حیات شرق
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
ژانرها
لقد هاجت أوروبا في الحرب العظمى وتبعت هواها وعواطفها، فعادت الحرب عليها بالدمار، ولكن الاستعمار كاد ينقذها لأن ما خسرته من المال والرجال عوضته بالمستعمرات الجديدة في الشرق.
لقد تحطمت المثل العليا في الشرق وذهبت مظالم الفراعنة بذهابهم وتبعتهم سلطة الكهنة في الهياكل والمجالس، فانهد ركن الاستبداد الملكي والديني، وليس في ديننا خضوع للعلماء الذين هم حفظة كتب ونصوص وليسوا رقباء على ضمائرنا، وشيئا فشيئا تتهدم نظم الأرستقراطية ويستحيل عليها أن تحكم الأمم، ولن تخضع الشعوب لأرستقراطية من المدعين العظمة بالميراث أو بالمال، وربما خضعت لأرستقراطية العقل والذكاء والحكمة.
لقد كان لويس الرابع عشر يقول: «أنا الدولة»، وكان البابا جريجوار السابع يقول: «أنا بابا وإمبراطور»، وكان شارل الأول يقول: «أنا ملك بأمر الله»، كما قال الفاطمي التائه: «أنا الحاكم بأمر الله» وكما قال فرعون: «أنا ربكم الأعلى.» ولكن هذا الحق الذي كان يظن أنه مقدس قد حل محله حق الشعوب في حكم نفسها، وحلت سلطة الأمم محل سلطة الملوك، وصارت الأمة مصدر السلطات كلها، وتأبى الديمقراطية أن تخضع لغير ذاتها في أوروبا.
لا تزال في العالم سلطة قاهرة للمال، وهي نوع من الأوليجارقية أو حكومة الأشرار التي بينها أرسطو في سياسته، ولكن هؤلاء الأشرار أو هؤلاء الحاكمين بأمر المال قد استبانوا أنهم لن يستطيعوا الحكم بغير إشراك الدهماء معهم، وهم الذين يشيدون ملكهم الحقيقي بعرق جبينهم، وقد قلت أسباب التفاوت بين ابن الأمير وابن الصعلوك، وأصبح الفقير إذا أراد أن يتعلم يكفيه أن يقرأ الكتب فتفتح أمامه أبوابا كانت فيما مضى مفاتيحها من ذهب، وقد علم الكثيرون من أبناء الشعب أنفسهم فصاروا في مصاف العظماء وحكموا العالم ، ومنهم وأقربهم مثلا رامزي مكدونلد رئيس حكومة إنجلترا، وأصله صحفي وأستاذ مدرسة، وإدوار هريو رئيس حكومة فرنسا سابقا، وشتريسمان وهو ابن خمار كان يبيع الجعة في إحدى الحانات، وهردنج ومكنلي وإديسون وبريان وسنودون ولويد جورج وقد رباه إسكاف وهو عمه وهذا من مفاخره ... وعشرات مثلهم، قبضوا على زمام العالم في الحرب والسلم، وسيروا الأمم في طرق النجاح، ولم يكن يخطر ببال أحد منذ مائتي عام أن مثلهم ينبغون ويسودون الأمم بمحض كفايتهم وأخلاقهم بدون انتساب إلى الأصول العريقة أو جريان الدماء الزرقاء في شرايينهم. وهذا كله بفضل إباحة العلم للجميع وتيسير طلبه، فصار ابن الملاح والعلاف في وسعه أن يبلغ في العلم شأو أفلاطون أو كانط، وهذا الإسلام يأمر بالمساواة بين الناس ولا يفضل أحدا على أحد إلا بالعلم والتقوى. ولما كان معظم أهل الشرق من العامة والدهماء فهؤلاء لا يزالون كنزا دفينا يخرجون للعالم مئات الألوف من النوابغ النافعين في الحرب والسلم والعلم والاختراع، ولا ينقصهم إلا عدل النظام الاجتماعي الذي يكفل ظهورهم ونجاحهم والانتفاع بهم. ولو أن رجال السياسة الذين فكروا طويلا في أنظمة الحكم صرفوا بعض وقتهم وقليلا من همتهم في التفكير في إنهاض العوام والمتوسطين في الشرق، كان لهم من نهضتهم خير نظام وخير ضميرة للمستقبل، وقد آن للمصلح الشرقي أن يدرك حقيقة الحال وهي أن إشراك الطبقات الصغيرة في الحياة العامة أصبح أمرا واجبا.
الطبقات الاجتماعية
إن الأمم في الشرق والغرب أيضا لن تنهض على أكتاف الطبقة الغنية أو الطبقة التي تسمى عالية، بل على الطبقات الوضيعة والمتوسطة، والأمة التي تهمل الوضيع والوسط سوف تبني على الرمل، وكل بناء على الرمل ينهار. لقد مضى الوقت الذي كانت الأرستقراطية تسقط الفقراء من حسابها، وأصبحنا في زمن لهؤلاء الفقراء فيه مكان مهم، لأن الفقراء إذا أهملوا كانوا شوكة في جنب الأمة، وربما هدموا البناء الذي يشيد بدون معونتهم. إن الفقراء والأغنياء إخوة ومتساوون، وهؤلاء الفقراء محتاجون إلى النور والهواء والغذاء والتعليم وإلى قسط من الهناء في الحياة . إن قرية الفلاح ومصنع العامل لا تقل عند الله - سبحانه وتعالى - عناية عن قصر الغني أو مكتب المدير المتمول، لأن الله يحب الجميع.
وإذا كان البائس لا يحصل على أجره الكافي لحياته هو ومن معه فإنه يهلك، وإن هلك هلك معه الآخرون من أهله، وإن هو فقد عمله وتعطل صار عبئا على المجتمع وعالة على غيره، وهو في الغالب ليس خاليا، بل في عنقه جماعة من الأطفال والنساء ذوي الحاجة الملحة إلى الطعام والكساء والغذاء والمسكن. إن الممالك الكبيرة والإمبراطوريات الضخمة والجمهوريات القوية والدول الصغيرة مهما كانت تلهيها قوتها الجندية أو البحرية وثروتها المادية ذهبا كانت أو خصبا، ومهما كانت مواهبها في العلوم والمعارف؛ غير عاجزة بإذن الله عن إيجاد النظام الاجتماعي الذي يكفل سعادة الأفراد بغض الطرف عن المطامع، وقد تحكمت في أوروبا أولا وفي الشرق ثانيا تلك المطامع الشخصية، وتلك الأنانية القتالة، وتلك الشهوات الفردية التي قضت على العالم القديم وتوشك أن تقضي على العالم الجديد. ولو أننا عذرنا الأمم الأوروبية، أستغفر الله! لو أننا أدركنا حقيقتها وفهمنا أسباب حالتها، فأي عذر لنا وأي تعليل لحالتنا التي نعانيها في انقسامنا وتحزبنا وانشغال كل من رجالنا بمصالحه الشخصية عن المنفعة العامة؟
ليس لدينا قوتهم ولا مالهم ولا علومهم ولا حريتهم ولا فضائلهم، ولكن لدينا نقائصهم ورذائلهم التي كان ينبغي لنا أن نتنزه عنها ونخلص منها.
انظر إلى أي درك وصلت أمة عظيمة كدولة فرنسا الجمهورية بسبب المال، إنها بعد الحرب استردت ثروتها بغاية السرعة وصارت اليوم أغنى دولة في العالم بمقدار الذهب الذي تملكه في خزائنها.
أتدري ماذا حل بها؟
صفحه نامشخص