من الدعويين، إذ لا يلزم تقدم العلم الاجمالي بالمدلول على الدليل مطلقا حتى يكون ذلك من لوازم الدليل بالمعنى المصطلح، بل قد يكون العلم به مطلقا متأخرا عن الدليل، كما إذا حصل الانتقال إلى النار بعد ملاحظة الدخان، غاية الأمر أنه مسبوق في المثال بمعرفة الملازمة بين مطلق الدخان والنار وهو شئ آخر.
نعم، ما ذكره (رحمه الله) من لوازم الاستدلال، وأيضا لا مانع من تقدم العلم بالخطابات النفسية إجمالا على معرفة الخطابات اللفظية التفصيلية، كيف! وثبوت الأحكام على سبيل الاجمال من ضروريات الدين، كما أشار إليه في الجواب المختار عنده، وذلك عندهم هو العلم بالخطابات النفسية على الاجمال، وهو متقدم في المعرفة على العلم بالخطابات اللفظية، وهو ظاهر.
هذا، وقد أجاب الفاضل المذكور عن أصل الإيراد بحمل الأحكام على الأحكام الإجمالية التي دلت على ثبوتها الضرورة، قال: والمراد من الأدلة الخطابات التفصيلية، فيكون الفرق بين المدلول والدليل بالإجمال والتفصيل.
قلت: وأنت خبير بما فيه ، إذ لا محصل لما ذكره من التفرقة، فإن من البين أن المجهول في المقام إنما هي الخطابات التفصيلية وهي التي يتوقف إثباتها على
صفحه ۵۷
الأدلة، والمفروض في الحد المذكور كون الدليل عليها هي الخطابات التفصيلية التي هي عين ذلك المدلول المجهول، فالمحذور المذكور على حاله واعتبار العلم بها إجمالا لا يفيد شيئا في المقام. وليس العلم بها على سبيل الاجمال حاصلا من تلك الخطابات التفصيلية حتى يصح الفرق بين المدلول والدليل بالإجمال والتفصيل، بل العلم الاجمالي الحاصل في المقام على نحو سائر العلوم الإجمالية المتعلقة بالنتائج عند طلب الدليل عليها، ومن البين أنه ليس التفصيل الحاصل من الدليل دليلا على ذلك المعلوم الاجمالي، بل هو عين المجهول المعلوم على جهة الاجمال الحاصل من الدليل القائم عليه، على أنه من الواضح أن العلم بتلك الخطابات على سبيل الاجمال ليس من الفقه في شئ، فلا يصح تحديده به.
ثم إن ما ذكرناه على فرض حمل الخطاب في الحد المشهور للحكم على ظاهر معناه، وأما إن أول بما يجعل جامعا بين الأحكام الخمسة الشرعية والوضعية - كما هو ظاهر كلامهم في ذلك المقام حيث جعلوه مقسما لتلك الأحكام - رجع إلى المعنى الخامس، ولا يتوجه عليه شئ من الإيرادين المذكورين.
وأما الرابع فبعد تسليم شيوع إطلاق الحكم عليه بخصوصه لا يتجه إرادته في المقام، لخروج معظم مسائل الفقه عنه، كبيان شرائط العبادات وموانعها وأسباب وجوبها والبحث عن الصحة والفساد الذي هو المقصود الأهم في قسم المعاملات.
والتزام الاستطراد في جميعها أو كون البحث عنها من جهة الأحكام التكليفية التابعة لها - ولذا قيل بانحصار الأحكام في الخمسة الشرعية وإرجاع الوضعية إليها - كما ترى! نعم يتم ذلك على القول بانحصار الأحكام في التكليفية وإرجاع الوضعية إليها، وحينئذ فلا مانع من حملها على ذلك، إلا أن البناء على ذلك غير متجه، كما قرر في محله.
وأما الخامس فلا مانع من إرادته في المقام، إلا أنه إن فسر بالصفات الخاصة المحمولة - كما هو الظاهر من ملاحظة حدود الأحكام الشرعية - لم يمكن تعلق
صفحه ۵۸
التصديق بها إلا بنوع من التأويل، إذ لا يتعلق التصديق إلا بالنسبة. وإن فسر بانتساب تلك المحمولات إلى موضوعاتها نسبة تامة - كما هو أحد الوجهين في تفسيرها - صح تعلق التصديق بها من غير تأويل، إذ المراد بها إذا نوع خاص من النسب التامة. وعلى أي من الوجهين يكون قيد " الشرعية " توضيحيا، إذ لا يكون الحكم المذكور إلا شرعيا.
وربما يقال باخراجه الأحكام الغير الشرعية كالوجوب الذي يذكر في سائر العلوم والصنائع أو الحاصل بمقتضى العادة.
وفيه: أن ذلك خارج عن المصطلح قطعا، كما يظهر من ملاحظة حدودها المذكورة في كتب الأصول.
وقد يجعل حينئذ قيد " الفرعية " أيضا توضيحيا بناءا على دعوى ظهور الأحكام في الشرعية الفرعية، كما يتراءى ذلك من حده المعروف. ولا يخلو عن تأمل، إذ الوجوب المتعلق بالعقائد الدينية أو المسائل الأصولية - كوجوب العمل بالكتاب والسنة - مندرج في الاصطلاح قطعا، وكذا غيره من الأحكام، فلا وجه لانصرافها إلى خصوص الفرعية مع شيوع إطلاقها على غيرها أيضا وشمول المصطلح للأمرين، كما هو الظاهر من ملاحظة الاستعمالات.
وقد يقال: بأن الاصطلاح إنما يثبت للحكم مقيدا بالشرعي، ولذا عرفوا الحكم الشرعي في المبادئ الأحكامية بالمعنى المذكور، وقسموه إلى الأقسام المعروفة، فلا يكون التقييد بالشرعية أيضا لغوا.
هذا، وقد ظهر بما قررناه رجوع الوجوه الثلاثة المتأخرة إلى وجه واحد، وهو القدر الجامع بين الأحكام الشرعية، ويبنى شموله للأحكام الوضعية وعدمه على الخلاف المذكور.
والمراد ب " الشرعية " المنتسبة إلى الشرع وإن كان إدراكها بمحض العقل من غير توسط بيان الشارع أصلا كما قد يتفق في بعض الفروض، أو كان العلم بها بملاحظة بيانه كما هو الحال في معظم المسائل، أو كان معلوما بالوجهين.
صفحه ۵۹
وقد تفسر بالمأخوذة من الشرع وإن حكم به العقل أيضا، ويشكل بخروج القسم الأول عنه.
وقد تفسر أيضا بما من شأنه أن يؤخذ من الشارع، فلا مانع من استقلال العقل في الحكم ببعضها وانفراده في ذلك من دون انضمام بيان الشارع.
وفيه: أنه غير جامع أيضا، لخروج بعض الأحكام الشرعية عنه، كوجوب الحكم بوجود الصانع والحكم بثبوت الرسول والحكم بوجوب النظر في المعجزة، إذ ليس من شأن الأحكام المذكورة الأخذ من الشارع، فإن إثبات وجوبها بقول الرسول إنما يكون بعد ثبوت كونه رسولا، ولا معنى حينئذ لوجوب شئ من الأمور المذكورة، لحصولها بعد ثبوت الرسالة، فلا يعقل وجوب إثبات الرسالة بعد حصوله، وكذا وجوب إثبات الصانع والنظر في المعجزة لحصولهما حينئذ أيضا من جهة توقف إثبات الرسالة عليهما، إلا أن يمنع كونها أحكاما شرعية، أو يفصل بين الحكم بها قبل إثبات النبي وبعده، وهو على إطلاقه أيضا مشكل، على أن تسميته حكما شرعيا بعد العلم بحكم الشارع به لا يجعل التصديق به مأخوذا من الشارع، لحصوله قبل العلم بحكمه، مضافا إلى أن كون الحكم شرعيا غير العلم بكونه كذلك، فغاية الأمر أن يتوقف العلم به عليه.
والمراد ب " الفرعية " ما يتعلق بفروع الدين في مقابلة الأصولين، أعني:
أصول الدين وأصول الفقه.
وقد تفسر بما يتعلق بالعمل بلا واسطة.
ويشكل بخروج كثير من مسائل الفقه عنه، كمسائل الميراث وبعض مباحث (1) النجاسات، لعدم تعلقها بالعمل بلا واسطة. ودخول ما ليس من الفقه فيه، كوجوب رجوع المقلد إلى المجتهد وصحة عمل المجتهد برأيه ووجوب تسليم العقائد الدينية والإذعان بها، فإنه مما يتوقف عليه حصول الاسلام، إذ مجرد العلم بتلك المعتقدات ليس كافيا في حصوله من دون حصول التسليم والانقياد،
صفحه ۶۰
والأولان من مسائل أصول الفقه، والأخير يتعلق بأصول الدين.
ولو دفع ذلك بالبناء على تخصيص العمل بأعمال الجوارح فمع عدم اخراجه لجميع المذكورات يستلزم خروج كثير من مسائل الفقه، كمباحث النيات وسائر الأحكام الثابتة لأعمال القلب: كحرمة الحسد أو كراهته وحرمة بغض المؤمن أو كراهته واستحباب التفكر والتذكر ووجوب الحب في الله والبغض في الله، إلى غير ذلك مما لا يحصى.
فالأظهر في المقام إحالة التسمية إلى العرف، فإن مسائل أصول الدين وأصول الفقه معروفة بحسب الاصطلاح، فالمراد بالفرعية سائر الأحكام الشرعية مما لا يندرج في شئ من الأمرين حسبما ذكرنا.
قوله : * (عن أدلتها... الخ) * إما متعلق بالعلم، أو بالأحكام، أو بعامل مقدر من أفعال العموم أو الخصوص يقدر صفة للعلم أو الأحكام. ولو أخذنا الأحكام بمعنى النسب التامة أو ما يعم الأحكام التكليفية والوضعية لم يرتبط الأدلة بها إلا مع تعلقها بمقدر مخصوص يقدر صفة لها، كأن يراد المستنبطة أو المعلومة عن أدلتها، وإضافتها إلى الضمير جنسية، فالمراد بها جنس الأدلة، فلا يعتبر فيها الاستغراق، ويشهد له سوق الكلام بحسب المقام.
وقد يحمل ذلك على الاستغراق ويجعل مقابلته بالأحكام من مقابلة الجمع بالجمع حتى يصح إرادته في المقام، وذلك بأن يراد كون شمول تعلق العلم بالأحكام عن جميع الأدلة، لا كون العلم بكل واحد واحد منها عن كل واحد واحد من الأدلة كما هو الظاهر من الحد، أو يراد بالعموم في الجمعين العموم المجموعي.
ولا يذهب عليك بعد الوجهين، مضافا إلى أن ذلك غير حاصل في الخارج ولا مأخوذ في صدق الفقه.
ولو حمل ذلك على إرادة العموم بحسب أنواع الأدلة ففيه - مع خروجه عن
صفحه ۶۱
ظاهر الاستغراق - أنه غير معتبر في صدق الفقه أيضا، كما لا يخفى.
والمراد ب " التفصيلية " ما يفيد ثبوت الحكم على جهة التفصيل وإن كان ما يستند إليه من الأدلة من جنس واحد، كما إذا فرض استنباط جميع الأحكام عن السنة، كما قد يفرض بالنسبة إلى بعض أصحاب الأئمة (عليهم السلام).
ويقابلها الأدلة الإجمالية، وهي ما لا يفيد الحكم إلا من جهة إجمالية جارية في الجميع، فإن المقلد إنما يعلم الحكم من فتوى المجتهد من جهة كون حكمه حجة عليه بحسب ظاهر التكليف، لا من جهة كون ذلك هو حكم المسألة في نفسها، وليس الدليل القائم عنده إلا مفيدا لتلك الأحكام من تلك الجهة الواحدة، فهو إنما يعلم الأحكام من تلك الجهة الإجمالية الجارية في الجميع، وهذا بخلاف ما إذا أخذ الأحكام كلها من الإمام (عليه السلام) فإن قوله (عليه السلام) مثبت للحكم في نفسه، وكذا الكلام في الكتاب والإجماع ودليل العقل. وفيه تأمل.
وقد يفسر التفصيلية بما يكون ذات وجوه وشعب كما هو الحال في أدلة المجتهد. وفيه أيضا كلام يأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.
قوله: * (فخرج بالتقييد بالأحكام العلم بالذوات) * هذا إذا فسر العلم بمطلق الإدراك، وأما إذا اخذ بمعنى التصديق فالعلم بالذوات بمعنى تصورها - كما هو ظاهر العبارة - خارج عن الجنس.
قوله: * (وبالصفات ككرمه وشجاعته... الخ) * الظاهر أنه أراد به تصور تلك الصفات والأفعال كما يومئ إليه عطفها على الذوات، وإن أراد به انتساب تلك الصفات أو الأفعال إليه - كما قد يومئ إليه إضافتها إلى الضمير المشعر بملاحظة الانتساب - فخروجها بقيد الأحكام غير ظاهر، إلا بحملها على المعنى المصطلح، وقد عرفت أنه يكون قيد الشرعية حينئذ توضيحيا، فلا وجه للحكم بخروج العقلية بالتقييد بها إلا مع البناء على الوجه المتقدم.
وقد يورد في المقام: أنه كما يخرج المذكورات من جهة التقييد بالأحكام كذا يخرج به العلم بالموضوعات الشرعية كالصلاة والزكاة والحج والوضوء
صفحه ۶۲
والغسل ونحوها، مع أن بيانها من شأن الفقيه والمعرفة بها إنما تحصل في الفقه، فلا ينعكس الحد.
ويدفعه: أن الحكم بأن الصلاة كذا والصوم كذا - مثلا - أحكام شرعية وضعية مقررة من صاحب الشريعة، إذ لا ينحصر الأحكام الوضعية في عدد، فلا مخرج لها عن الحد. وكونها موضوعات لمسائل الفن إنما يقضي بخروج تصوراتها عن الفن وهو كذلك، لوضوح خروج التصورات عن مسائل الفنون.
ومع الغض عن التفصيل المذكور فلا مانع من التزام خروجها عن الفقه، لوضوح كون تصور الموضوع وأجزائه وجزئياته خارجا عن مسائل الفنون وكذا التصديق التابع لها. وكون العلم بها في الفقه وبيانها من شأن الفقيه لا يقضي باندراجها في مسائل الفقه، كما هو الحال في تصور جزئيات الموضوعات في سائر الفنون، فإن العلم بها غالبا إنما يكون في تلك الفنون المدونة وبيانها من شأن أربابها مع خروجها عن الفن.
هذا، وقد يقال: إن قيد الاحتراز في الحد لابد أن يكون محتاجا إليه بحيث لو لم يكن لدخل ما احترز به عنه، وليس الحال كذلك في التقييد بالأحكام بالنسبة إلى اخراج الأمور المذكورة، لخروجها بالتقييد بالشرعية الفرعية، فالأولى أن يجعل التقييد بالأحكام لإخراج الموضوعات الشرعية حسب ما ذكر، وكذا صفاتها كصلاة الظهر والنكاح الدائم والطلاق الرجعي ونحوها، لعدم خروجها بقيد الشرعية الفرعية، فهي إنما تخرج بالتقييد بالأحكام، كذا يستفاد من كلام بعض الأفاضل.
وأنت خبير بما فيه، لوضوح أن المعتبر في القيود الاحترازية عدم إغناء الأول عن الأخير دون العكس، فلا غضاضة فيما ذكره المصنف (رحمه الله) أصلا.
نعم، قد يقال: إنه لا وجه لتخصيص المخرج بالأحكام بما ذكره.
وفيه: أنه لا دلالة في كلامه على التخصيص، غاية الأمر أنه نص على المذكورات، لوضوحها دون غيرها.
صفحه ۶۳
قوله: * (كالعقلية المحضة) * كأنه قيدها بالمحضة إشارة إلى اندراج غير المحضة في الشرعية مما يحكم به كل من العقل والشرع استقلالا، أو يدركه العقل بضميمة الشرع كوجوب مقدمة الواجب، وكأنه أخذ الشرعية بأحد الوجهين المذكورين. وقد عرفت ما فيه.
وإن فسرت بما ذكرناه خرج بها العقليات التي لا ارتباط لها بالشريعة سواء اخذت عن محض العقل أو النقل أو العقل المعتضد بالنقل، ويمكن تطبيق كلامه على ذلك.
قوله: * (الأصولية) * سواء كانت من أصول الدين وما يتبعها من الأمور المتعلقة بالمبدأ والمعاد وغيرها، أو من أصول الفقه.
قوله: * (وبقولنا: عن أدلتها علم الله (1)... إلخ) * إذ ليس علمه تعالى بالأشياء حاصلا بطريق النظر والاستدلال والانتقال من المبادئ إلى المطالب، وكذا علوم الملائكة والأنبياء (عليهم السلام).
ونحوها علوم الأئمة (عليهم السلام) فإن علومهم ضرورية حاصلة من أسباب باعثة عليه قد ذكر عدة منها في الأخبار (2). وليس قول جبرئيل أو سائر الملائكة للنبي أو الإمام (عليهما السلام) بمنزلة قول النبي أو الإمام (عليهما السلام) بالنسبة إلينا، إذ إفادة كلامهم للعلم لنا إنما يكون على سبيل النظر والاستدلال وملاحظة عصمتهم عن الكذب والسهو [والنسيان] (3) وليس كذلك الحال بالنسبة إليهم صلوات الله عليهم، بل إنما يستفيد
صفحه ۶۴
النبي (صلى الله عليه وآله) من الوحي علما ضروريا بالحكم، وكذا الإمام (عليه السلام) من قول الملك والإلهام أو غيرهما من وجوه العلم على نحو ما يحصل لنا العلم الضروري بالفطريات، وكذا ما يستفيده الوصي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو الأوصياء بعضهم من بعض بطريق الوراثة.
وعلم الأئمة (عليهم السلام) بالكتاب والسنة وضروب الاستدلال على النحو الحاصل لنا لا يوجب صدق كون علومهم حاصلة عن النظر، إذ مع حصول الوجه الأوضح في العلم إنما ينسب العلم إليه، فالدليل والمدلول عندهم بمرتبة واحدة في المعلومية، وإن كان لو فرض انتفاء تلك الضرورة اكتفي بمعرفة الأدلة في الانتقال إلى مدلولاتها، فلا يصدق حينئذ كون علومهم حاصلة عن الأدلة.
وقد يورد في المقام بعدم خروج العلوم المذكورة بذلك، إذ يصدق على علمه تعالى وعلوم المعصومين (عليهم السلام) أنه علم بالأحكام الحاصلة عن الأدلة، ولو كان حصولها عنها عند المجتهد، إذ ليس في الحد ما يفيد كون ذلك العلم بخصوصه مستفادا عن الأدلة.
وأجيب عنه تارة بجعل الظرف من متعلقات العلم دون الأحكام، وعدم صدقه على العلوم المذكورة حينئذ ظاهر.
وفيه: أن قيام الاحتمال كاف في الإيراد، إذ ليس في الحد ما يقضي بإرجاع الظرف إلى العلم.
ويدفعه: أن المأخوذ من الدليل إنما هو التصديق، فذلك شاهد على ارتباط الظرف بالعلم، وارتباطه بالأحكام وإن صح أيضا إلا أنه يتوقف على إضمار مقدر خاص، وهو خلاف الظاهر.
نعم، لو اخذ الأحكام بمعنى التصديقات ارتبط الظرف بها ولا إيراد أيضا، إذ ليست التصديقات الحاصلة للمذكورين عن الأدلة، مضافا إلى أنه لابد حينئذ من أخذ العلم بمعنى الملكة كما عرفت، فلا يندرج علمه تعالى في الجنس. وقد يقال بمثله أيضا في علوم بعض المذكورين.
صفحه ۶۵
وتارة باعتبار الحيثية في المقام، فيكون المراد العلم بالأحكام المستنبطة عن الأدلة من حيث إنها مستنبطة عنها، فيخرج العلوم المذكورة، فإنه وإن صدق عليها أنها علم بالأحكام المستنبطة عن الأدلة إلا أنها ليست علما بها من تلك الحيثية، كذا ذكره بعض الأفاضل.
وفيه: أن الحيثية المذكورة إن ارتبطت بالعلم تم ما ذكر من الجواب. وأما إن ارتبطت بالأحكام فلا، إذ يصدق على علمه تعالى أنه علم بالأحكام المستنبطة عند المجتهدين عن الأدلة من حيث إن تلك الأحكام مستنبطة عند المجتهد كذلك، وكذا علوم الملائكة والأنبياء والأئمة (عليهم السلام) إذا علموا بعلم المجتهد بها عن الأدلة، لصدق الحد المذكور على علومهم حينئذ مع تلك الحيثية، ومن البين أن الحيثية المذكورة إنما ترتبط بما اخذت قيدا فيه، والمفروض اعتبارها في ارتباط الأحكام بالأدلة فيتعين الوجه الأخير.
ولو فرض جواز ارتباطه بالعلم أيضا فلا أقل من قيام الاحتمال القاضي في الحد بالإجمال.
ثم إنه ذكر الفاضل المذكور أنه يمكن اخراج الضروريات عن الحد بالقيد المذكور، إذ ليس العلم الحاصل معها علما محصلا من الدليل وإن كانت تلك الضرورة علة لتلك العلوم في نفس الأمر.
قلت: ويرد عليه: أن ضروريات الدين ونحوها ليست من الأمور المعلومة على سبيل الضرورة ليمكن اخراجها بالقيد المذكور، إذ غاية ما تقضي به الضرورة ثبوتها كذلك عن صاحب الشريعة، نظرا إلى التواتر أو من جهة التسامع والتظافر، لا ثبوت الحكم بحسب الواقع، إذ ثبوتها الواقعي موقوف على صدق النبي (صلى الله عليه وآله) المتوقف على البيان وإقامة البرهان، فالظاهر أن ما ذكره مبني على اشتباه ضروريات الدين بسائر الضروريات، وبينهما من البين البين ما لا يخفى، إذ ليس المقصود من ضروريات الدين ما يكون ثبوت الحكم وصحته على سبيل الضرورة كما هو الحال في سائر الضروريات، بل المقصود ثبوتها من الدين على سبيل
صفحه ۶۶
الضرورة، فيتوقف ثبوتها الواقعي على صحة الدين بحسب الواقع، ولذا زاد في التهذيب وغيره لإخراج ضروريات الدين قيدا آخر، وهو أن لا يعلم ثبوتها من الدين ضرورة.
ثم أقول: الظاهر أن الفقه بحسب مصطلحهم اسم للعلم بالمسائل التي لا يكون ثبوتها عن صاحب الشريعة من الضروريات عند الأمة، سواء كان ثبوتها عنه ضروريا عند ذلك العالم أو لا، إذ من البين أن الراوي الذي سمع الحكم مشافهة من النبي (صلى الله عليه وآله) يكون ثبوته عن صاحب الشريعة ضروريا عنده مع أن علمه من الفقه قطعا، وكذا الحال في ضروريات المذهب دون الدين، سيما ما كان من ضروريات المذهب عند العلماء خاصة أو بلغ في الوضوح عند الناظر إلى حد الضرورة، فإن الظاهر إدراج الجميع في الفقه، فإخراج مطلق الضروريات ليس على ما ينبغي، وإنما حكمنا بخروج ضروريات الدين، لتصريح جماعة منهم بذلك مع مساعدة ظاهر الإطلاقات المؤيد ببعض الاعتبارات، كما سنشير إليه.
وما ذهب إليه بعض الأفاضل تبعا لما حكاه عن الأخباريين: من إدراجها أيضا في الفقه محتجا بأن البداهة والضرورة لو أخرجتا بعض الأحكام عن الفقه للزم أن يكون ضروريات المذهب كذلك أيضا وهم لا يقولون به - مع أن كثيرا من ضروريات الدين والمذهب إنما صار ضروريا في أواسط الاسلام بعد إقامة الدلائل وتظافر الخواطر من المجتهدين والمحدثين من أهل مذهب الاسلام حتى انتهى الأمر في هذه الأعصار وما قبلها فصارت ضرورية - فاسد، إذ بعد نص جماعة من أعاظم أهل الاصطلاح على خروجها عن المصطلح لا يتجه المناقشة فيه، سيما بعد مساعدة ما هو الشائع من إطلاقاتهم عليه.
ودعوى كون ذلك من المعاني الشرعية المأخوذة عن صاحب الشريعة ممنوعة، كما تقدمت الإشارة إليه.
والقول بلزوم اخراج سائر الضروريات لا وجه له، إذ ليس مجرد ثبوته على سبيل الضرورة عند العالم به قاضيا بذلك، كيف! ولو كان كذلك لزم أن لا يكون من
صفحه ۶۷
تعلم المسألة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) على سبيل المشافهة عالما بالفقه، وهو واضح الفساد كما أشرنا إليه، بل لما كان المقصود في الفقه بيان الأحكام التي قررها صاحب الشريعة وكان ثبوت بعض تلك الأحكام عنه معلوما عند الخواص والعوام من دون حاجة في إثباته إلى البيان وإقامة البرهان بل كان العالم والعامي في معرفته سيان أخرجوه عن مسمى الفقه، إذ لا حاجة في إثباته إلى الاستدلال، بخلاف سائر الضروريات، لحصول الحاجة في إثباتها إلى الدليل ولو بالنسبة إلى البعض، فثبوت تلك المسائل عن صاحب الشريعة نظرية في الجملة، بخلاف هذه.
ولما كان المنظور في علم الفقه إثبات الأحكام المقررة عن صاحب الشريعة من حيث تقررها عنه وإن كان ثبوتها الواقعي واعتقاد صحتها موقوفا على صحة الشريعة، ولذا عد الكلام من مبادئه التصديقية - كما سيجئ الإشارة إليه إن شاء الله تعالى - كان اخراج الضروريات المذكورة مناسبا، إذ ليست مسائل الفنون المدونة إلا عبارة عن المطالب النظرية المثبتة فيها دون الأحكام الضرورية، فكما أن الضروريات خارجة عن مسائل سائر الفنون المدونة فكذا هذا العلم.
وبذلك يظهر ضعف ما حكاه الفاضل المذكور عن الأخباريين في الرد على المجتهدين من أن ما ذكروه إنما يتم على طريقة الحكماء والمتكلمين، حيث إن تدوين المسائل البديهية في باب التعليم والتعلم غير مستحسن، والفقهاء ظنوا أن ذلك الباعث جار هنا، وليس كذلك، لأنه ليس شئ من الأحكام الشرعية بديهيا بمعنى أنه لا يحتاج إلى الدليل، والسبب في ذلك أنها كلها محتاجة إلى السماع من صاحب الشريعة، ووضوح الدليل لا يستلزم بداهة المدعى، وذلك لما عرفت من أن المقصد في الفقه إنما هو إثبات الأحكام عن صاحب الشريعة، ولما كان ورود بعض الأحكام عنه ضروريا عند الأمة كان بمنزلة سائر الضروريات المخرجة عن سائر العلوم، إذ لا حاجة في إثباتها عن صاحب الشريعة إلى إقامة حجة. فما توهموه من الفرق بين المقامين غير متجه، وبلوغ بعضها إلى حد الضرورة المذكورة في أواسط الاسلام لا يمنع منه، إذ لا مانع من خروجه بعد ذلك عن الفقه
صفحه ۶۸