وأنا عتبي على ربي
اللي ما خلقني مثل أم حنا
فهل نعجب بعد هذا إذا رأينا حركة سير الدولة لا تتعرقل إلا عند التعيينات والمناقلات. فالتوظيف قوام الدولة عندنا. أقول الدولة وأعني ما أقول، فلم يقر لنا وطن بعد. وهل نعجب إذا رأينا هذا التهافت على الوظائف؟ تصور أن واحدا خفيف العقل قعد مرة قدامي في إحدى الحفلات، وشاء أن يعتذر عن تصدره فقال: لا تؤاخذني. بحكم الوظيفة.
ويا ليتك تعرف ما هو، كاتب صغير، قضى في المدرسة سنوات وظل يكتب أيضا أيظا. ولكن وراءه لحية كالتي وصفها ابن الرومي، استطاعت أن تجلسه على كرسي سيقانها من قصب، فصار (ابن حكومي) كما تقول والدته.
هذه نتفة من ذكرياتي يوم مولدي، وعش رجبا ترى عجبا.
الدنيا واسطة
إنها كلمة تدور على رأس ألسنتنا وهي التي حطمت شخصيتنا وأفقدتنا الاعتماد على أنفسنا، فأفراد العائلة يتوسط بعضهم لبعض. الابن يتوسط لأخته عند أبيه وبالعكس. والأم تلجأ إلى بنيها والأب كذلك، وهكذا دواليك حتى إنه لا يطلب شيء في البيت من مرجعه مباشرة، ولا يذهب أحد إلى الهدف توا.
فكرت في ذلك كثيرا لعلي أهتدي إلى موضع الداء فما وجدت لهذه العلة تعليلا إلا نشأتنا التوكلية. فالوساطة والشفاعة طبيعية في الإنسان، وجدت فيه منذ البدء، منذ خلق الإنسان الآلهة وجعلها من ذوات الاختصاص. فللزرع إله. وللخمر آخر. ولكل غرض من أغراض الحياة قديس وولي حتى الحبل والولادة. ولما صار الله الواحد الأحد فوق الجميع تحول ذاك الاختصاص إلى القديسين والأولياء فصاروا كالأطباء اليوم. هذا للأذن، وذاك للعين، وهذاك للرأس، وغيره للصدر ... إلخ.
لم أجد تعليلا أقرب إلى الحقيقة من هذا. وإلا فلماذا نرانا نلجأ في حل أبسط قضايانا إلى الواسطة؟! فإذا قلت لأحدنا: أنت يا صاحبي صاحب حق، فما حاجتك إلى الواسطة؟ أجابك وهو يأكلك بعينيه: الدنيا واسطة، وإلا فلماذا نصلي إلى الله؟! ولماذا ننذر للقديسين؟ ولماذا نبتهل ونتضرع ونقرع صدورنا؟! ولماذا نوقف أملاكنا في سبيل الله؟! ألسنا نفعل ذلك ابتغاء رضا الله عنا وإدخالنا جنته ونعيمه؟ وإذا قلت لآخر: ولماذا تقف على الأبواب ما زلت تعرف أنك صاحب جدارة وكفاءة؟ أجابك. إن لمزاحمي يدا قوية. هو ظهره قوي وأنا مقطوع الظهر. فما عساي أنال إذا لم يكن لي شفيع عند أصحاب الحل والعقد؟
أما سمعت بحكاية تلك المرأة؟ أراد أهل الحي الذي تقيم فيه أن يخرجوها منه؛ لأن مقامها رجس عليهم لسوء سيرتها، فطلب القاضي من أهل الحي عريضة موقعة من عشرين أو ثلاثين رجلا ففعلوا. وقبل الجلسة التي كانت في أيام نضج التين هيأت تلك المرأة سلة وعبأتها جاعلة في كل تينة دينارا وحملتها إلى القاضي، ولما لم تقدر على الوصول إليه سلمت السلة إلى الحاجب، فأعجبه تينها فأكل واحدة منها، فإذا بدينار يقع تحت أضراسه فأخذه. وجرب تينة ثانية وثالثة فإذا الأمر كذلك، فتوقف عن الامتحان. أدرك أن تلك المرأة داهية من الدواهي، وراح يحمل الهدية إلى القاضي وأنبأه بسرها الغريب، سر التين المحشو ذهبا.
صفحه نامشخص