إن هيجل لم ينظر إلى الوضع القائم، في أي مجال، على أنه وضع يمكن أن يستقر ويدوم، مهما بدا لأول وهلة متمشيا مع العقل؛ فأي وضع لا بد أن ينظر إليه في ضوء ما فيه من إمكانات لم تتحقق بعد، والاكتفاء بالحالة الراهنة يعني خنق هذه الإمكانات وهي لم تزل في مهدها، وحرمانها من أية فرصة لرؤية النور. ومن هنا كانت مهمة العقل الرئيسية هي إدراك ما هو ممكن من خلال ما هو موجود؛ أعني أن يلمح فيما هو متحقق فعلا إمكانات أخرى أوسع وأرحب يمكنها بدورها أن تتحقق. وتلك هي السمة التي تتميز بها قدرة العقل؛ فهو وحده الذي يستطيع أن يدرك الممكنات، واحتمالات التطور، في كل وضع قائم، وهو وحده الذي يمكنه أن يتجاوز حالة الأشياء الراهنة في الوقت الذي لا يكون فيه أمامنا سواها.
وهكذا يبدو العقل الهيجلي - في نظر ماركيوز - قوة ثورية في المحل الأول. إنه سعي لا يتوقف إلى الحركة والدينامية، ونزوع لا يكل إلى التجاوز والعلو وإن لم يكن ذلك علوا منقطع الصلة بما يعلو عليه، وإنما هو علو مستمد من قلب ما هو موجود، وتجاوز منتزع من باطن الوضع القائم. وذلك بعينه هو الشرط الأول للثورة؛ أعني وجود القدرة على إدراك وضع جديد ممكن داخل الوضع الراهن الموجود. فلم يكن من المستغرب إذن أن يربط ماركيوز مفهوم العقل، عند هيجل، بمفهوم الثورة، ويرى في مثالية هيجل - على عكس كثير من التفسيرات الشائعة - أداة لا غناء عنها في يد القوى الثورية التي ظهرت منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا. فعلى يد هيجل أصبح العقل - بصورة صريحة واضحة لأول مرة - أداة في يد قوى التغيير، بعد أن ظل منذ العصور القديمة قوة تنزع بطبيعتها إلى المحافظة وتنحو نحو الاستقرار وتتجه إلى تثبيت كل وضع قائم، وربما إعادة أوضاع كانت قائمة في عهود سالفة (كما هي الحال عند أفلاطون). صحيح إن هذا الاتجاه إلى استخدام العقل أداة للتغيير قد بدأت بوادره في الظهور منذ أوائل العصر الحديث، حين عمدت البورجوازية الصاعدة إلى إعلاء شأن العقل من أجل تأكيد مكانة الإنسان في هذا العالم، وإقرار دوره في تشكيل الطبيعة والتسيد عليها. ولكن هذا الاتجاه بأكمله قد غرق في خضم المثاليات التقليدية المتعددة التي لم تستطع أن تدرك الدلالة الحقيقية لسيادة العقل على العالم، وجعلت من هذه السيادة وسيلة لتجاهل الواقع والاكتفاء ببحث مطالب العقل وشروطه. وكان هيجل هو أول من أقام فلسفة كاملة، مترامية الأطراف، على أساس مبدأ دينامية العقل وقدرته على تجديد ذاته، وتجديد العالم معه، بلا انقطاع. وقد شيد هيجل هذه الفلسفة على أساس من المنطق أراد به أن يرسي دعائم نظريته الجديدة إلى العقل، فوضع منطقه الجدلي في مقابل المنطق الشكلي الأرسطي، أو على الأصح جعل من ذلك المنطق الأخير مجرد لحظة من لحظات بناء منطقي أوسع يضمن للفكر حركته من ناحية، ويزيل، من ناحية أخرى، ما بين عالم الصورة والشكل وعالم التجربة والواقع من حواجز.
وهكذا قدم ماركيوز تفسيرا جديدا لهيجل، لا يعود فيه هيجل آخر الفلاسفة التقليديين الكبار فحسب، ولا يعود فيه مذهبه آخر بناء عقلي شامخ شيدته الفلسفة الغربية فقط، بل يصبح فيه هيجل أول المعاصرين، ويغدو فيه تفكيره نقطة البداية التي تفرعت عنها مختلف الاتجاهات العقلية والسياسية والاجتماعية - التقدمية منها والرجعية - في عالم اليوم. •••
وعلى هذا النحو ذاته أعاد ماركيوز تفسير الفلسفة الوضعية، في اتجاهاتها المتعددة، على نحو يلقي عليها ضوءا جديدا لم ينتبه إليه من قبله أحد. والواقع أن نظرة ماركيوز إلى الوضعية كانت هي الوجه الآخر، المقابل لنظرته إلى هيجل. فإذا كان هيجل قد استطاع أن يجعل من العقل قوة ثورية بفضل قدرته على السلب والرفض، فإن الوضعية قد جعلت منه قوة محافظة لأنها تصورت أن مهمته الأولى هي تحليل ما هو موجود على ما هو عليه، وقبول الواقع واتخاذ موقفا إيجابيا منه. بل إن اسم الوضعية ذاته يعني، في الوقت نفسه، الإيجابية
؛ أي استبعاد كل اتجاه فكري رافض سالب. وربما اقترب هذا المعنى إلى ذهن قارئ العربية لو ربط بين لفظ «الوضعية» وبين «الوضع» الذي توجد عليه الأشياء في حالتها الراهنة، ومن هنا لم يكن من المستغرب أن تقف الفلسفة الوضعية - بكل أشكالها - موقف العداء من فكر هيجل ومن كل نزعة مستمدة أساسا من روح الهيجلية.
ولقد ركز ماركيوز جهوده، في نقده للوضعية، على وضعية القرن التاسع عشر في كتاب «العقل والثورة»، أما وضعية القرن العشرين، أو الوضعية المعاصرة، فقد وجه إليها نقده في الباب الثاني من كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد». وعلى الرغم من المسافة الزمنية الكبيرة التي تفصل بين نوعي الوضعية هذين، بل تفصل بين كتابي ماركيوز اللذين أشرنا إليهما الآن، فليس من الصعب أن يهتدي القارئ إلى نقاط التقاء كثيرة بينهما تحدد الأساس المشترك للروح الوضعية في نظر ماركيوز.
لقد كان أعظم وأشهر نتاج لوضعية القرن التاسع عشر هو ذلك العلم الجديد الذي رأى فيه «أوجست كونت» خلاصة لكل المعارف البشرية السابقة، وهو علم الاجتماع. وكان هناك ارتباط وثيق بين مفهوم علم الاجتماع، كما تصوره كونت، وبين هدف الفلسفة الوضعية؛ فالمجتمع الإنساني ينبغي أن يدرس بنفس الأساليب الدقيقة المضبوطة التي تدرس بها العلوم الطبيعية. وهذا هدف يبدو في ظاهره مغريا لكل من يحرص على تقدم العلوم الإنسانية؛ إذ إنه يخضع المعرفة التي تتخذ من الإنسان موضوعا لنفس الشروط المنضبطة التي تخضع لها دراسة الطبيعة ويجعل لفكرة القانون الضروري الشامل انطباقا على مجال المجتمع البشري الذي ظل حتى ذلك الحين مستعصيا على كل قانون. ولكن قليلا من التعمق كفيل بأن يكشف، من وراء هذه الغيرة المتحمسة على المضي قدما بدراسة الإنسان، عن سعي خفي إلى الحيلولة دون وقوع أي تغيير ثوري في نظام المجتمع؛ إذ إن المطلوب، في دراستنا للمجتمع، أن نحذو حذو العالم الطبيعي، ومن المعروف أن العالم الطبيعي لا يخترع شيئا ولا يغير الظواهر التي يبحثها، بل يكتفي بتسجيل ما هو موجود منها، وتحليل الطريقة التي تسلك بها هذه الظواهر بالفعل. وهكذا ينبغي أن يكون الحال في أية دراسة «علمية» أو «وضعية» للمجتمع البشري؛ فعلينا أن نحلل الظواهر الموجودة، ونصفها بأكبر قدر من الدقة، على أن يتم ذلك كله في إطار وجودها كأمر واقع لا سبيل إلى الاعتراض عليه. أما محاولات الثورة على هذا الواقع أو تغييره من جذوره، فتوصف بأنها «غير علمية» - وهو وصف لا يعود غريبا ما دام الأنموذج الوحيد للعلم، في نظر الوضعية، هو أنموذج العلم الطبيعي.
ويقدم ماركيوز شواهد أخرى يدلل بها على صحة تحليله هذا للفلسفة الوضعية، ويثبت بها أن دفاع هذه الفلسفة عن الوضع الراهن ومحاربتها لكل دعوة إلى الثورة عليه ليس استنتاج نظري يستخلص من موقفها الفكري العام، وإنما هو اتجاه ظهر واضحا صريحا في كتابات الوضعيين أنفسهم. فهو يجمع عددا من النصوص والاقتباسات التي تدل دلالة واضحة على أن أوجست كونت كان في صميمه مدافعا عن النظام القائم، وكان عدوا لأي اتجاه إلى إدخال تغيير ثوري عليه.
7
ولقد كان ماركيوز بارعا حقا حين جمع هذه الاقتباسات واستطاع أن يهتدي إلى الخيط الجامع بينها، وهو الخيط الذي وصفه بأنه محافظ في أساسه. والحق أنه ليس هناك ما يدعو إلى الاستغراب في أن تجتمع النزعة العلمية الدقيقة والنزعة المحافظة في مركب واحد؛ ذلك لأن كل اتجاه ثوري أصيل كان يقتضي نوعا من الخروج عن معايير الدقة والإحكام، وعن الالتزام الدقيق بالأمر الواقع، فالتخيل وتكوين صورة عن المستقبل لا تستمد كلها من الحاضر، هو عنصر لا غناء عنه في كل محاولة لإدخال تغيير جذري على حياة الناس. وهذا العنصر هو بعينه ما تحاربه الوضعية باسم «العلم».
صفحه نامشخص