زندگی و جنبش فکری در بریتانیا
الحياة والحركة الفكرية في بريطانيا
ژانرها
وقد نتج عن تقدم العلوم التجريبية في أوروبا تقدم عظيم في الاختراع في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، فالعلم إن كان نورا يزيل الشك ويظهر الحقيقة، فهو في الوقت نفسه، كما يقول الإنجليز، قدرة تمكن صاحبها من التغلب على قوى الطبيعة، وقد رأينا فيما تقدم أن دراسة العلوم التجريبية في أوروبا إنما نشأت عن شغف بالمعرفة وحب الاستطلاع، وقامت على أيدي فلاسفة وعلماء همهم الأول الكشف عن حقيقة الكون والوصول إلى أسراره.
ولم يكن هؤلاء العلماء مدفوعين بالرغبة في التسلط على العالم أو التحكم في الطبيعة، ومع ذلك فقد أدت كشوفهم وما وصلوا إليه من المعرفة لقوانين الكون، أدى ذلك إلى تطبيق هذه العلوم في خدمة البشر، ففي القرن الثامن عشر اخترعت الآلة البخارية على أيدي
James Watt (1736-1819) وغيره من المهندسين والمخترعين، واستخدمت في الصناعة وفي النقل؛ فبدأ عصر جديد من عصور التطور البشري أساسه العلم والاختراع، وفي القرن الثامن عشر أيضا قام في أوروبا ما يسمى بالثورة الصناعية التي ليست بثورة تدمير يتقاتل فيها الناس وتسفك فيها الدماء وتستخدم فيها الأسلحة المهلكة، وإنما هي ثورة آلات من نوع آخر هي الآلات البخارية، وسائر العدد والأدوات المستحدثة التي دخلت في الصناعة، فحلت محل الأدوات البسيطة الابتدائية التي كانت تستخدم في العصور السابقة، وبذلك ازداد الإنتاج فازدادت الثروة، وأعيد تنظيم المجتمع على أسس جديدة، ومن المسلم به أن بريطانيا العظمى كانت زعيمة لأوروبا في الثورة الصناعية، وأن كثيرا من الممالك الأوروبية قد نقل عنها أساليبها ووسائلها في تقدم الصناعة، وقد نقل البريطانيون علومهم واختراعاتهم إلى بقاع كثيرة في الأرض كأستراليا وزيلاندا الجديدة وشمال أمريكا، فاستطونوا هذه البلاد، وألفوا فيها الجمعيات العلمية والمصانع، ونظموا حياتهم فيها على نمط الحياة في بريطانيا، وفي عصرنا الحديث نجد أن الجامعات التي نشأت في القرون الوسطى قد تقبلت العلم الحديث فأضافته إلى برامجها، ونجد أن هذه الجامعات قد تعددت حتى تكاد توجد جامعة في كل بقعة من بقاع الجزر البريطانية، وفي كل جزء من أجزاء إمبراطوريتها المتسعة الأرجاء، فهذه الجامعات التي نشأت كما رأينا تحت سلطة الكنيسة في القرون الوسطى قد تطورت مع الزمن حتى صارت عاملا من أهم عوامل التقدم العلمي والصناعي، والأكاديميات العلمية التي نشأت لأغراض فلسفية بحتة قد تعددت هي أيضا وتنوعت، وصار كل منها يرتبط بالحكومة وبالصناعة وبالمجتمع بأربطة قوية حية، وصار البحث العلمي ينقسم إلى قسمين رئيسيين: بحث علمي أكاديمي من نوع أبحاث السير إيزاك نيوتن، وهذا يرمي إلى إنماء المعرفة البشرية من حيث هي معرفة خالصة، وبحث صناعي أو تطبيقي يرمي إلى تقدم الصناعات وحل مشاكلها الفنية، وتطبق فيه النتائج العلمية على الاختراع وتحسين الآلات وزيادة الإنتاج، وأدرك رجال الصناعة ورجال العمل والمهندسون أن لا سبيل إلى تقدم صناعاتهم وأعمالهم إلا عن طريق تقدم العلم ذاته، فقام الأغنياء منهم أمثال السير
Alfred Yarrow
بمنح الجمعية الملكية أموالهم لتخصص للبحث العلمي المحض، وقد وهب السير ألفريد الجمعية 100000 جنيه إنجليزي يخصص ريعها لإنشاء خمسة أستاذيات للبحث، لا يطالب من يمنحها بأكثر من الاستمرار في بحثه العلمي، وقامت الحكومة البريطانية منذ عام 1920 بمنح الجمعية الملكية مبلغ 6000 جنيه سنويا تخصص للبحث العلمي، كما رصدت في ميزانية الدولة إعانات كبيرة لكل من جامعتي أكسفورد وكمبردج ولكثير من الجامعات الحديثة كجامعة لندن دون أن تتطلب الحكومة من هذه الجامعات أي تغيير في نظمها أو وسائلها، وليس هذا إلا قليلا من كثير مما وقف في بريطانيا وسائر أنحاء البلاد البريطانية على العلم والبحث العلمي، فمن مكافآت تخصص للمتفوقين من الطلبة في الجامعات وإعانات مالية للباحثين من العلماء ومن ميداليات وجوائز سنوية تمنح تقديرا للإنتاج العلمي، وغير ذلك من وسائل التشجيع والتعضيد.
سبقت الإشارة إلى دور جامعتي أكسفورد وكمبردج أو أروقتها
Colleges
وما كان لها من أثر في تطور الحياة العلمية والاجتماعية في هاتين الجامعتين، وأن الذي يزور هذه الدور ويلمس الحياة فيها ليشعر بهذا الأثر واضحا، فالتقاليد الموروثة عن القرون الوسطى وعقلية هذه القرون من احترام للقديم ومحافظة على التقليد، كل هذه تكاد تلمس في دور أكسفورد وكمبردج، وتعدد هذه الدور ينشئ مجالا للتنافس بينها، التنافس في العلم والتنافس في الرياضة البدنية والتنافس في المحافظة على مستوى عال من السمعة وحسن الشمائل، ثم إن وجود جامعتين متناظرتين متنافستين مثل أكسفورد وكمبردج كان له أبعد الأثر في تقدم الحياة الفكرية والاجتماعية في إنجلترا، بل وفي سائر أنحاء البلاد البريطانية، وسباق التجديف الذي يعقد سنويا بين جامعتي أكسفورد وكمبردج على نهر التيمس إنما هو رمز على التسابق بين الجامعتين في جهودهما المختلفة، وربما ظهر لأول وهلة أنني أقحم الخلق في محاضرة علمية، وأن لا علاقة بين تكوين الخلق في الجامعات البريطانية وبين تقدم العلم، إلا أن هذه النظرة السطحية نظرة، ولا شك، خاطئة؛ فالعمل في الميدان العلمي كالعمل في أي ميدان آخر يتطلب صفات نفسية وخلقية لا نجاح له بغيرها، وإنني أذكر أنني كنت أزور مرصد جرنتش القريب من مدينة لندن بإنجلترا، وهو المرصد الرئيسي في تلك البلاد، وكان مدير المرصد في ذلك الوقت
Sir Franck Dyson
يصحبني في هذه الزيارة، فأراني المنظار الذي يرقبون به النجوم في مستوى الزوال، وأخبرني أن هذا المنظار قديم يرجع صنعه إلى نحو مائتي سنة، ثم ذكر لي أن بعض المراصد في أمريكا قد جهز بمناظير حديثة الصنع يستطيع الراصد بها الضغط على زر كهربائي أن يحرك أرض الغرفة التي يرصد منها أو وضع الكرسي الذي يرصد عليه، بحيث لا يجهد جسمه ولا عضلاته في عملية الرصد، في حين أن الراصد في جرينتش مضطر إلى اتخاذ أوضاع جسمانية مجهدة وغير مألوفة، كأن يستلقي على ظهره مثلا ليتمكن من عملية الرصد، وقد ذكر لي السير فرانك هذه الحقيقة بشيء كثير من الفخار والزهو على المراصد الأمريكية؛ إذ هو على حد قوله يستطيع في جرينتش بآلته العتيقة أن يصل في الرصد إلى نتائج لا تقل دقة وإحكاما عما تصل إليه المراصد الأمريكية بآلاتها الحديثة، وأظنكم تسلمون معي أن هذا الخلق الذي ينطوي على روح التغلب على الصعاب خليق بأن يكون له أكبر الأثر في نتائج البحوث العلمية.
صفحه نامشخص