90

أما حياتي اليومية فإنها تكاد تكون حياة رتيبة كأني قطار لا ينحرف عن السير على قضبانه، فلا مغامرات ولا مفاجآت؛ أصحو قبل الشمس دائما مهما تأخرت في النوم، وتلك عادة اعتدتها منذ كان أبي يوقظني في طفولتي لأصلي معه الفجر؛ فإذا طلعت الشمس أفطرت فطورا خفيفا غالبا عماده اللبن، وإذا كان لدي عمل خرجت إليه، وإلا ذهبت إلى مكتبتي أو حديقتي أقرأ وأكتب إلى ما بعد الظهر، وهذا خير الأوقات عندي فائدة وأكثرها إنتاجا، فإذا تغديت نمت بعد الغداء، وهي نومة تكاد تكون مقدسة، إذا لم أنمها تعكر علي سائر يومي. وكثيرا ما كانت هذه النومة سببا لمتاعب كثيرة، فأنا لا أنام إلا في هدوء تام، وأي صوت ينبهني، وأي حركة تقلقني، فإذا بكى طفل أو حدثت حركة في البيت ذهب عني النوم، وغضبت وأغضبت، وكثيرا ما ثرت فآلمت، ويكفيني في هذا النوم نصف ساعة أو ما دونه، فإذا صحوت شربت قهوتي، وإذا لم يكن ثمة داع إلى الخروج عدت إلى مكتبي لأقرأ لا لأكتب، فقلما ألفت في المساء لأني إذا كتبت هاج مخي، فإذا ما نمت بعد الكتابة لم أنم نوما هادئا، وظل عقلي يحلم ويحلم، ويبدي ويعيد فيما كنت أكتب؛ وليس الحال كذلك إذا اقتصرت على القراءة. ولذلك اعتدت أن أفكر وأقرأ مساء ثم أكتب صباحا غالبا.

ولا أستطيع الكتابة إلا في هدوء تام، فأي صوت يزعجني، وكم تمنيت أن يكون للأذن غطاء خاضع لإرادة الإنسان كما هو الشأن في العين.

وقد أستريح يوم الجمعة فأخرج إلى حلوان أو الأهرام أو القناطر الخيرية أو نحو ذلك لأنسى القراءة والكتابة؛ وأصيف في الإسكندرية أو رأس البر، فأحمل أهم كتبي معي وأشتغل بها كما أشتغل في أيام عملي، فلا أستمتع إلا بحسن الجو والسير أحيانا على شاطئ البحر، ولم أعتد - ولله الحمد - كيفا إلا الدخان أدخنه ولا أبتلعه، كما لم أعتد أن أضيع وقتي في الجلوس إلى مقهى إلا لمقابلة في عمل، فإن ملت إلى اجتماع بالناس فمع أصدقائي في لجنة التأليف، كما لم أعتد ضياع وقت في لعب نرد أو شطرنج.

وكنت في بدء حياتي العملية كثير الفراغ، أصرفه في القراءة والكتابة، فألفت «فجر الإسلام وضحاه» ثم قل فراغي باشتغالي بكثرة المجالس واللجان، فأنا عضو في المجمع اللغوي وفي مجلس دار الكتب ومجلس كلية الآداب ودار العلوم، ورئيس لجنة التأليف والجامعة الشعبية إلخ. إلخ، ومذيع في الراديو، وكل هذه أكلت من وقتي، وبعثرت زمني، ووزعت جهدي، مع قلة فائدتها فيما أعتقد. ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لرفضت كل هذه الأمور ونحوها وفرغت لإتمام سلسلة فجر الإسلام وضحاه وظهره وعصره، فقد كان ذلك أجدى وأنفع وأخلد، ولكن للظروف أحكام.

ولست أميل إلى الاجتماع كثيرا، ولا أحب يوما يمر دون أن أخلو فيه إلى نفسي بعيدا عن أهلي وولدي.

وأستمر في القراءة إلى نحو الحادية عشرة فأنام، وقد وضعت مصباحا كهربائيا بجانب سريري أقرأ عليه حتى يغشاني النوم، ولما أصبت في عيني منعني الأطباء من القراءة ليلا فاستعنت على ملء وقتي بمن يقرأ لي.

وإذا علقت فكرة بذهني كانت شغلي الشاغل - أقرأ الكثير عنها وأفكر فيها وأحلم بها، وقد يخطر لي فيها خاطر إذا صحوت أثناء الليل، فأذهب إلى مكتبتي وأضيئها واستحضر الكتاب الذي أظنه يعالجها وأقرؤه لتحقيق الفكرة والوصول فيها إلى نفي أو إثبات ثم أعود إلى فراشي.

وإذا حدث حادث سياسي أو اجتماعي - قومي أو إنساني - تأثرت به تأثرا يغطي على تفكيري العلمي، وها أنذا في هذه الأيام مرتاع لما أصاب البلاد العربية من أحداث فلسطين. يقلقني جد الصهيونيين وهزل العرب، واجتماع كلمة الأولين وتفرق الآخرين ووقوف الأولين على أساليب السياسة الأوروبية والأمريكية والروسية، وفهمهم الدقيق للأوضاع واستغلالهم الفرص السانحة، وجري الآخرين على سياسة الارتجال، وجهلهم بما يجري خلف الستار. وتقصيرهم في جمع كلمتهم وتوحيد خططهم. ويفزعني ما أحرزه الصهيونيون من نجاح لم يكن يتوقعه حتى أكثرهم تفاؤلا وأوسعهم أملا، وأكرر السؤال على نفسي ماذا سيكون المصير لو استمر الصهيونيون في جدهم واستعدادهم وتكاتفهم، واستمر العرب في هزلهم وتخاذلهم؟ وكثيرا ما أحاول الكتابة في موضوع علمي أو أدبي ثم أصرف عنه بهذا الحزن وهذا الجزع، وأقول إني كنت أعجب من ضياع الأندلس من يد المسلمين وسائر الأقطار لا تحرك ساكنا للإغاثة ولا تمد يدا للمعونة، واليوم بعد قرون طويلة تتجدد المأساة فتضيع فلسطين من يد المسلمين ولا عبرة من الأحداث ولا استفادة من التاريخ، ويغيث المسلمون شكل إغاثة لا حقيقة إغاثة، ويعاونون معاونة كان خيرا منها عدمها، فيالله للمسلمين ...

ثم لي نزعة صوفية غامضة، فأشعر في بعض اللحظات بعاطفة دينية تملأ نفسي ويهتز لها قلبي، وأكبر ما يتجلى هذا عند شهود المناظر الطبيعية الرائعة، كالمزارع الواسعة، والأشجار اليانعة، والنجوم اللامعة، وطلوع الشمس وغروبها، والبحار وأمواجها، والطيور وتغريدها، فأشعر - إذا ذاك - بميل إلى احتضانها ، وأود لو ركزت في كأس فأشربها، وأحس بنشوة إذ أراها وأرى الله فيها، ولكني - مع ذلك - أشعر بأسف على أني لم أنم هذه النزعة كما يجب، ولم أتعهدها وأرعها كما كان ينبغي.

ومزاجي فلسفي أكثر منه أدبيا؛ حتى في الأدب، أكثر ما يعجبني منه ما غزر معناه ودق مرماه، فيعجبني الحريري والقاضي الفاضل والصاحب بن عباد وطريقته، والعماد الأصفهاني ومدرسته، ويعجبني المتنبي لولا إغرابه أحيانا وتكلفه، والمعري لولا تعالمه، وأفضلهما على أبي تمام وتقعره، ولا يعجبني من البحتري إلا قصائد معدودة، ولا يهتز قلبي لأكثر شعر الطبيعة في الأدب العربي، لبنائه على الاستعارة والتشبيه لا على حرارة العاطفة ولهذا كان لي ذوق خاص في تقدير الأدب، فضلت اتباعه مجتهدا - ولو كنت مخطئا - على تقليد غيري في تقديره ولو كان مصيبا. •••

صفحه نامشخص