هيجل: مقدمة قصيرة جدا
هيجل: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
لذا فإن التأمل أو التفكير النقدي هو المفتاح الرئيسي لإحراز أي تقدم في عملية تطور الحرية. إن أمر الإله أبولو عند اليونانيين كان يدفعهم نحو هذا الطريق: «أيها الإنسان، اعرف نفسك.» هذه الدعوة للبحث الحر وغير المقيد بالمعتقدات العرفية تبناها الفلاسفة اليونانيون، ولا سيما سقراط. يعبر سقراط عن وجهة نظره بطريقة نموذجية في شكل حوار مع شخص بارز من أهل أثينا يعتقد أنه يعرف جيدا ما هو صالح أو عادل. لكن يتضح أن هذه «المعرفة» ليست سوى قدرته على ترديد بعض الأقوال المأثورة عن الصلاح أو العدالة، ولا يجد سقراط أي صعوبة في أن يبرهن على أن هذا المفهوم العرفي للأخلاق لا يمكن أن يكون شاملا؛ فعلى سبيل المثال، على عكس الفكرة السائدة أن العدالة تكمن في إعطاء كل ذي حق حقه، يطرح سقراط مثالا يقوم فيه أحد أصدقائك بإعارتك سلاحا، ثم يصير صديقك هذا مختلا. ربما في هذه الحالة تكون مدينا له بالسلاح، لكن هل من العدل حقا أن ترد له سلاحه؟ وبهذه الطريقة يقود سقراط قراءه للتأمل النقدي في الأخلاق العرفية التي طالما قبلوها. فهذا التأمل النقدي يجعل من العقل، لا الأعراف الاجتماعية، الحكم الفصل في تحديد ما هو صواب وما هو خطأ.
يرى هيجل المبدأ الذي أوضحه سقراط باعتباره قوة ثورية ضد أثينا؛ ولذلك يعتبر الحكم بالإعدام الصادر ضد سقراط ملائما بلا شك؛ فاليونانيون كانوا يدينون العدو الأكثر فتكا بالأخلاق العرفية التي كانت حياتهم المجتمعية تقوم عليها. ومع ذلك كان مبدأ التفكير المستقل راسخا بقوة في أثينا بحيث لا يمكن استئصاله بموت شخص واحد؛ ولذلك جاء اليوم الذي أدين فيه متهمو سقراط، وتمت فيه تبرئة ساحة سقراط نفسه بعد وفاته. وكان مبدأ التفكير المستقل هذا، مع ذلك، هو السبب الرئيسي في سقوط أثينا، ويشير إلى بداية النهاية للدور التاريخي العالمي الذي اضطلعت به الحضارة اليونانية.
العالم الروماني
على عكس التوحد القائم على اتباع العرف والتقاليد غير الخاضعة للتفكير التي شكلت أساس المدن اليونانية القديمة، يصور هيجل الإمبراطورية الرومانية على أنها تكونت من مجموعة متنوعة من الشعوب، تفتقر لجميع الروابط الأبوية الطبيعية أو غيرها من الروابط العرفية؛ ولذلك كانت تتطلب أكثر الأنظمة صرامة ، مدعوما بالقوة؛ وذلك للحفاظ على ترابطها. وهذا يجعل هيمنة روما في المرحلة التالية من تاريخ العالم تبدو كعودة للنموذج الشرقي للحاكم المطلق كما في الإمبراطورية الفارسية. لكن حتى وإن كان مسار تاريخ العالم - كما يعرضه هيجل - لا يتقدم على نحو سلس وثابت، فإنه بالتأكيد لا يعود للخلف أيضا؛ فالمكاسب التي حققت في عصر مضى لا يمكن أبدا خسارتها بالكلية؛ لذلك يميز هيجل بدقة بين المبادئ الأساسية التي قامت عليها كل من الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية. ففكرة الحرية الفردية والقدرة الشخصية على الحكم على الأشياء، التي ولدت في العصر اليوناني، لم تتلاش؛ فقد قامت الدولة الرومانية في واقع الأمر على دستور سياسي ونظام قانوني يتضمن الحقوق الفردية باعتبارها أحد مفاهيمه الأساسية. هذا يوضح أن الدولة الرومانية تقر بحرية الفرد بطريقة لم تتمكن الإمبراطورية الفارسية مطلقا من إقرارها؛ الفكرة هي بالطبع أن هذا الإقرار بحرية الفرد مسألة قانونية أو رسمية خالصة؛ يطلق عليها هيجل «الحرية الفردية المجردة». إن الحرية الحقيقية التي تسمح للأفراد بتطوير مجموعة متنوعة من الأفكار وطرق العيش، التي يطلق عليها هيجل «الحرية الفردية المادية»، تتحطم بقسوة على صخرة القوة الغاشمة لروما.
إذن فالاختلاف الحقيقي بين الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية يتمثل في أن مبدأ الحكم المطلق الشرقي مهيمن تماما في الإمبراطورية الفارسية، في حين أنه في الإمبراطورية الرومانية يوجد صراع دائم بين السلطة المطلقة للدولة وفكرة الحرية الفردية. كان هذا الصراع منعدما في الإمبراطورية الفارسية؛ لأن فكرة الحرية الفردية كانت لا تزال في طور التطور؛ وكانت منعدمة في العالم اليوناني؛ لأنه على الرغم من بزوغ فكرة الحرية الفردية هناك، فإن السلطة السياسية لم تحتشد بقوة لمقاومتها.
إن العالم الروماني - كما يصوره هيجل - ليس عالما سعيدا؛ حيث تحطمت روح العالم اليوناني الحرة والعفوية التي تتسم بالبهجة. ففي مواجهة مطالبات الدولة بالامتثال الخارجي، لا يمكن العثور على الحرية إلا في الانطواء على النفس واللجوء إلى مذهب فلسفي مثل مذهب الشك أو مذهب الأبيقوريين أو مذهب الرواقيين. لا يعنينا هنا تفاصيل هذه المذاهب الفلسفية المتعارضة، لكن المهم هنا هو الميل المشترك بينها لازدراء كل ما يقدمه العالم الواقعي - الثراء والسلطة السياسية والمجد الدنيوي - في مقابل نموذج للحياة يجعل تابع هذا المذهب غير مبال بأي شيء يمكن للعالم الخارجي أن يحدثه.
يرى هيجل أن انتشار هذه المذاهب الفلسفية كان نتيجة للعجز الذي يشعر به الفرد، الذي يؤمن بأنه كائن حر، في مواجهة السلطة المستبدة التي لا يقدر على تغييرها. إن اللجوء للفلسفة، مع ذلك، هو استجابة سلبية لهذا الموقف؛ فهو شكل من أشكال اليأس أمام عالم عدائي. كانت هناك حاجة لإيجاد حل أكثر إيجابية، وهو الحل الذي قدمته المسيحية.
للتعرف على سبب نظر هيجل للمسيحية على هذا النحو، علينا إدراك أن البشر من وجهة نظر هيجل ليسوا مجرد حيوانات شديدة الذكاء؛ فالبشر يحيون في العالم الطبيعي، مثلهم مثل الحيوانات، لكنهم أيضا يتميزون بأنهم كائنات روحية. وحتى يدرك البشر أنهم كائنات روحية، يظل البشر أسرى في شرك العالم الطبيعي؛ عالم القوى المادية. وعندما يقاوم العالم الطبيعي تطلعهم للحرية معاندا، مثلما فعل العالم الروماني، لا يوجد مفر «داخل» العالم الطبيعي، ما عدا ما سبق وأن ذكرناه من اللجوء إلى فلسفة قائمة على موقف سلبي تماما تجاه العالم الطبيعي. ومع ذلك، ما إن يدرك البشر أنهم كائنات روحية، حتى تنتهي أهمية عدائية العالم الطبيعي، ويكون بالإمكان تجاوزها بطريقة إيجابية لوجود شيء إيجابي يتجاوز العالم الطبيعي.
في نظر هيجل، المسيحية ديانة مميزة؛ لأن المسيح كان إنسانا وفي الوقت نفسه «ابن الإله». وتلقن هذه الحالة البشر درسا مفاده أنه على الرغم من أن لديهم قصورا في بعض النواحي، فإنهم في الوقت ذاته خلقوا على صورة الإله، وبداخلهم قيمة غير محدودة ومصير خالد. وكانت النتيجة تطور ما يطلق عليه هيجل «الوعي الذاتي الديني»؛ الإقرار بأن العالم الروحي، لا العالم الطبيعي، هو موطننا الحقيقي. لتحقيق هذا الوعي، يتعين على البشر كسر قبضة الرغبات الطبيعية، وبالطبع الوجود الطبيعي بأكمله، التي تسيطر عليهم.
إن مهمة الديانة المسيحية هي تحقيق هذا الوعي بأن الطبيعة الروحية للبشر هي الطبيعة المهمة لهم. ومع ذلك، لا يحدث كل ذلك على الفور؛ لأنه لا يتطلب تقوى داخلية فحسب؛ فالتغير الذي يحدث في القلب التقي للمؤمن بالمسيحية يجب أن يحول العالم الخارجي الحقيقي إلى شيء يلبي متطلبات البشر بوصفهم كائنات روحية. وكما سنرى، استغرقت البشرية التاريخ المسيحي بأكمله حتى عصر هيجل كي تصبح قادرة على تحقيق هذا.
صفحه نامشخص