ومثل هذا يصدق على الربط بين استخدام لغة غير اللغة العادية في الشعر، وبين الثورة على الوضع القائم. فليس ثمة علاقة على الإطلاق، في رأينا، بين «اللغة العادية» وبين الأوضاع الراهنة، ومن المستحيل أن يوصف الأديب الذي يقبل التعبير بهذه اللغة العادية بأنه يؤيد النظام القائم لهذا السبب. والواقع أن رفض اللغة العادية هو أمر لا يتيسر إلا لفئة محدودة جدا من الأدباء أو الشعراء ومن القراء الذين يمكنهم فهم لغتهم الجديدة؛ فهو في أساسه ظاهرة أرستقراطية، بينما الثورة بطبيعتها ظاهرة جماهيرية تحتاج إلى وسيلة للتفاهم مع الجموع الغفيرة من البشر. ومن هنا ففي وسعنا أن نقول إن الشاعر عندما يبتدع لنفسه لغة جديدة (قد تكون لها قيمتها الكبرى من الوجهة الجمالية الخالصة) يتخذ موقفا انعزاليا يتنافى، موضوعيا، مع الروح الثورية. وفي استطاعته، لو شاء أن يكون ثوريا بالمعنى الاجتماعي، أن يتخذ موقف الرفض في إطار اللغة اليومية ذاتها، وفي هذه الحالة سيكون رفضه ديالكتيكيا يكتشف عناصر السلب الكامنة في هذا العالم من داخله، على حين أن الرفض القائم على التباعد، وعلى خلق لغة مستقلة، هو رفض غير ديالتيكي.
إن آراء ماركيوز الجمالية ليست مجرد نظرية في الفن تضاف إلى غيرها من النظريات، بل هي تحتل في إطار فلسفته موقعا أهم من ذلك بكثير. إنها في حقيقة الأمر تعبير عن الغاية القصوى التي يتصورها للعالم في عصر ما بعد التكنولوجيا والآلية الذاتية. فالحياة الجمالية الإيروطيقية هي المثل الأعلى للحياة كما يتصوره في مجتمع المستقبل. وإنسان الغد، الذي ستخلصه الإنتاجية اليسيرة والآلية العالية من مشقة العمل المجهد، سيكون في الأساس إنسانا يستمتع بالحب والجمال، ومن أجل هذا الهدف ينبغي أن يثور إنسان اليوم على عالمه الذي لا يقدم إليه الحب ولا الجمال إلا في إطار مبتذل، يخدم أغراض الربح ويحقق للنظام هدف المحافظة على نفسه. ومن هنا فإن فلسفة ماركيوز بأسرها يمكن أن توصف بأنها نزعة جمالية مبالغ فيها
est hétisme
وكل نزعة من هذا النوع لا تستطيع أن تصل، في آخر المدى، إلا إلى تحقيق رمزي للحرية. أما التغيير الفعلي لأوضاع الإنسان فلا يمكن أن يتم على أيدي الرومانتيكيين من أصحاب النزعات الجمالية، وإنما هو، ببساطة، مهمة الثوريين العمليين. فأقصى ما يستطيع الفن أن يفعله هو أن يكون وسيلة للتعبير عن السخط على وضع قائم، والحلم بوضع مرتقب، ولكنه عاجز عن توجيهنا في مجال الواقع الفعلي، وفي ميدان الممارسة السياسية.
والواقع أن الصورة التي يقدمها ماركيوز لعالم المستقبل المرتكز على قيم الحب والجمال متناقضة في أكثر من جانب؛ ذلك لأن اتخاذ قيم الحب والجمال غايات قصوى لكل نشاط إنساني في هذا العالم سيجعل بعض الناس على الأقل، ممن ليست لديهم ميول جمالية، أو ممن لا يكترثون كثيرا بالحب، يعيشون في المجتمع الجديد بلا هدف. وإذا كان من الصعب تصور أشخاص لا يهتمون بالحب (من أن أمثال هؤلاء الأشخاص موجودون بالفعل)، فإن من المشاهد فعلا أن هناك فئة غير قليلة من الناس لا يعني الفن بالنسبة إليها شيئا مذكورا، والأرجح أنه سيكون هناك أشخاص كهؤلاء حتى في المجتمع الذي يوفر لأفراده أعظم قدر من الثقافة الجمالية. ومعنى ذلك أن الهدف الذي يضعه ماركيوز للحياة في المجتمع الجديد لا يمكن أن يكون هدفا شاملا.
ومن جهة أخرى فإن المجتمع الجديد مبني، باعتراف ماركيوز نفسه، على أساس استمرار الاتجاهات الحالية في التقدم التكنولوجي والآلية الذاتية (الأتمتة)، وازدياد هذه الاتجاهات تقدما. على أن في استطاعتنا منذ الآن أن نرى النتائج التي أفضت إليها هذه الاتجاهات في مجال الفن المعاصر، الذي أصبح مغرقا في التجريد، وفي الابتعاد عن إرضاء الحاجات الوجدانية للإنسان؛ لذلك فإن من المتوقع أن تستمر هذه التيارات الفنية في مجتمع المستقبل، وفي هذه الحالة يصعب جدا أن نتصور كيف يمكن أن يكون مثل هذا الفن التجريدي البحت هدفا أسمى لنشاط الإنسان. فهل الموسيقى الإلكترونية مثلا (وهي وليدة العصر الإلكتروني) فن يمكنه أن يسهم في استعادة إنسانية الإنسان؟ وهل هي التي ستلبي حاجاته الجمالية؟ لا جدال في أنه سيظل هناك تناقض حاد بين الأساس المادي لحياة المجتمع، وهو أساس يفترض فيه زيادة التصنيع والتكنولوجيا تقدما، وبين مطلب إرضاء الحاجات الوجدانية والانفعالية الحقيقية للإنسان، وهو المطلب الذي يراد من الفن تحقيقه في مثل هذا المجتمع.
ماركيوز بين واقع الثورة وأحلام الفلسفة
هناك حقيقة أساسية في فكر ماركيوز، أشرنا إليها من قبل إشارات عابرة، ولكن ينبغي أن نضعها نصب أعيننا على الدوام إذا شئنا أن نصدر عليه حكما منصفا، ونضعه في موضعه الصحيح بين مفكري القرن العشرين؛ تلك هي أن ماركيوز كان، في جزء كبير من حياته العملية، أستاذا للفلسفة، وأنه بلور الجزء الأكبر والأهم من أفكاره في الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن. ولا يمكن القول إن تحولا أساسيا قد طرأ على تفكير ماركيوز وانتقل به من أقوال تلقى في قاعات المحاضرات إلى تعاليم يهتدي بها الشباب الثوريون في أنحاء واسعة من العالم. فالأمر الذي يلفت النظر بحق في التطور الفكري لهذا الفيلسوف، هو أنه لم يضطر إلا إلى إدخال تعديلات طفيفة على أفكاره الأساسية التي عرضها قبل فترة الحرب العالمية الثانية، واقتصر على تطبيقها على الظروف المتجددة التي أعقبت هذه الحرب، دون تغيير جذري لها. ومع هذا فإن التفكير، الذي وضعت أسسه قبل فترة تطبيقه الفعلي بما لا يقل عن ربع قرن من الزمان، قد أثبت حيويته ومرونته الفائقة، واستطاع أن يلهم ملايين الشباب كما لو كان صاحبه واحدا من جيلهم، يحس بأحاسيسهم وينطق لغتهم.
على أن هذه الحقيقة الأساسية كان لها تأثير لا يمكن إنكاره في تحديد الطابع العام لتفكير ماركيوز؛ ففي رأينا أن هذا التفكير بالرغم من نجاحه العملي الهائل خلال فترة ثورة الشباب في الستينيات من هذا القرن، وبالرغم من انتشاره الواسع في مختلف بلدان القارة الأوروبية والأمريكية، ظل على الدوام تفكير أستاذ فلسفة ألماني الأصل. وفي استطاعة المرء أن يتنبأ بأن الشباب الثوريين لن يمكنهم أن يتمسكوا طويلا بتعاليم ماركيوز، لسبب بسيط هو أن هذه التعاليم أقرب بكثير إلى أحلام الفلاسفة منها إلى واقعية الثوار. إنها في صميمها تعاليم نظرية، لها بريق خلاب، ولكنها تخفق إخفاقا صارخا عندما يراد تحويلها إلى مجال الممارسة والتطبيق.
وسيكون الجزء التالي من هذا البحث إثباتا مفصلا لهذا الحكم العام. (أ) قيم المجتمع الجديد في ميزان النقد
صفحه نامشخص