وليس معنى ذلك أن ماركيوز لم يحاول أن يقدم صورة إيجابية للعالم الجديد، وإنما معناه أن أقوى العناصر في تفكيره هو العنصر السلبي، وأن إعجاب الشباب به يرجع أساسا إلى دعوته إلى «الرفض الأعظم» الذي يتمشى تماما مع سخطهم على الأوضاع ورغبتهم في تغييرها. أما إلى أي شيء يكون هذا التغيير، فهذا ما لم يفصل ماركيوز الكلام فيه، وما لم يبحثه إلا بطريقة سريعة لا تقدم تحليلا علميا لطريقة الانتقال إلى المجتمع الجديد، ولمراحل هذا الانتقال ووسائله، ولا تزودنا بأي برنامج مفصل لما سيحدث بعد ثورة السلب. (ج) من الطلاب إلى العالم الثالث
على الرغم من أهمية الدور الذي نسبه ماركيوز إلى الشباب، وإلى الطلاب بوجه خاص، في تحريك دفة الأحداث في عالمنا المعاصر، فإنه لم يكن يؤمن بأنهم هم وحدهم القوة القادرة على تحقيق التحول إلى المجتمع الجديد. فإذا كان الطلاب يعيشون على هامش المجتمع الصناعي «في داخله» فإن هناك فئة أخرى تعيش على هامش هذا المجتمع «خارجه»، هي الثوار في العالم الثالث. إنهم بدورهم مضطهدون، هامشيون، لم تلوثهم حياة المجتمعات الصناعية المتقدمة، ولم يلتزموا بعد بقيمها التجارية الانتهازية؛ فالطلبة، بكل ما يقومون به من حركات متمردة، ليسوا هم القوى الثورية ذاتها، كما أن الشباب الثائر على التقاليد، من أمثال الهيبز وغيرهم ليسوا خلفاء البروليتاريا وورثتها في النصف الثاني من القرن العشرين، وإنما هم يكتشفون بسلوكهم عن رفض المجتمع القائم ورفض التمتع بمزايا الوفرة التي يقدمها هذا المجتمع، وكذلك رفض قيمه التجارية وإحلال قيم الحب والجمال محلها. ولذلك فهم بدورهم مظهر مبكر من مظاهر نفي هذا المجتمع، ولكنهم ليسوا هم أنفسهم الثوار. وإنما الثوار هم الجماعات المضطهدة والمطحونة من الأقليات في قلب المجتمع الرأسمالي، وهم قبل هؤلاء وأولئك، جبهات التحرير في بلاد العالم الثالث المتخلفة.
2
ومن السهل أن يدرك المرء سبب اهتمام ماركيوز بالعالم الثالث. ذلك لأن الواقع قد أثبت، مما لا يدع مجالا للشك، أن الهزة الحقيقية التي زعزعت أركان المجتمع الرأسمالي كانت ثورات التحرير التي نشبت في بلاد متخلفة؛ فالتغيير الذي أحدثته ثورة الجزائر في فرنسا، والذي أحدثته ثورة فيتنام في فرنسا أولا ثم في قلب الولايات المتحدة، قلعة الرأسمالية الكبرى في العالم المعاصر، كان تغييرا هائلا لا تزال آثاره تتكشف يوما بعد يوم، حتى في المجالات التي تبدو بعيدة الصلة عن المجال العسكري المباشر. ولم يكن في استطاعة ماركيوز أن يتجاهل هذه الحقيقة الواضحة لكي يتعلق بالحركات الطلابية التي هي، على أحسن الفروض، حركات ذات أثر محدود. وعلى أية حال فلم يكن هناك أدنى تعارض بين الاهتمام بالشباب والاهتمام بالثورات التحررية في العالم الثالث؛ إذ إن الشباب أنفسهم، في البلاد الصناعية المتقدمة، قد تبنوا قضية التحرر وثاروا على نظم الحكم في بلادهم من أجلها؛ أي أن ماركيوز لم يخرج عن نطاق رغبات الشباب حين جعل أمل الإنسانية في التحرر معلقا بثورات المجتمعات المتخلفة.
وهكذا ربط ماركيوز بين حركات الطلاب وثورات العالم الثالث فقال: «ينبغي أن تنجح معارضة الطلاب في أن تجعل من العالم الثالث ومن ممارسته الثورية قاعدتها الجماهيرية الخاصة.» وعبر عن أمله في البلاد المتخلفة بقوله: «إن البلاد المتخلفة هي النفي الإنساني الحي للنظام القائم.» ومن هنا كان أمله يتجه إلى قيام تعاون وتنسيق بين حركات الطلاب والمعارضة في البلاد الرأسمالية من جهة، وبين جماهير الثوار في العالم الثالث من جهة أخرى.
هذا الاهتمام المفاجئ بالعالم الثالث، في كتابات ماركيوز الأخيرة، يدل في نظرنا على أمرين: أولهما أن ماركيوز لم يكن في هذه الناحية من المفكرين الذين يسبقون الأحداث، بل كان يدع الأحداث تسبقه ثم يسير في تيارها. وهو يدل ثانيا على أن احتمال التملق قائم على الدوام في المواقف التي يتخذها، أو ينتقل إليها؛ إذ إن ثوار العالم الثالث، مثل جيفارا وهوشي منه، أصبحوا المعبودين الحقيقيين للشباب في البلاد الرأسمالية، ومن هنا كان على كل من يريد التقرب إلى الشباب أن يمجدهم.
وربما وجد القارئ في هذا الحكم شيئا من الإسراف في إساءة الظن، ولكن واقع الأمر هو أن ماركيوز قد تذكر «العالم الثالث» فجأة بعد طول نسيان، بل بعد تجاهل تام. فتحليلاته كلها كانت تنصب على المجتمع الصناعي المتقدم، الذي يدرج فيه النظام الرأسمالي الغربي والنظام السوفيتي على السواء. وانتقاداته كانت موجهة إلى الإنسان في هذا المجتمع، الذي تهدده أساليب الإدارة والقمع وتطبيق التكنولوجيا الحديثة في التسلط على عقول الناس وأذواقهم. هذا الإنسان هو الذي تتعرض حياته للتسطيح ونفسيته للتزييف نتيجة للتصنيع الشامل.
وعلى الرغم من أن ماركيوز يؤكد أن هذه الأخطار تهدد الإنسان بما هو إنسان، ولا تهدد طبقة بعينها، فإن المعنى الحقيقي لما يقول هو أن الإنسان في مجتمعات متقدمة معينة معرض لأخطار لا يعرفها الإنسان في المجتمعات المتخلفة. ولقد أراد ماركيوز - عمدا - أن يتجاهل هذه المجتمعات المتخلفة تجاهلا شبه تام، مثلما تجاهل أفلاطون الطبقة الثالثة (طبقة الصناع والمشتغلين بالمهن اليدوية والمادية) ولم يجعل لها أي دور في مشروعه، مع أن كلا من ماركيوز وأفلاطون كان يعلم أن الفئة التي تجاهلها هي التي تشكل أغلبية المجتمع.
لقد ظل ماركيوز يفكر في مشكلات المجتمعات الصناعية المتقدمة وحدها، وعندما أدرك أن جميع طرق الإصلاح مسدودة أمام هذه المجتمعات إذا اقتصرت على قواها الخاصة، تذكر العالم الثالث في اللحظة الأخيرة (عندما كان العالم الثالث، ممثلا في فيتنام، قد أثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه يستطيع أن يصمد في وجه العالم الصناعي المتقدم، بل أن يزعزع أركانه من داخله) ولكن هذا الاستدراك الذي أتى على عجل، بدافع الرغبة في ملاحقة تيار الأحداث، إنما يزيد من حدة التناقض في تفكير ماركيوز السياسي؛ ذلك لأن الثورة التي يدعو إليها، والتي يريدها أن تكون ثورة «شاملة»، لا تفهم ولا تقدر إلا في المجتمع الرأسمالي على وجه التخصيص ولا مكان فيها لإنسان العالم الثالث.
إن العلل التي يشكو منها ماركيوز، والأهداف التي يريد أن تقوم الثورة من أجلها، لا تعني شيئا بالنسبة إلى إنسان العالم الثالث، على الرغم من ادعاء ماركيوز أن الثورة ينبغي أن تجتاح العالم كله، وأنها ثورة «إنسانية» لا ثورة محلية أو طبقية. فكل حديث ماركيوز عن الروح الاستهلاكية المفرطة في المجتمع الصناعي المتقدم، وعن الحاجات الزائفة التي يخلقها هذا المجتمع في نفوس أفراده لكي يستطيع تصريف منتجاته، لا بد أن يثير العجب والتساؤل في ذهن إنسان العالم الثالث الذي لا يعرف مجتمعه مشكلة تصريف الإنتاج الفائض، ولا مشكلة تزييف رغبات الناس باستخدام أحدث أساليب الإعلان وفنون الحض والتأثير والإغراء. بل إن مشكلة المجتمع المتخلف هي أنه لا يفي بالحد الأدنى من الحاجات الضرورية، ولا مجال لديه للمفاضلة بين حاجات حقيقية وحاجات زائفة.
صفحه نامشخص