وكنت أمشي على رجلي من بيتي في المنشية إلى الأزهر، وأعود من الأزهر ومعي منديل كبير فيه (الجراية) أنقله بين يدي اليمني ويدي اليسرى، ومن كتفي اليمنى إلى كتفي اليسرى فأصبحت أنتقل حتى المسافات القصيرة في سيارة. وكان أبي يعلمني في كتاب كالذي ذكرت، فأصبحت أعلم أولادي في رياض الأطفال وما إليها. ولا يعجبهم أن ينتقلوا في الدرجة الأولى في الترام والأمنيبوس، ويتطلبون سيارة ينتقلون بها، وكنت أضرب على الشيء التافه الصغير فأحتمل، ولا أثور ولا أغضب، فصار أبنائي يغضبون من الكلمة الخفيفة والعتاب المؤدب، وكنت لا أؤاخذ أبي على حرماني من الضروريات، فصار أبنائي يؤاخذوني على حرمانهم من الإسراف في الكماليات. وكنت وصوت، وكنت وصرت مما يطول شرحه، فما أكثر ما يفعل الزمان.
لقد بدأت في شبابي أرسم حياتي المستقبلة من خيالي، وأرسم المثل العليا لي في خلقي ومسلكي وإصلاحي، ثم اصطدمت هذه المثل بالواقع، وبالبيئة التي حولي، وبالصعاب التي صادفتني، وبكثير من الناس أخلفوا ظني، كل هذا وأمثاله كان يأكل من البنيان بنيته للمثل الأعلى الذي وضعته ، لقد حاولت أن أقف أمام هذه التيارات ولكني لم أستطع أن أثبت في مركزي، فجرفني التيار معه قليلا أو كثيرا، ومن أجل هذا كنت في شبابي خيرا مني في شيخوختي، وفي أول عهدي أكثر تفاؤلا مني في آخر عهدي. لكم تمسكت في شبابي بالمبدأ وإن ضرني، واستقلت من عمل يدر علي الربح لأني رأيته يمس كرامتي، وبنيت آمالا واسعة على ما أستطيعه من إصلاح وما أحقق من أعمال، ثم رأيت كثيرا من هذه الآمال يتبخر، وما أنوي من أعمال يتعثر، وها أنذا في شيخوختي قد أقبل ما كنت أرفض، وقد أتنازل عن بعض المبادئ التي كنت ألتزم؛ فالوسط وأحاديث الناس وكثرة الأولاد وتوالي العقبات وضعف الإرادة بطول الزمان قد تضطر الإنسان إلى التنازل عن بعض مثله العليا، ويعجبني قول من قال:
عصيت هوى نفسي صغيرا وعندما
رماني زماني بالمشيب وبالكبر
أطعت الهوى، عكس القضية، ليتني
ولدت كبيرا ثم عدت إلى الصغر
ومع هذا فإني أحمد الله إذ من علي بالتوفيق في أكثر ما زاولت من أعمال: فيما ألفت من كتب - في عملي بلجنة التأليف - في الجامعة الشعبية - في الجامعة المصرية - في الجامعة العربية - في عمادة كلية الآداب؛ كذلك كان الشأن في حياتي العملية والأدبية والمالية والعائلية: نعم من الله لا أستطيع أن أقوم بالشكر عليها.
وهي ظاهرة يصعب تعليلها العقلي، أو تفسيرها بالتحليل الاجتماعي والنفسي. فكم رأيت من أناس كانوا أذكى مني وأمتن خلقا وأقوى عزيمة، وكانت كل الدلائل تدل على أنهم سينجحون في أعمالهم إذا مارسوها، ثم باءوا بالخيبة ومنوا بالإخفاق، ولا تعليل لها إلا أن
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
قالوا
صفحه نامشخص