81

1

وعند خروجي إلى فناء الدار وجدت سيارة وقفت ودعيت إلى الركوب، فإذا فيها أستاذنا أحمد لطفي السيد وزير الخارجية إذ ذاك، فدعاني أن أصحبه لتشييع جنازة فشيعناها ورجعنا، ودعائي أن أصحبه إلى حجرته بوزارة الخارجية فصحبته، وجاء وكيل الخارجية يعرض عليه أمرا لم أتبينه، ثم التفت إلى الوزير وقال: ما رأيك في السفر إلى لندن عضوا مع ممثلي مصر في مؤتمر فلسطين؟ فاعتذرت، فسألني عن السبب فقلت إني رجل علم أو - على الأصح - أنتسب إلى العلم، ولم أشتغل بالسياسة إلا على هامش حياتي، وأمور السياسة تحتاج إلى درس طويل ومران كثير، فقال: لا بأس من وجود العالم بجانب السياسي، وصمم فقبلت، واستأذن الجهات المختصة وأنا جالس فقبلت، وخرجت مستغربا كيف دخلت وكيف خرجت. واستعددت للسفر: وأخذت أبحث في المكتبات عن الكتب التي ألفت عن مشكلة العرب والصهيونية في فلسطين، وأقرأ التقارير التي كتبت وأودعت وزارة الخارجية أو الجامعة العربية، والكتاب الأبيض وغير الأبيض ... ثم ها أنا ذا أركب الطائرة من محطة ألماظة إلى لندن أول مرة من ركوبي الطائرة في حياتي، فما أعجب ما يفعله الزمان..! لقد كنت في مبدأ حياتي لا أعرف ركوب القطار حتى بلغت السادسة عشرة، ولما ركبته إلى طنطا حزنت وبكيت، وها أنا ذا أركب الطائرة من مصر إلى لندن وأنا لا أحزن ولا أبكي.

وأخاف أول الأمر والطائرة ترتفع وتضطرب، ودليل الطائرة يقول: إننا على ارتفاع ألفي قدم، ثم يقول أربعة آلاف ثم يقول ستة آلاف إلى ثمانية آلاف، لكن بعد أن استوت الطائرة وملكت زمامها في الجو اعتدناها واطمأنت نفوسنا بعض الشيء إليها، ورأيت من بجواري فيها من كبار رجال السياسة وممن اعتادوا ركوب الطائرات وضعوا رءوسهم على مقاعدهم وناموا نوما هادئا مطمئنا كأنهم في غرفة نومهم، فاطمأننت بنومهم، ولكني لم أستطع أن أسير سيرتهم، فلم تذق عيني النوم إلا إغفاءة غفوتها بين مالطة وباريس. ونزلت الطائرة لندن بعد سبع عشرة ساعة، فما أضعف الإنسان وأقواه، وما أقدره وما أعجزه!.

وأجد نفسي في جو سياسي لم أعتده، بين كبار الساسة من العرب يتناقشون ويتجادلون على غير النمط الذي ألفته في مجالس الكليات ومجلس الجامعة، فهم يراعون اعتبارات ونزعات واتجاهات لا يراعيها العالم، فأسمع أكثر مما أتكلم، ولا أشترك في المناقشة إلا بقدر، ولا أبدي الرأي إلا في المسائل الهامة.

ثم أنتقل خطوة أجرأ، فأنا والممثلون العرب على المائدة المستديرة أمام مستر بيفن وزير الخارجية البريطانية وأمام وزير المستعمرات والمختصين بالأمور الشرقية في إنجلترا، نتبادل الخطب والآراء ونستمر على ذلك أياما، ثم تشكل لجنة صغيرة من ممثلي العرب وممثلي الإنجليز، يضعون مشروع اتفاق ونستشار في كل خطوة من هذا الاتفاق، حتى إذا فرغت اللجنة عرض الاتفاق على الهيئة العامة من الإنجليز والعرب، فإذا بنا نسمع من الإنجليز أنهم عرفوا وجهة نظرنا وعرفنا وجهة نظرهم، وسيبحثون الأمر فيما بعد، وسيخبروننا بالنتيجة وسيدعوننا إذا دعت الحال، ومع السلامة!!

كانت هذه الرحلة كبيرة الأثر في نفسي، فقد استطعت أن أخلو في لندن إلى أصدقاء لي ممن خبروا إنجلترا خبرة طويلة وأقاموا فيها زمنا طويلا قبل الحرب وأثناء الحرب وبعد الحرب؛ فأصغيت إلى حديثهم في شئون إنجلترا الاجتماعية وتطورها وما فعلت الحرب فيها، ورأيت كبار الإنجليز وسمعت أقوالهم، وأصغيت إلى تفكيرهم، فإذا هم ناس كسائر الناس، وعقليتهم كسائر العقليات، مزيتهم في اعتمادهم على الاختصاصيين الذين تخصصوا في كل موضوع وعرفوا دقائقه، فإذا جد أمر استعانوا بهؤلاء الخبراء وأصغوا إلى نتيجة خبرتهم وكونوا من ذلك آراءهم، وأكبر ما يمتازون به علينا توزيع الاختصاص، والنظام الدقيق، وثقة الكبير بالصغير والصغير بالكبير، ومعالجتهم الأمور معالجة علمية منظمة، فكل شيء مدروس ولا شيء مرتجل، والغرض محدود وأساليبه مرسومة، لا ارتجال ولا فوضى ولا تفكير عفو الساعة.

كما أعجبني بالشعب ديمقراطيته الحقة، فكل إنسان ينظر إليه على أنه إنسان كبيرا كان أو صغيرا، ولا يحق للوزير أن ينال شيئا يمتاز به عن الصانع الصغير؛ هذا وزير خارجية إنجلترا يلبس قميصا بليت ياقته، وهذا وزير المستعمرات يقول في بعض أحاديثه معنا: إنه لم يشتر بدلة جديدة منذ نشوب الحرب، وهذا الوزير الكبير يذهب بطبقه وسكينته وشوكته وفنجانه ليأخذ الشاي، وهذا وكيل وزارة يشهر بزوجته لأنها أخذت قنطارا من الفحم زائدا عن سائر الناس وإن كانت في حاجة إليه لأنها تسكن بيت مهجورا مرطوبا يحتاج إلى نار أكثر لتذهب برطوبته. وهذه «الطوابير» المنظمة في كل شيء لا يحق لأحد فيها أن يتقدم من قبله، والموظف الكبير يقف وراء العامل الصغير حتى يأتي دوره، وهذه الاشتراكية قد بلغت في الحياة الاجتماعية مبلغا كبيرا: فرفع مستوى العمال وطبق العدل الاجتماعي تطبيقا دقيقا، وعلا مستوى المعيشة للفقراء، وكثرت الضرائب على الأغنياء حتى لا يستطيع غني مهما كان أن يربح في العام أكثر من خمسة آلاف جنيه تقريبا، فاستوى الجميع في الحقوق والواجبات، وقلت الفروق بين الطبقات. حياة هادئة منظمة ومريحة، فإن أنا نظرت إلى الشعب وأخلاقه وسلوكه سررت وأعجبت، وإن أنا نظرت إلى السياحة الخارجية وما يفعل الاستعمار الإنجليزي في الشرق ألمت وتقززت.

وخطفت رجلي بعد ذلك فذهبت مع بعض أصدقائي إلى سويسرة، نعمنا بمناظرها الطبيعية أياما، ومنها إلى مرسيلية ننتظر الباخرة أياما، ونخرج كل يوم إلى ضاحية من ضواحيها فننعم بشمسها ودفئها ومناظرها، ثم نعود إلى مصر، وقد كسبنا كل شي إلا ما يتصل بفلسطين.

الفصل الثالث والثلاثون

وأحلت إلى المعاش بعد أن بلغت سن الستين، وكم كنت أتمنى أن أخرج من وظائف الحكومة وأنا في غير سن الكهولة لأعمل حرا؛ لا تقيده اللوائح والقوانين، ولا يطبع بطابع الموظفين، ولكن لم يكن لي من الشجاعة ما أرفض به الوظيفة و«الولد مجبنة مبخلة» وربما كان السبب أيضا أن وظيفة الأستاذ في الجامعة من أبعد الوظائف عن السلطة الحكومية، وأنها تتفق مع مزاجي إذا خلت من الصبغة الإدارية واقتصرت على الاتصال بالكتب والاتصال بالطلبة.

صفحه نامشخص