أيكون مدرسا وهو يعرف ما كان يكابده أستاذه من الأتعاب وإعمال الفكرة ليبين له غوامض دروسه ناهيك أن الراتب طفيف، ولربما أنه لا يجد مدرسة يدرس بها؛ لأن التدريس صار حرفة من ليس له حرفة، والرواتب كمشاريع الحكومة توضع في المناقصة. وجنابه لا يقنع بالقليل، وأهم من كل ذلك أن بضاعته قليلة وهو غير واثق من نفسه.
أيرضى بعمل عند أحد التجار مدة ليختبره؟ لا. لأن والده أنفق عليه ثروته حتى تعلم هذه العلوم وهو أيضا لا يطيق أن يكون مرءوسا. وإن رضي بتأسيس محل تجاري يعارضه والده وعمه وابن عم أمه زاعمين أن بعض التجار يبيعون الذمة والضمير ويلجئون أخيرا إلى الإفلاس ليأكلوا مال الناس. وقبل وبعد فمن أين له رأس المال؟
أما الوظيفة فقد حاول إدراكها فما أدرك إلا غبارها، إنها كالنعامة ومن أين له خفة الرجل؟ وجد خلف كل كرسي ألفا من أمثاله، وكيف يصل وهو مقطوع الظهر؟ فالخلاصة إذا عزم الشاب على عمل ما يصادف أمامه من المصاعب جبالا فيطرق مدة طويلة دون أن يفتح الله عليه.
أما إذا غضب الله عليه ومال من صغره إلى الشعر والكتابة فهناك النجاح العظيم، وكيل المال المد بالمد. إنه يقضي حياته سابحا في البحر (الطويل) مسترسلا إلى (المجاز المرسل) طامعا بالدر من بحر (الوافر) (هازجا) في أودية النجاح، وإذا أعياه الوزن ففي (الشعر المنثور) نثار الدر والعسجد. وهكذا يعود خائبا؛ لأن مدرسته لا يعنيها النظر إلى شئون الحياة، فما علمته غير النظريات والعصر عصر العمل. ما تعلم غير أدب وبحوث اجتماعية تنأى به عن المهن التي تطعم خبزا. لقد غرست المدرسة في نفسه ما غره منها، فأصبح يرى العمل مهانة تحط من قدر شهادته التي لا يليق بها غير كرسي واسع يترهل عليه.
يدخل الفتيان المدارس وفي نيتهم الهرب من كل حركة يدوية. يرون في الصنائع عارا عظيما إذا لم يكتب لهم النجاح في العلوم، وتطمح أنظارهم إلى المراكز التي ألقيت عهدتها إلى رفاقهم الناجحين، فيقفون عن العمل ويأخذون يقيسون الشوارع عرضا وطولا، يمسون على أمل ويصبحون على فشل، وربك أعلم بالنهاية .
فيا أيها الشاب الغيور إذا كنت تطمع بمركز رفيقك، فلماذا لم تتشبه به أيام كان يسهر ليحصل، وأنت منبطح على (طبقتك) لا تبالي بالدرس خوفا على صحتك الغالية، وعملا بقول المثل (حمار طيب خير من فيلسوف ميت). ألم تتمخض بك أمك المدرسة بضع عشرة سنة نظيره، وإذا بك أنت تولد مسخا ويا للأسف. أما سمعتما شروح معلم واحد فما هذا التفاوت بينكما؟ لقد صدق المثل الإنجيلي بك، فأنت كالعذارى الجاهلات تذهب اليوم إلى العرس ومصباحك لا زيت فيه!
وإن قلت: كان رفيقي ذكيا مجتهدا فنحن نعذرك على هذا، ولكنا نلومك على البطالة، فدونك الصنائع إذ لا بد من أن تجد حرفة توافق ذوقك. ليست الصنائع تحط من شأنك (زادك الله علاء) فكل عمل محلل هو شريف، أما العار (يا صاحبي) ففي البطالة. أما سمعت المثل الذي يردده أبوك وجدك على مسمعك. اشتغل بنحاسة وحاسب البطال.
فلماذا نطمح حيث لا يحمد الطمع، ونقنع حيث تضر القناعة. أتقنع من العلوم بالقشور وتطمع بلباب الرواتب الضخمة، هذا هو الجهل الفاضح ورابع المستحيلات. إنك ترى العمل الصغير محطا من قدرك السامي؛ لأنك تعودت الترف وهذا هو النقص في تربيتنا البيتية. تخلع كل يوم بذلتين، ولكل حصة من النهار عندك ملبوس، وقد صح فيك قول الحريري: ألبس لكل حالة لبوسها. خبرني عن عدد قمصانك وربطات رقبتك، ومناديلك وجواربك، وبوطاتك اللماعة وغير اللماعة.
وهنا فليسمح لي الآباء أن أعنفهم. فهم الذين أوصلوا أولادهم إلى ضيق اليد، أرادوا أن يكبروا نفوسهم بالملبوس، فأضاعوا الفلوس ورموا بهم في هذه الهوة.
لقد عاشوا صغارا مدللين ثم درجوا (مدلوعين مهروقين) وشبوا اتكاليين وعاشوا في ظلنا منعمين.
صفحه نامشخص