ولكن على المرء أن يبذل جهده في تعرف الحق، وتحري الصدق، ليبرئ نفسه ويريح ضميره، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
على ذلك وضعت هذا الكتاب، ولم أذكر فيه كل الحق، ولكني لم أذكر فيه أيضا إلا الحق، فمن الحق ما يرذل قوله وتنبو الأذن عن سماعه، وإذا كنا لا نستسيغ عري كل الجسم فكيف نستسيغ عري كل النفس؟ - إلا أحداث تافهة حدثت لي أو لغيري معي، لا نفع في ذكرها، والإطالة في عرضها.
ثم إن حديث الإنسان عن نفسه - عادة - بغيض ثقيل، لأن حب الإنسان نفسه كثيرا ما يدعوه أن يشوب حديثه بالمديح ولو عن طريق التواضع أو الإيماء أو التلويح، وفي هذا المديح دلالة على التسامح والتعالي من القائل، ومدعاة للاشمئزاز والنفور من القارئ والسامع. ولذلك لا يستساغ الحديث عن النفس إلا بضروب من اللباقة، وأفانين من اللياقة. •••
وترددت - أيضا - في نشره: ما للناس و«حياتي»؟ لست بالسياسي العظيم، ولا ذي المنصب الخطير، الذي إذا نشر مذكراته، أو ترجم لحياته، أبان عن غوامض لم تعرف، أو مخبآت لم تظهر، فجلى الحق وأكمل التاريخ. ولا أنا بالمغامر الذي استكشف مجهولا من حقائق العالم، فحاول وصفه وأضاف ثروة إلى العلم، أو مجهولا من العواطف - كالحب والبطولة أو نحوهما فجلاه وزاد بعمله في ثروة الأدب وتاريخ الفن - ولا أنا بالزعيم المصلح المجاهد، ناضل وحارب، وانتصر وانهزم، وقاوم الكبراء والأمراء، أو الشعوب والجماهير، فرضوا عنه أحيانا، وغضبوا عليه أحيانا، وسعد وشقي، وعذب و كرم، فهو يروي أحداثه لتكون عبرة، وينشر مذكراته لتكون درسا.
لست بشيء من ذلك ولا قريب من ذلك، ففيم أنشر «حياتي»؟
ولكن سرعان ما أجيب بأن عصر الأرستقراطية كاد يزول من غير رجعة، وينقضي من غير عودة. وأزهرت الديمقراطية فحلت محلها، ونشرت سلطانها، وتغلغلت حتى في الفن والأدب؛ كان الشعر في الشرق لا يعيش إلا في قصور الخلفاء والأمراء فعاش في الناس بعيدا عن القصور. وكانت أهم موضوعاته المديح وخير أساليبه المزوق المطرز، فصارت مواضيعه كل شيء إلا الإفراط في الزينة؛ وكانت الروايات التمثيلية في الغرب لا تتخذ موضوعها إلا من حياة الملوك والأمراء. ولا تعرج على شيء من حياة الفقراء، إلا لإضحاك الأغنياء. ثم دار الزمن دورته، فصار كل شيء موضوعا للرواية، كوخ الفقير وقصر الأمير، وعيشة المترف الناعم وعيشة المجهد البائس، والفلاحة في الحقل والأميرة في القصر - وقد كان المؤرخ إنما يؤرخ للخلفاء وأعمالهم، ومبانيهم وحروبهم وإقطاعهم، ومن اتصل بهم، وما صدر عنهم من فعل، وما روي لهم من قول، ولا شيء غير ذلك؛ ثم صار المؤرخ يؤرخ للشعب كما يؤرخ للسلطان. ويؤرخ الفقر كما يؤرخ الغنى، ويؤرخ الزراعة كما يؤرخ الإمارة - فحياة المغمورين مهمة كحياة المشهورين.
فلماذا - إذا - لا أؤرخ «حياتي» لعلها تصور جانبا من جوانب جيلنا، وتصف نمطا من أنماط حياتنا. ولعلها تفيد اليوم قارئا، وتعين غدا مؤرخا. فقد عنيت أن أصف ما حولي مؤثرا في نفسي، ونفسي متأثرة بما حولي.
نبتت عندي فكرة تاريخ حياتي، منذ أول عهد شبابي، فقد رأيتني أدون مذكرات يومية عن رحلاتي، وعن حياتي في الأسرة وأيام زواجي. ووجدتني أسجل في المفكرات السنوية أهم أحداث السنة، وما يسوء منها وما يسر، ولكن لم يكن كل ذلك عملا منظما متواصلا، بل كان يحدث في فترات متقطعة - ثم نمت الفكرة وشغلت بالي في العام الماضي، فكنت أعصر ذاكرتي لأستقطر منها ما اختزنته من أيام طفولتي إلى شيخوختي، وكلما ذكرت حادثة دونتها في إيجاز ومن غير ترتيب - فلما فرغت من ذلك ضممته إلى مذكراتي اليومية، ثم عمدت - في الأشهر القريبة - إلى ترتيبه وكتابته من جديد على النحو الذي يراه القارئ، من غير تصنع ولا تأنق.
والله هو الموفق
الجيزة 26 مارس (آذار) 1950
صفحه نامشخص