وسعل سعلة رنانة لفتت إلينا الأنظار ولكنه لم يبال وقال: النائب حاكم إقطاعي، يده مطلقة في المنطقة، وإذا مد نائب آخر، أو موظف - مهما كبر - يده إليها يقطعها من الكوع، وإذا الحكومة فكرت بذلك هددها بسحب ثقته الغالية، الحكومة معرضة للهزات كل يوم. أما النائب فيفعل ما يريد في ظل الحصانة. فيد القضاء قصيرة عنه، وبعد انقضاء المدة يربح مدة جديدة. ينصر حزبه فيكون لهم الغنم ولغيرهم الغرم. وإذا كان داهية يربح قسما من خصومه ومعارضيه. وكما نحرك نحن اليوم يحرك هو بعد حين، ولا حركة بلا بركة. - تفضل اشرب. بردت قهوتك.
قال هذا وأخذ يحتسي فنجانه على مهل، وعيناه شائحتان في المدى الأبعد كأنه يجمع ما عنده بعد، وكأنه أفاق فانتفض وقال: إيه. عظيمة النيابة عندنا. كلها منافع مثل زيت الغار.
فضحكت وقلت له: يا مضروب، تعرف كل الأمثال.
فقال: لا تقاطعني. ماذا قلنا. إيه. عظيمة النيابة؟؟ تقف الناس على أبوابك وينتظرون في الدار ساعات حتى يصبحوا جنابك ويمشوا في ركابك. وإن وفق الله وصرت صاحب معال فهناك العلا والعز، تكون مطلق اليد في مقدرات البلاد. الضيعة التي كانت عليك تحرمها من كل المنافع، وتعطي زلمك أين كانوا، لأن الذي له يعطي ويزاد ومن ليس له يؤخذ منه الذي له، وهكذا تدحش مؤيديك، وتكحش معارضيك. وإذا لم تقدر على العزل تستطيع النقل والنفي والإبعاد.
تزود أنصارك ببطاقات التوصية إلى كل مكان، أما الذين لا تثق بهم فلهم البكاء وصريف الأسنان. ترقي من تشاء وتحمي من تريد. أنت والحكومة (خوش بوش) حك لي أحك لك. تمنع من تشاء وتعطي من مال الدولة ومنافعها من تشاء.
وإذا مشيت بين أعوانك فأي ديك حبش يضاهيك، تسلح الجذعان ليمشوا خلفك وقدامك، وإذا شئت أن تركب فما عليك إلا أن تزور أقرب قرية من مقاطعتك فتركب حميرا بلا براذع.
والتفت إلي ليقول لي: وتسألني بعد هذا عن وجود المرشحين، وعن طلائع موسم الانتخابات. مقبلة جدا إن شاء الله.
ونهض فجأة كالمجنون وركض فاجتاح الكراسي في طريقه، والتفت فرأيته يسلم على أحد الزعماء. ومشى معه فدفعت أنا ثمن القهوة، ومشيت.
وما خطوت خطوات حتى التقيت بقرين له فقال لي: رأيتك قاعدا مع فلان. أتصدق هذا الكذاب؟! لم يترك بابا إلا شقه في هذين اليومين. نحن نحكي الصحيح وهو يكذب. ومع ذلك أسهمه مرتفعة أكثر من أسهمنا. الناس لا يصدقون إلا من يكذب عليهم.
وعاد الرجل بعدما ماشى الزعيم مسافة، ودعاني أيضا إلى الجلوس ليتم ما بدأ به من دراسة النيابة وتحليلها فقلت له: مشغول يا صاحبي.
صفحه نامشخص