حیات شرق
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
ژانرها
وكانت غاية المصري أن يعيش لشهواته في هذه الحياة وأن تستمر تلك الشهوات مع ما يحيط بها من التمتع حتى بعد الموت وما وراء القبور، فانصرفت همة الفراعنة والمهندسين ورجال العمارة إلى تشييد تلك الآثار من أهرام وغيرها وتزيينها في سبيل الموت وبقاء الجسد، وما غايتهم من تلك المباني المشيدة والحصون التي تناطح السماء وتحارب الدهور إلا الاحتفاظ بالأجساد المحنطة وصيانة الحلي والجواهر والتحف التي أودعوها قبورهم.
ولم يغب عن ذهن الناقدين لتاريخنا أن الأمم التي تغنيها الطبيعة وتوفر لها جميع مطالبها المادية هيهات أن تتطلع إلى شيء من صنوف المجد الذي تتطلع إليه الأمم الفقيرة المدفوعة بحكم الطبيعة إلى الجهاد والعمل.
فإن الطبيعة السخية في قطر من الأقطار تمنع أبناءه عن البذل وتوفر عليهم الجهود، لأن الفرد الإنساني إنما يبتكر ويتحايل ويتفنن في حالة الحاجة والعوز، إنما إذا لم يكن معوزا ولم يكن تنقصه مطالبه المادية فهو بمثابة رب المال الذي يعيش من إيراده، فما عليه إلا أن يمد يده ليقتطف ثمار الأرض الغنية. وترى الرجل الذي لا يؤمل ربحا سريعا مباشرا في بلاد أرضها خصبة لا يمد يده للعمل، أما الرجل الذي يعيش في واد غير خصيب أو في أرض جبلية فهو يرى صعوبة العمل ولا يرجو النتيجة إلا في المستقبل فيبدأ بالاجتهاد، فلذا كان غنى الأقطار من البلاء على أهليها في بعض الأحيان.
لقد خلق الرجل ليجدد ويخلق ويبتكر ويوجد مثلا عليا حيث لا توجد، فإذا ما كانت الطبيعة سخية خصبة يمسي الرجل الذي هو الزعيم والمقدم بين مخلوقاتها وهو لا يزيد عن أحد خدامها وكأنه جزء ضئيل في آلة صناعية مهولة لا رأي له ولا إرادة، وبالتدريج تبطل مواهبه وتتعطل فيعود فردا عاديا عاملا كالرقيق.
ولا يقتصر الجمود والعقم على ذكاء الاستثمار المادي بل يتعداه إلى الفنون فتجدب أرضها أيضا وتفتقر العقول فلا يظهر شاعر ولا كاتب ولا مصور، وتبقى تلك الفنون النفيسة وقفا على فريق صغير من الأغنياء الذين لديهم من المال والأرزاق ما يضمن لهم فرص الفراغ يتلهون فيها بالفنون، ولكن هؤلاء مهما بلغت ثروتهم ومهما أنفقوا من ملايين فلا يصلون إلى شيء ذي قيمة من الفنون فإن العبقرية الأدبية والفنية لا تبيع نفسها بالمال.
غير أن زيادة الغنى ليست وحدها هي التي تقضي على العقول والمواهب، بل إن الفقر أيضا يقضي على العقول والمواهب ويقبرها، وأن بقاء الحكم في أيدي فرد أو جماعة يرهقون الشعب إرهاقا مستمرا في سبيل الحصول على المال سوف يعقبه العقم العقلي.
ولقد كانت المدن المصرية ملكا للأغنياء ولا يؤمها الشعب الذي انقطع لخدمة سادته في الحقول، فكانت المدن المصرية أو المكسيكية (لشدة الشبه بين المدنيتين) مظهرا للثراء والأبهة، ولم تكن فيها طبقات من الفقراء إلا مسخرين في خدمة مواليهم.
أما المدن التي تأسست في ممالك أخرى ولم تكن الطبيعة قد حبتها من الخصب ما تمتعت به بعض المدن الشرقية في التاريخ القديم، فقد كانت على فقرها السابق مصدرا للنور في العصور الحديثة، لأن فقرها وفقر سكانها أعدهم للنجاح في الجهاد وجعلهم مصدرا للأفكار الوهاجة التي دفعت بالإنسانية إلى الأمام، لأن الجهاد والكفاح قد دربا أهل تلك المدن وفتحا لهم الطريق فكانت تلك المدن مصدر المدنية الحديثة سواء مباشرة أو بالواسطة، وإليك أمثلة: أثينا ورومة وأورشليم ومكة وفلورنس وباريس.
الكفاح الاقتصادي والاجتهاد
وإنك إذا رجعت إلى حقارة الأجور التي يتناولها العامل المصري وقارنتها بالأجر الذي يتقاضاه العامل الإفرنجي في مصر ذاتها وفي العمل نفسه؛ سمعت من يقول لك، وقد يكون المجيب مصريا: «كيف تنتظر أن يستوي المصري والأجنبي في الأجور؟ هل غاب عن فطنتك أن العامل المصري يأكل الفول والطعمية ويلبس الخلقان ويعيش في كوخ أشبه بقن الدجاج، في حين أن العامل الإفرنجي يأكل اللحم والبقول ويشرب النبيذ ويلبس السراويل والقبعة، ويعيش في بيت محترم وله زوجة وأولاد؟»
صفحه نامشخص