وكان مأمور أبي كبير يومئذ عبد العال أبا سالم من منية النمروط فأخبره بذلك، واتفق أن المأمورية مطلوب منها شخص في العسكرية، فأغراه بي واتفقا على إلحاقي بالجهادية لسداد هذه الطلبة، فنادوني على حين غفلة، وأمرني المأمور بالذهاب إلى السجن لكتب المسجونين، وأصحبني رجلا من أغوات المأمورية، فلما دخلت السجن أحضروا غلا من الحديد ووضعوه في رقبتي وتركت مسجونا، فداخلني ما لا مزيد عليه من الخوف، فلبثت في السجن بضعا وعشرين يوما في أوساخ المسجونين وقاذوراتهم، وصرت أنتحب، فرق لي السجان لصغر سني، فقربني إلى الباب، وواسيته بشيء من النقود التي كانت سبب سجني، وكنت أرسلت إلى والدي بحبسي، فذهب إلى العزيز وكان بناحية منية القمح وقدم له قصتي في عريضة، فكتب بإخلاء سبيلي، وأخذ والدي الأمر بيده، وقبل حضوره إلي أتى إلى السجان صاحب له من خدمة مأمور زراعة القطن بنواحي أبي كبير، وأخبره أن المأمور محتاج إلى كاتب يكون معه بماهية، وكان السجان يميل إلي فدله علي، ووصفني له بالنجابة وحسن الخط، وعرفه مسكنتي وما أنا فيه، فمال الخادم إلي، وطلب مني أن أكتب خطي في ورقة ليراها المأمور، فكتبت عريضة وأعتنيت فيها، وناولتها للخادم مع غازي ذهب قيمته عشرون قرشا ليمهد لي الطريق عند مخدومه، ووعدته بأكثر من ذلك أيضا، فأخذها، وبعد قليل حضر بأمر الإفراج عني، وأخذني معه حتى قربت من المأمور، وكان يسمى عنبر أفندي، فنظرت إليه فإذا هو أسود حبشي كأنه عبد مملوك، لكنه سمح جليل مهيب، ورأيت مشايخ البلاد والحكام وقوفا بين يديه وهو يلقي عليهم التنبيهات، فتأخرت حتى انصرفوا فدخلت عليه وقبلت يده، فكلمني بكلام رقيق عربي فصيح، وقال لي: تريد أن تكون معي كاتبا ولك عندي جراية كل يوم وخمسة وسبعون قرشا ماهية كل شهر؟، فقلت: نعم، ثم انصرفت من أمامه وجلست مع الخدامين ، وكنت أعرف من المشايخ الذين كانوا بين يديه جماعة من مشاهير البلاد أصحاب الثروة والخدم والحشم والعبيد، فاستغربت ما رأيته من وقوفهم بين يديه وامتثالهم أوامره، وكنت لم أر مثل ذلك قبل ولم أسمع به؛ بل أعتقد أن الحكام لا يكونون إلا من الأتراك على حسب ما جرت به العادة في تلك الأزمان، وبقيت متعجبا متحيرا في السبب الذي جعل السادة يقفون أمام العبيد ويقبلون أيديهم، وحرصت كل الحرص على الوقوف على هذا السبب، فكان ذلك من دواعي ملازمتي له، وفي ثاني يوم حضر والدي بأمر العزيز فسلمت عليه، وأدخلته على المأمور وعرفته إياه، فبش في وجهه وأجلسه وأكرمه، وكان والدي جميل الهيئة أبيض اللون فصيحا متأدبا، آثار الصلاح والتقوى ظاهرة عليه، فكلمه في شأني، فقال له: «إني قد اخترته ليكون معي وجعلت له مرتبا فإن أحببت فذاك» فشكر له والدي ورضي أن أكون معه، وذكر له أصولنا وأرومتنا، وانصرف من مجلسه مسرورا.
ولما سهرت مع والدي ليلا جعلت كلامي معه في هذا المأمور، فقلت له: هذا المأمور ليس من الأتراك لأنه أسود؟ فأجابني بأنه يمكن أن يكون عبدا عتيقا، فقلت: هل يكون العبد حاكما مع أن أكابر البلاد لا يكونون حكاما فضلا عن العبيد؟! فجعل هو يجيبني بأجوبة لا تقنعني، فكان يقول: لعل سبب ذلك مكارم أخلاقه ومعرفته؟ فأقول: وما معرفته؟ فيقول: لعله جاور بالأزهر وتعلم فيه، فأقول: هل التعلم في الأزهر يؤدي إلى أن يكون الإنسان حاكما؟! ومن خرج من الأزهر حاكما؟ فقال: يا ولدي كلنا عبيد الله، والله تعالى يرفع من يشاء! فأقول: «مسلم، لكن الأسباب لا بد منها ...» وجعل يعظني ويذكر لي حكايات وأشعارا لم أقنع بها، ثم أوصاني بملازمته وامتثال أوامره، وبعد يومين سافر عني وتركني عنده.
ثم حدثت لي فكرة أخرى مع الفكرة الأولى، فكنت أقول في نفسي إن الكتابة والوظيفة (الماهية) كانت هي السبب في سجني ووضع الحديد في رقبتي، وقد وجدت هذا المأمور خلصني من ذلك، فلو فعل المأمور معي مثل ما فعل الكاتب فمن يخلصني؟ واستمرت الفكرتان في بالي وصار همي للتخلص من كل ذلك وأمثاله، ووددت أن أكون بحالة لا ذل فيها ولا تخشى غوائلها، وفي أثناء ذلك اصطحبت بفراش له، فجعلت أفحص منه عن أخبار سيده وأسباب ترقيه، وكنت أسترق منه ذلك استراقا بحيث أخلل هذا الكلام بغيره، فأخبرني أن سيده مشترى ست من الستات الكبار مرعيات الخواطر، أدخلته سيدته مدرسة قصر العيني لما فتح العزيز المدارس وأدخل فيها الولدان، وأخبرني أنهم يتعلمون فيها الخط والحساب واللغة التركية وغير ذلك، وأن الحكام إنما يؤخذون من المدارس، فحينئذ حاك في صدري أن أدخل المدارس، وسألته هل يدخلها أحد من الفلاحين؟ فأفادني أنه يدخلها صاحب الواسطة، فشغل ذلك بالي زيادة، ومع ذلك فلم تفتر همتي، وسألته عن قصر العيني وعن طريقه وكيف الإقامة فيه، فأخبرني عن ذلك كله، وأثنى على حسن إقامتهم بها، ومأكولهم وملبوسهم وإكرامهم، فازددت شوقا، وكنت أكتب عندي كل ما يخبرني به من بيان الطريق وقدر المسافة، وأسماء البلاد التي في الطريق.
وقامت بنفسي فكرة التخلص والتوصل إلى المدارس، فطلبت الإذن في زيارة أهلي، فأذن لي بخمسة عشر يوما، فسافرت إلى أن وصلت في يوم السبت إلى بني عياض قرية في طريقي، فتقابلت مع جملة أطفال تحت قيادة رجل خياط، مع كل واحد دواة وأقلام، فجلست معهم تحت شجرة، وتحادثنا، فظهر لي أنهم تلامذة من مكتب منية العز، وكان ذلك فألا حسنا، ورأوا خطي فوجدوه أحسن من خطوطهم، فقال بعضهم لبعض: لو لحق هذا بالمكتب لكان جاويشا، فقال الخياط: ذلك قليل عليه؛ فإن خط الباشجاويش الذي عندنا لا يساوي هذا الخط، فسألتهم: ما الجاويش؟ وما الباشجاويش؟ فأفادوني أنهم المقدمون في المكتب، فجعلت أستفهم عن المكتب وصفته، وجعل الخياط يحسن لي أوصافه، ويغريني على دخوله، وأفهمني أن نجباء المكاتب ينتقلون إلى المدارس بلا واسطة، فرأيت ذلك غاية مرغوبي، فلم أتأخر عن الذهاب معهم، ودخلت المكتب فإذا ناظره من معارف والدي، فأراد أن يمنعني من الانتظام في عقد التلامذة، واجتهد في ذلك لمراضاة والدي، فلم أسمع كلامه، وبقيت في المكتب خمسة عشر يوما، وكان الناظر قد أرسل إلى والدي، فلما جاءه قص عليه خبري وأراه أني راغب جدا وأني قلت له: إن لم يكتبني في المكتب اشتكيته، ثم دبر معه حيلة على أخذي على حين غفلة مني ومن التلامذة، فانتظر خروجنا للفسحة والأكل في وقت الظهر، فاختطفني والدي إلى بلدتنا، وحبسني في البيت نحو عشرة أيام، كل ذلك ووالدتي تبكي مني وعلي وتستعطفني للرجوع عما يوجب فراقهم وتحلفني أن أرجع عن تلك النية، فوعدتها بالرجوع عن ذلك إرضاء لخاطرها، فأطلقوني، وكانت لنا غنيمات صرت أرعاها، وأبعدوني عن حرفة الكتابة التي ربما تكون سببا لفراقهم، فبقيت كذلك مدة حتى اطمأن خاطرهم، وظنوا أن فكرتي ذهبت عني مع أنها لا تفارقني، وإنما كنت أخفيها، إلى أن انتهزت فرصة في ليلة من الليالي، فصبرت إلى أن ناموا جميعا، وأخذت دواتي وأدواتي وخرجت من عندهم خائفا أترقب، وتوجهت تلقاء منية العز، وكان ذلك آخر عهدي بسكناي بين أبوي، وكانت ليلة مقمرة، فمشيت حتى أصبحت فدخلت منية العز ضحى، ولم يرني الناظر إلا وأنا مع الأطفال في داخل المكتب، والتزمت أن لا أخرج منه ليلا ولا نهارا مخافة اختطافي، ثم حضر والدي وعمل طرق التحيل علي هو والناظر فلم ينجع ذلك في، ورجع بلا حاجته، وجعل يتردد علي طمعا في أخذي من المكتب، حتى جاء ناظر مكتب الخانقاه عصمت أفندي لفرز نجباء التلامذة إلى قصر العيني، فكنت ممن اختير لذلك، فحضر والدي واشتكى لعصمت أفندي، فقال له: هذا ابنك أمامك وهو مخير، فخيروني فاخترت المدارس، فعند ذلك بكى والدي كثيرا وأغرى علي جماعة من المعلمين وغيرهم ليستميلوني فلم أصغ لهم، وكان ما قدر الله ولا راد لما قدره.
فدخلت مدرسة قصر العيني في سنة إحدى وخمسين ومائتين وألف وأنا يومئذ في سن المراهقة، وصرت في فرقة برعي أفندي، فوجدت المدارس على خلاف ما كنت أظن، بل بسبب تجدد أمرها كانت واجبات الوظائف مجهولة فيها، والتربية والتعليمات غير معتنى بها؛ إذ كان جل اعتنائهم بتعليم المشي العسكري، فكان ذلك في وقت الصبح والظهر وبعد الأكل وفي أماكن النوم، وكان جميع المشرفين على التلامذة يؤذونهم بالضرب وأنواع السب والإهانة من غير حساب ولا حرج، مع كثرة الأغراض والإعراض عن الاعتناء بشؤونهم مما يختص بالمأكولات وخلافها، وكانت مفروشاتهم حصر الحلفاء وأحرمة الصوف الغليظ من شغل بولاق، ومن كراهتي للطبيخ المرتب لنا جعلت إدامي الجبن والزيتون، وكان برعي أفندي يراعيني بالنسبة لغيري، وكان معي قليل من النقود جعلته أمانة تحت يده.
فلما رأيت هذه الحالة ضقت ذرعا وظننت أني جنيت على نفسي في دخول المدارس التي بهذه المثابة، ثم لتغير الهواء المعتاد وكثرة ما قام بي من الأفكار اعترتني الأمراض وطفح الجرب على جسمي، فأدخلوني المستشفى، فتراكمت علي الأمراض حتى أيسوا من حياتي، ولكن الله سلم، وفي أثناء ذلك حضر والدي وطلب أن يراني فلم يمكنوه من الدخول، فجعل لبعض الممرضين خمسين محبوبا من الذهب جعلا على أن يخرجني من الاسبتالية سرا ليخلصني مما أنا فيه، فلم أشعر إلا والممرض قد كسر شباك الحديد من المحل الذي أنا فيه، وأخبرني بمرغوب والدي وأنه واقف ينتظرني خارج المدرسة، وأراد أن ينزلني من الشباك ويوصلني إليه ليأخذ جعله، فمالت نفسي لإجابته والذهاب مع والدي وترك المدارس وأهلها لما رأيته من الشدائد وعدم التعليم، وما لحقني من الجوع في المستشفى حتى كنت أمص العظم الذي يلقيه الآكلون، لكن فكرت في عاقبة الهرب، فإنهم كانوا يطلبون من يهرب من التلامذة ويقبضون على أهله ويقيدونهم ويهينونهم، فامتنعت من الخروج معه، فاجتهد في التحيل علي وتسهيل الأمر لدي، فأبيت، وقلت: أصبر على قضاء الله وأنا الجاني على نفسي، وقلت له: بلغ والدي السلام وسله أن يدعو لي وأن يبلغ والدتي عني السلام، ثم إن والدي احتال حتى دخل عندي ورآني ورأيته، وقبلني وقبلته، وبكى وبكيت، ثم ودعني ومضى لسبيله، وله زفرات ولي عبرات، ولسان الحال يقول:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
ثم شفيت وخرجت إلى المدرسة، واشتغلت بدروسي ولم أمرض بعد ذلك.
وفي أواخر سنة اثنتين وخمسين نقلونا إلى مدرسة أبي زعبل عندما جعل قصر العيني لمدرسة الطب خاصة (كما هو الآن)، فكانت إدارة المدارس في أبي زعبل كما كانت في قصر العيني، إلا أنه اعتني بالتعليم شيئا بسبب جعل نظرها للمرحوم إبراهيم بك رأفت، وكان أثقل الفنون علي وأصعبها فن الهندسة والحساب والنحو، فكنت أراها كالطلاسم، وأرى كلام المعلمين فيها ككلام السحرة، وبقيت كذلك مدة إلى أن جمع المرحوم إبراهيم بك رأفت متأخري التلامذة في آخر السنة الثالثة من انتقالنا إلى مدرسة أبي زعبل وجعلهم فرقة مستقلة، فكنت أنا منهم، بل آخرهم، وجعل نفسه هو المعلم لهذه الفرقة، ففي أول درس ألقاه علينا أفصح عن الغرض المقصود من الهندسة بمعنى واضح وألفاظ وجيزة، وبين أهمية الحدود والتعريفات الموضوعة في أوائل الفنون، وأن هذه الحروف التي اصطلحوا عليها إنما تستعمل في أسماء الأشكال وأجزائها كاستعمال الأسماء للأشخاص، فكما أن للإنسان أن يختار لابنه ما شاء من الأسماء؛ كذلك المعبر عن الأشكال له أن يختار لها ما شاء من الحروف، فانفتح من حسن بيانه قفل قلبي ووعيت ما يقول، وكانت طريقته هي باب الفتوح علي، ولم أقم من أول درس إلا على فائدة، وهكذا جميع دروسه بخلاف غيره من المعلمين، فلم تكن لهم هذه الطريقة وكان التزامهم لحالة واحدة هو المانع لي من الفهم، فختمت عليه في أول سنة جميع الهندسة والحساب، وصرت أول فرقتي، وبقيت في النحو على الحالة الأولى لعدم تغير المعلم ولا طريقة التعليم السيئة، وكان رأفت بك يضرب بي المثل ويجعل نجابتي على يديه برهانا على سوء تعليم المعلمين، وأن سوء التعليم هو السبب في تأخر التلامذة.
صفحه نامشخص