ويا ليت قومنا يفكرون بما تجره عليهم كلمة نعم قبل أن يطلقوا سراحها، لأنها وإن تكن في أول عهدها أسيرة سجن الفم، فلا تعتم أن تصير حاكمة على الكريم، إن رقد في الظلام تخيلها مسطرة بأحرف نارية على حيطان غرفته، وتزداد كبرا متهددة تلك الغرفة بالاحتراق إذا لم يطفها بماء الوفاء. وخير الناس من أنجز وعده ولم يترك لأحد مجالا ليردد على مسامعه: أنا الغني وأموالي المواعيد.
كان القدماء يقولون: وعدناه فلا بد من الوفاء. أما اليوم فيقال: قذفناه.
نعم يا سيدي قذفته، أحسن الله حاله، ولقاك المخلفين الكذابين ليأخذوا بثأره منك. ألا تعلم ما قيل: وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتعليل، فكيف رضيت أن تكون لئيما؟! ألم تسمع أيضا: العذر الجميل خير من المطل الطويل؟ فلماذا لم تعتذر؟
التقيت برجل من أبطال المعارك الانتخابية، وزعماء السياسة القروية، فسألته عن ابنه تلميذي ماذا يعمل، فابتسم وقال: (موعودين) وتكرر لقاؤنا وكررنا السؤال فظل الجواب كما كان، وقد شب الفتى وشاب، ولم يدخل الكتاب ليجلس على كرسي موسى.
عثمان ومعاوية وأبو ذر
وفي الماضي لمن بقي اعتبار. هكذا قال أبو الطيب، وما أجمل ما رواه المخزومي عن الأفغاني، عن السلف الصالح، هدانا الله إلى سواء سبيله، قال:
أتت عمر بن الخطاب الأنباء ممن أقامه (رقيبا) على سير وسيرة عماله بأن عامل مصر - عمرو بن العاص - وعامل دمشق - معاوية بن أبي سفيان - قد بدا عليهما البذخ والثراء، وهما الخادمان للجموع، وأنهما يصرفان سلطان الحكم ونفوذه بغير وجوه الحق. فخاف الفاروق أن ينفر المسلمون من حكامهم، فأسرع لسد ذلك الخلل فكتب إلى ابن العاص غاضبا:
إلى العاصي ابن العاصي. ما أقطعتك مصر طعمة لك ولقومك، ومتى كان ابن العاص في مثل ما بلغني عنه من ثراء ودور وقصور؟!
وبمثل هذا الكلام الخشن خاطب معاوية مهددا. ثم لم يكتف بما كتب، ولم يسأل: من أين لكما هذا، لأن هذه العبارة لم تكن رائجة في تلك الأيام، بل أرسل معتمدا من قبله، وأمره أن يشاطر كل عامل مقتناه من ثروة ومتاع. ففعل المعتمد ما أمره به سيده. حتى إنه أخذ فردة نعل ابن العاص وترك له الأخرى.
وآلت الخلافة إلى عثمان بن عفان، فتغيرت الحالة الروحية في الأمة تغييرا محسوسا، فبطر العمال والأمراء، وأثرى ذوو القربى من الخليفة. وقصر (المجاهدون)، مع جريهم وسعيهم وراء تدارك معاشهم عن اللحاق بالمنتمين إلى رجال الدولة القابضين على مفاتيح بيت المال، فتكونت من جراء ذلك طبقة أخذت تتحسس بشيء من الظلم، وتتحفز للمطالبة بالحق المأكول.
صفحه نامشخص