يظل على سريره لدقائق، يرمق السقف في شرود وهو يفكر في أحداث اليوم السابق. وهي عادته في السنوات الثلاث الأخيرة التي ظل فيها يعمل مساعدا في إحدى حافلات النقل العام.
والدته تعرف زوجة «الجلابي» صاحب الحافلة شخصيا، وقد توسطت له عندها؛ حتى يستطيع الحصول على الوظيفة. فبعد أن توفي والده، اضطر لترك المدرسة والعمل للمساعدة في نفقات البيت، ومصروفات دراسة أخته الصغرى.
يرمق مروحة السقف العتيقة التي تدور في إنهاك، وإصدار صوت صرير مزعج، (تحتاج بعض الزيت)، يفكر في نفسه.
لا بد أن يتذكر أن يشتري بعضا منه في أقرب فرصة.
بالأمس كان ذلك الراكب الذي افتعل مشاجرة معهما، واتهمهما بالجشع وفراغ العين؛ لأن «عم عبد الله» ظل يماطل في التحرك من المحطة حتى تمتلئ الحافلة، ثم ابتدأت نوبة من النقاش المحموم بين ركاب الحافلة الذين راحوا يؤكدون أن كل سائقي الحافلات جشعون فارغو العين، ويتحسرون على ذلك الزمن الجميل الذي ولى، عندما لم يكن سائقو الحافلات جشعين إلى هذا الحد.
انبرى أحد الركاب، وقال في ذكاء واضح: «زمن نميري الناس كان عندها ضمير.»
هز الجميع الرءوس استحسانا، ثم تحول النقاش إلى «زمن نميري».
هناك شاب نحيل متعرق، يحاول بمرفق يده ملامسة صدر الفتاة التي تجلس بجانبه، ويتظاهر بأنه لا يفعل، وقد ارتسمت على وجهه كل آيات البراءة والنقاء وصلاح القديسين.
هناك طالب جامعي يضع سماعات الهاتف المحمول في أذنيه، وظل طوال الرحلة يعبث في شعره بأصابعه، وينظر عبر النافذة في شرود هائما في ملكوت الله.
هناك شخص يتحدث عبر الهاتف المحمول بصوت جهوري، ويحكي أدق تفاصيله الشخصية أمام بقية الركاب الذين يرهفون السمع في استمتاع واضح.
صفحه نامشخص